رأىسلايدر

بو رقيبة..العظماء لا يموتون!

استمع الي المقالة

بقلم: د. حذامى محجوب

منذ 20 سنة وفي 6 أبريل 2000 التحق الحبيب بورقيبة بالرفيق الأعلى، أول رئيس للجمهورية التونسية ، هذا الزعيم الذي نجح في توحيد التونسيين ، زعيم قاد النضال الوطني ، أسس الدولة الحديثة وأسس لبلاده مكانة متميزة بين الأمم.

* البورقيبية!

بعد عشرين سنة من وفاته، عاد بورقيبة والبورقيبية بقوة في تونس أكثر من أي وقت مضى ،ليس بفضل غالبية الأحزاب التي تشكل المشهد السياسي والذين يدعون أنهم حماة تراث محرّر تونس وباني الدولة الحديثة، ولكن بفضل أولئك الذين رأوا فيه القيادة السياسية السليمة والرؤية الاستشرافية الصحيحة.

*المأسوية.. والمجيدة!

ان هذه الذكرى هي أيضًا فرصة للعودة إلى النهاية المأساوية لرجل خدم بلاده لكنه مات وهو تحت الإقامة الجبرية. في الواقع ،كانت حياته صاخبة بالأحداث المأسوية والمجيدة في نفس الوقت. لم يكن القدر سخياً مع بورقيبة. كانت السجون والمحاكمات هي التي نسجت في جانب كبير منهاشخصيته ،وكانت نتائجها وخيمة على صحته : فقد أصيب سنة1967 بقصور في القلب ، وفِي سنة1969: بالتهاب الكبد الفيروسي ، وفِي سنة 1970 بالانهيار العصبي.

* لا ينثنى!

لن نعود هنا إلى التجارب القاسية، التي تحملها بشجاعة وأنفة ، تلك التي حدثت سنة 1936، والمتعلقة بسنة 1938 وسنة 1952 ، والتي كان الحزب الدستوري الجديد يخرج منها دائمًا أقوى. لن نعود إلى عمليات الاعتقال والسجن والترحيل والمنفى المتعددة لهذا “المناضل الذي لاينثني”. ولكني سأعود إلى لحظته السياسية واستراتيجيته التنموية التي جعلت حكمه خلال ربع قرن ينهض ببلد نهبه الاستعمار طوال 75 سنة ، بلد عرف خلال حكم بورقيبة تطوراً استثنائياً.

* الجهاد الأكبر!

تسلم بورقيبة السلطة في 1956 ووجد نفسه قبالة شعب يشكل سكانه أكثر من 80 ٪ من الأميين، يواجهون مصيرهم ، مع هشاشة النسيج الاجتماعي المتكون من سكان المدن والقرى ، مجتمع تحكمه العشيرة والقبيلة خاصة في الأرياف ، لكن بورقيبة لكي يجعل البلاد على طريق التنمية ، لم يكن لديه خيار سوى تحمل المسؤولية. اعتقادًا منه بأن ثروة الدولة تكمن في قيمة مواطنيها ، بمجرد حصوله على الاستقلال ، دفع تونس ضمن حركة اجتماعية ثقافية واقتصادية غير مسبوقة. تحول الرئيس ، بكل لباقة، إلى معلم حقيقي، حيث تعمد الى القاء خطابات اذاعية وتلفزية ، تبث دروس الحياة الى الشعب بلغة واضحة ويسهل على الجميع فهمها . واعتبر أن النضال من أجل بناء الدولة هو “الجهاد الأكبر”، بـالمقارنة مع ” الجهاد الأصغر ” الذي خاضه من أجل الاستقلال. كانت له شخصية كاريزماتية ، وشرعية تاريخية وبُعد نظر فرضه كزعيم دون منازع. في الحقيقة ، حياته فريدة كحياة كل العظماء الذين مروا على تونس كحنبعل ، ويوغرطة ، القديس أوغسطين وابن خلدون.

* عبدالناصر قيفارا!

جمع الحبيب بورقيبة في شخصيته حماس جمال عبد الناصر ونجاعة تشي قيفارا ، ومثابرة تيتو ومكر بوتو ، وبيان ديغول وواقعية هيلموت شميت ،وثقافة سنغور. كان يبدو في بعض الأحيان كالساحر الذي يدهش كل من حوله ، وأحيانًا عقلانيا بصرامة فائقة وكأنه آلة حاسبة.

* شخصية ملحمية..شاعرى.. مستبد!

يبدو في بعض الأحيان مغنيًا كالشاعر وأحيانًا مستبدا مثل روبسبير. يقرأ أبو القاسم الشابي والدوعاجي، لكنه ينهل من حضارة أوغست كونت، ويتابع أحدث الدراسات العلمية. ينتقي من التقاليد القديمة أجملها فتحسبه تقليديا محافظا عندما تراه في الأرياف مع العشائر والقبائل . يحب الطبيعة في جميع تجلياتها، يعشق البحر والصحراء وواحاتها ويستمتع بصعود الجبال. تراه مصارع في قلب المعارك ولكنه يميل في أوقات أخرى الى العزلة.

