بقلم: السفیر ناصر کنعانی
رئیس مکتب رعایة مصالح الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة – مصر
من وجهة نظر أبرز الخبراء السیاسیین والدولیین أن موازنة القوى العالمیة فی طور التغیر نحو المحور الشرقی، وتغیر موازنات القوى لصالح الشرق لم یبدأ بالنهضة الصینیة و عالمیتها أو باستعادة روسیا لقوتها وظهور قوى حدیثة أخرى فی الشرق مثل إیران والهند أو حتى تشکیل تحالفات وإبرام المعاهدات الجدیدة مثل معاهدة شانغهای أو اتفاق التعاون الإستراتیجی بین الصین وروسیا، بل الجزء الأهم فی الموضوع هو السیر الأفولی لنجم الغرب، حیث عملیة الأفول التی تُعانی منها القوى الغربیة هی عملیة حقیقیة ومستمرة ولا یُمکن تجنبها، بل هی عملیة طبیعیة أیضًا نتیجة السلوکیات غیر الأخلاقیة وغیر الإنسانیة التی ینتهجها الغرب فی تحرکاته وعملیاته الدولیة.
هناک الکثیر من التحدیات التی تواجهها أمریکا، حیث أجبرت هذه التحدیات أمریکا على عدم الترکیز على الموضوعات الإستراتیجیة الدولیة وخاصة فی منطقة غرب آسیا وشمال أفریقیا، فقد فشلت الأجندات العسکریة الأمریکیة فی العراق وأفغانستان ولیبیا وسوریا وغیرهها، وهذه الهزائم قد أثبتت للجمیع فشل أمریکا فی متابعة أهدافها الإستراتیجیة، لم یعد أمام أمریکا الآن سوى استخدام أداة العقوبات ضد أعداءها ومنافسیها، وهی الأداة التی استطاعت إیران الخروج من تحت طائلتها مُنتصرة على الرغم من جمیع الصعوبات المریرة وجمیع المساعی الأمریکیة وضغطها على بقیة الدول من أجل اتباع هذه العقوبات، إن التجربة الإیرانیة فی إفشال العقوبات الأمریکیة قد أظهرت مدى فشل فعالیة أداة العقوبات أمام العالم بل وجعلت الکثیر من الحکومات والشعوب تکتسب المزید من الثقة بالنفس لمواجهة مثل هذه الظروف، وفی الوقت الحالی تنظر روسیا إلى تجربة إیران الناجحة ولا تُلقی بالًا لحجم العقوبات الأمریکیة-الأوروبیة الواهیة وهی مستمرة بقوة فی متابعة مصالحها والدفاع عن أهدافها الإستراتیجیة ضد الضغط الأمریکی والأوروبی.
فی الوقت الحالی یعلم حلفاء أمریکا فی منطقة الخلیج الفارسی أکثر من أی وقت مضى أن الاعتماد المحض على أمریکا لا یؤمن لهم الاقتدار ولا الأمان فی مواجهة التهدیدات التی تواجه أمنها القومی، وعلى الأقل فقد أدرکت السعودیة ذلک تمامًا خلال حربها التی استمرت 7 سنوات ضد الیمن.
وهنا نرى أیضًا أن اعتماد أوکرانیا على أمریکا وأوروبا وانفصال أجزاء من أراضیها لهو عبرة أخرى ودرس لمن یرید الاعتبار من الاعتماد على الغرب بدلًا من الترکیز على القدرات الوطنیة وعمل علاقات حکیمة ومتوازنة إقلیمیًا، کما أن آخر التصریحات التی أطلقتها المتحدثة الرسمیة باسم البیت الأبیض حول آخر التطورات فی أوکرانیا لهی مثال واضح وصریح على مدى دعم أمریکا لحلفائها، “نحن لن ننجر إلى حرب مع روسیا ولن نُرسل قوات للحرب فی أوکرانیا، بل سنخطو خطوات أخرى”. وبهذا فإن المتحدثة باسم البیت الأبیض تُفهم حلفاء أمریکا ألا یرفعوا سقف طموحاتهم حول مدى الدعم المُنتظر من أمریکا.
یجب أیضًا على الدول المتوسطة والصغیرة فی العالم ألا یطمحوا ویأملوا کثیرًا فی أوروبا، فإن أوروبا نفسها قد مرت بتجربة حربین عالمیتین مدمرتین ولم تستطع دعم اقتصادها و أمنها سوى بالدعم الاقتصادی والعسکری الأمریکی، لذا فلن یکون بإمکان أوروبا تقدیم دعم محوری لحلفائها فی ظل الظروف الصعبة، أوروبا هی صدیق فی فترة السلام من أجل متابعة مصالحها الاقتصادیة والسیاسیة، أما فترات الحرب والتحدیات الجیوسیاسیة فلا یُمکنها أخذ خطوة محوریة دون الرجوع لأمریکا، وهذا فی الوقت الذی نرى فیه أن الآلة العسکریة الأمریکیة قد عطبت منذ سنوات، وعلى الجانب الآخر نرى أن الاقتصاد الأوروبی لا یُمکنه تحمل الضغوطات الأمریکیة والمزید من التوتر مع روسیا، وهناک أبعاد أخرى وشواهد ودلائل تُظهر بوضوح أن الغرب وعلى رأسه أمریکا قد هُزم فی ادعاءه الذی یدور حول قیادته لدول العالم، کما أنه قد فقد صلاحیته السیاسیة والأخلاقیة، لذا فإن الحکمة والنظرة الصحیحة للمستقبل یستلزمان من کل من یسیر فی مسار الحرب والأزمات الأمنیة والعسکریة – وخاصة أولئک الموجودین فی قلب التنافس بین القوى وبعضها – ألا یطمحوا کثیرًا ویأملوا فی الدعم الأمریکی والأوروبی.
فی منطقة الشرق الأوسط – وهی البیت المشترک للشعوب الأصیلة وذات الحضارة فی المنطقة – یوجد بعض من قادة الدول قد قرروا خلال العامین الماضیین أن یُعوضوا ضغف الدعم الأمریکی وانسحابها التدریجی من المنطقة باللجوء إلى أحضان الکیان الصهیونی والسلام الدافئ معه! هذا فی الوقت الذی نرى فیه الکیان الصهیونی نفسه عاجزًا عن حمایة نفسه، حیث بعد معرکة سیف القدس – التی غیرت الموازنات العسکریة الإستراتیجیة داخل الأراضی الفلسطینیة المحتلة لصالح الشعب الفلسطینی وحرکات المقاومة – أصبحت حرکات المقاومة الشعبیة تقوم باختبار دقة وبُعد صواریخها أمام أعین وأنظار هذا الکیان فی قطاع غزة وبینما الکیان الصهیونی یبحث عن متنفس معیشی له فی المناطق الأخرى، فقد أصبحت فناءه الفارغ فی قطاع غزة والضفة الغربیة وحتى داخل الأراضی المُحتلة منذ 1948م تحت رحمة قوة الفلسطینیین المتنامیة وغیر القابلة للإقصاء، وهنا یظهر “بیت العنکبوت” بمعناه الحقیقی والواضح،
لا یفرحنَ المسئولون الصهاینة ولا یحدوهم الأمل بعملیة التطبیع مع بعض الدول العربیة، فهذا التطبیع الرسمی مع الأنظمة العربیة لن یحل مشاکل هذا الکیان مع العالم العربی والإسلامی، فلم تعترف شعوب المنطقة أبدًا بهذا الکیان ککیان مشروع داخل المنطقة ولم تتعاطف معه بأی شکل من الأشکال، لذا فإن عملیة التطبیع الرسمیة آیلة للسقوط والانهیار فی أی وقت، کما أن الکیان الصهیونی لم ینس إغلاق سفارته فی طهران وتسلیمها للفلسطینیین.
إن الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة وفی حکومتها الثالثة عشر برئاسة سید إبراهیم رئیسی تؤکد أکثر من أی وقت مضى أن علاقاتها وسیاستها مع دول الجوار تحظى بالمقام الأول فی أولویاتها، وهی تمد ید الصداقة بکل عزة نفس نحو دول المنطقة، وقد أکد ذلک وزیر خارجیة الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة حسین أمیر عبداللهیان حینما قال مؤخرًا: “لا یوجد أی حل للأزمات الإقلیمیة سوى التفاوض والتعاون، ولا یوجد نتیجة للتنافس سوى الخراب وضیاع الثروات الإقلیمیة، لا تستطیع دول المنطقة أن تنال أمنها من خلال انعدام الأمن لدى الآخرین”.
إن الاستقرار والأمن المستدام فی المنطقة والتنمیة الاقتصادیة یتأتى فی ظل التعاون الإقلیمی والاعتماد على التعاون الإقلیمی الجماعی، وتحمل حکومات المنطقة مسئولیة تاریخیة أمام مستقبل شعوبها، لذا یجدر بالنخب السیاسیة والاقتصادیة المخلصة تذکیر صانعی القرار بهذه الضرورة.