انه فعلا شخصية ملحمية. لقد فرض على نفسه نمط حياة مرهق . وتعامل مع الرئاسة كمسؤولية عظمى، فما فتئ يفتح الآفاق لبلاده، تجول في جميع أنحاء العالم. تم استقباله كزعيم كبير في واشنطن من قبل جون كينيدي. التقى بعبد الناصر في القاهرة ، وولد دادة في نواكشوط ، وبومدين في الجزائر العاصمة. التقى كثيرا بسنغور ، في هوفويت بوانيي ، عند تيتو. زار النيجر والكاميرون وتركيا والمملكة العربية السعودية والتقى بالملك فيصل، جاب الشرق الأقصى. ذهب إلى لندن وجنيف وحتى أوتاوا. وربط علاقات حتى مع فاتيكان يوحنا الثالث والعشرين.

*رهن الإقامة الجبرية!

لكن بعد كل هذا العمل والجهاد طيلة 32 سنة في السلطة ، تم عزل الرئيس بورقيبة من قبل رئيس الوزراء في ذلك الوقت ، بن علي . عند تحول 7 نوفمبر 1987 ، رفض بورقيبة مغادرة قصر قرطاج إلى دار الهناء في صفاقس . في 9 نوفمبر ، بعد قبول إقامة مرناق ، ذهب إلى هناك في 10 نوفمبر بطائرة هليكوبتر ، يرافقه حمادي غديرة ، وطبيبه الشخصي عمر الشادلي ،وضع بورقيبة تحت الإقامة الجبرية وحراسة أمنية مشددة.

* شكوى!

بعد ثلاث سنوات من عزله من قبل بن علي ، قام بورقيبة ، وهو في سن متقدمة جدا ، بتحرير شكوى بنفسه يوم الجمعة 2 فبراير 1990، لدى المدعي العام، ضد بن علي ، الرئيس الذي حبسه على غير وجه حق خوفا من شعبيته وتعاطف الناس معه. طلب بورقيبة في هذه الرسالة بأن يحاكم ان هو اقترف جرما في حق تونس أو لأي تهمة أخرى، كما طلب بورقيبة من المدعي العام استدعاءه من أجل تقديم المزيد من التفاصيل وتقديم الصور والوثائق الداعمة. “أنا محتجز في اقامة الوالي (…) ، ولا أستطيع الخروج منه إلا بموافقته ، ولا أستطيع استقبال أفراد عائلتي (…). صحيح ، أنا أستفيد من مرافق الإقامة والتموين ، لكن لا يمكنني حتى الخروج “. وطلب بورقيبة مغادرة هذا المقر المنعزل وطالب بحقه في الحرية: “أريد أن ألتقي بأصدقائي وجميع سكان المنستير”. وأصر على طلبه لعقد جلسة استماع ، لكي تكون فرصة لعرض قضيته على الرأي العام. تم العثور على هذه الوثيقة في أرشيف الرئاسة بعد 2011، لكن هذه الرسالة لم تكن الرسالة الوحيدة الموجهة إلى الرئاسة لطلب الإفراج عنه . لقد وجه جورج عدة، وهو زعيم من زعماء الحزب الشيوعي التونسي ، رسالة إلى بن علي في 4 نوفمبر 1997 ، دعاه فيها إلى الإفراج عن بورقيبة باعتباره محررا لتونس من الاستعمار ومؤسس الجمهورية التونسية.

* سجين الحرية!

“اليوم، أشعر بالأسى عندما أرى أحد زملائي في معسكرات الاعتقال القديمة في بلدي هو أكبر سجين الحرية في العالم. يحزنني أن أرى أن المجاهد الأكبر ليس حراً في تونس وليس، قريب من عائلته ولا بين أحفاده. رجاء، سيدي الرئيس ، امنح الحبيب بورقيبة الحرية الكاملة. ستقدم خدمة رائعة لتونس ، التي لا نريدها أن تكون البلد الذي يعيش فيها الزعيم المسن أكبر حظر على الحرية “.

6 نيسان 2000!

كما أن محمد الصياح لم يتردد عن المطالبة برفع الإقامة الجبرية على بورقيبة. اذ بعث رسالة في 25 أبريل 1990 إلى بن علي ، كتب فيها: “أتجرأ ، بعد إذنك ، أن أنتهز هذه الفرصة لأرسل إليك رسالة متفائلة لكي تعطي تعليماتك لوضع حد لعزلة زعيمنا في أقرب وقت ممكن والسماح له برؤية جميع الذين يشعر بالراحة معهم ويرغب في مقابلتهم ” .ومع ذلك ، استمرت عزلته، وبقي بورقيبة في منفاه تحت المراقبة حتى وفاته في 6 أبريل 2000 ، عن عمر يناهز 99 عامًا.

* العظماء.. لا يموتون!

أثارت جنازة الزعيم حسرة ومرارة في نفوس التونسيين الذي حرموا من توديعه الى مثواه الأخير. ولأن العظماء لايموتون ، فان الحبيب بورقيبة لم يمت في قلوب التونسيين.

يقول الشاعر:

” المرء بعد الموت أحدوثة … يفنى و تبقى منه آثاره

فأحسن الحالات حال امرئ … تطيب بعد الموت أخبــاره”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى