إقتصادسلايدر

دبلوماسية دول مجلس التعاون الخليجي وآسيا الوسطى، أنموذج لتعزيز العلاقات الإقليمية والدولية

استمع الي المقالة

بقلم: عليشار قديروف

رئيس قسم معهد الدراسات الاستراتيجية والإقليمية التابع لرئيس جمهورية أوزبكستان

يولي مجتمع الخبراء الدولي اهتمامًا خاصًا لتحول دور الدبلوماسية الإقليمية في العالم الحديث. وأصبح الحوار الدبلوماسي بين مختلف المناطق أداةً أساسيةً ليس فقط لتعزيز العلاقات الدولية، بل أيضًا لمعالجة المشكلات العالمية بفعالية في سياق تنامي الترابط بين الدول.

في هذا السياق، يُمثل نموذج التعاون بين مجلس التعاون الخليجي وآسيا الوسطى نموذجًا فريدًا للتفاعل بين المناطق. وتكمن خصوصية هذا النموذج في أنه يجمع بين منطقتين مهمتين جيوستراتيجيًا، لكل منهما خصائصها التنموية الخاصة، مع ترابطهما التاريخي والثقافي والديني الوثيق.

المنظور التاريخي للعلاقات الدبلوماسية

شهد التفاعل بين آسيا الوسطى وشبه الجزيرة العربية، الممتد على مدى ألفي عام، تحولاتٍ هامةً عديدة.

أنشأ طريق الحرير العظيم، الذي ظهر في القرن الثاني قبل الميلاد، أول نظام للتواصل الاقتصادي المستدام بين المناطق. وشكّلت دول آسيا الوسطى نقاط عبور رئيسية لتبادل البضائع، من الحرير الصيني وورق سمرقند إلى العطور والمجوهرات العربية.

وأضاف انتشار الإسلام في القرن الثامن بُعدًا روحيًا وفكريًا لهذا التفاعل. وأصبحت مدن مثل سمرقند وبخارى مراكز علمية في العالم الإسلامي. وأنتج علماء بارزون من آسيا الوسطى، مثل البخاري والخوارزمي وابن سينا، أعمالًا أصبحت أساسًا للحضارة الإسلامية بأكملها.

ومنذ القرن السادس عشر فصاعدًا، ضعفت الروابط التقليدية بسبب التغيرات الجيوسياسية واكتشاف طرق التجارة البحرية. وفي القرن العشرين، زادت العزلة السوفيتية من تباعد المناطق عن بعضها البعض.

فتح استقلال دول آسيا الوسطى عام ١٩٩١ فصلًا جديدًا في علاقاتها.

مراحل رئيسية في بناء الحوار الدبلوماسي

مرّ بناء الحوار الدبلوماسي المنهجي بين دول مجلس التعاون الخليجي وآسيا الوسطى بمراحل مهمة، ساهمت كل منها بشكل كبير في تطوير التعاون بين المنطقتين.

المرحلة الأولى (1991-2000): شهدت هذه الفترة إرساء العلاقات الثنائية، حيث تعرف الطرفان خلالها على الأنظمة السياسية والفرص الاقتصادية لكل منهما. فُتحت البعثات الدبلوماسية الأولى، وأُبرمت اتفاقيات تأسيسية بين الدول، كانت في معظمها إطارية. تطور التعاون تدريجيًا، إذ احتاج الجانبان إلى وقت لفهم تفاصيل وآفاق التفاعل بين دول آسيا الوسطى ودول مجلس التعاون الخليجي بشكل أفضل.

المرحلة الثانية (2001-2010): تميزت هذه المرحلة بتطور العلاقات الثنائية ووضع إطار قانوني للتعاون. وُقّعت اتفاقيات عديدة في مجالات مختلفة، بما في ذلك الاقتصاد والثقافة والتعليم. وأولي اهتمام خاص لتكثيف التعاون التجاري والاقتصادي والمالي والاستثماري. وخلال هذه الفترة، نُفّذت أولى مشاريع الاستثمار الكبرى التي شارك فيها رأس مال عربي في آسيا الوسطى. شملت المجالات الرئيسية: تطوير أنظمة الري وتحديث البنية التحتية الزراعية في أوزبكستان وكازاخستان، ومشاريع النفط والغاز في تركمانستان، ودعم المبادرات الإنسانية والتعليمية في طاجيكستان وقيرغيزستان.

المرحلة الثالثة (2011-2020): اتسمت هذه الفترة بتنويع مجالات التعاون والمحاولات الأولية لمأسسة الحوار. وتوسع نطاق التفاعل ليشمل قضايا الأمن ومكافحة الإرهاب والبيئة. ومن الجدير بالذكر أن أولى الاتصالات متعددة الأطراف جرت، بما في ذلك اجتماعات وزراء الخارجية.

ومن الأحداث الدبلوماسية المهمة خلال هذه الفترة اجتماع وزراء خارجية دول آسيا الوسطى وجامعة الدول العربية في الرياض عام 2014، الذي أرسى الأساس المفاهيمي لتكثيف الحوار الإقليمي لاحقًا. وشكّل هذا الاجتماع سابقة مؤسسية لتشكيل صيغة تعاون أكثر تركيزًا بين دول مجلس التعاون الخليجي وآسيا الوسطى.

وأشار المحللون إلى أن نتائج الاجتماع في العاصمة السعودية أظهرت إمكانات كبيرة للتعاون بين المنطقتين، مما شجع النخب السياسية على السعي إلى صيغ تعاون أكثر فعالية.

من المهم التأكيد على أن أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في تكثيف التفاعل كان الإصلاحات الداخلية في دول آسيا الوسطى، وخاصةً في أوزبكستان، بالإضافة إلى تعزيز التعاون الإقليمي داخلها. وقد هيأت هذه العمليات ظروفًا أكثر ملاءمة لتطوير العلاقات الخارجية وجذب الاستثمارات الأجنبية.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى تشكيل “إجماع سمرقند” في عام ٢٠١٧. وخلال دورة تدريبية رفيعة المستوى خلال المؤتمر الدولي الذي عُقد في سمرقند، عززت دول آسيا الوسطى مواقفها بشأن التعاون الإقليمي، ممهدةً الطريق لتعاون أكثر منهجية. وتعزز الاعتراف الدولي بهذه المبادرة في يونيو 2018 عندما اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا خاصًا يدعم عمليات التكامل الإقليمي. وقد هيأت هذه الأحداث ظروفًا مواتية لتشكيل صيغ تعاون دولي أكثر شمولاً لاحقًا، بما في ذلك حوار دول مجلس التعاون الخليجي وآسيا الوسطى.

المرحلة الرابعة (2021 – حتى الآن): تُمثل هذه المرحلة الانتقال من التعاون الثنائي إلى التعاون متعدد الأطراف. وتُوِّجت هذه العملية بانعقاد القمة التاريخية الأولى لدول مجلس التعاون الخليجي وآسيا الوسطى، والتي فتحت فصلًا جديدًا في العلاقات بين المنطقتين.

سبق هذا الحدث تحضيرات دقيقة، شملت سلسلة من المشاورات على مستوى الخبراء، ومفاوضات متعددة المراحل بين وزراء الخارجية، ووضع أجندة تعاون شاملة.

القمة الأولى لدول مجلس التعاون الخليجي وآسيا الوسطى في جدة

في 19 يوليو 2023، استضافت جدة، المملكة العربية السعودية، أول قمة تاريخية لرؤساء دول مجلس التعاون الخليجي ودول آسيا الوسطى. مثّل هذا الحدث مرحلةً جديدةً في العلاقات بين المنطقتين، وأسّس لتعاونٍ منهجيّ متعدد الأطراف.

حضر القمة، التي ترأسها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، رؤساء جمهوريات آسيا الوسطى الخمس وقادة دول مجلس التعاون الخليجي.

في كلمته الافتتاحية، أكّد ولي العهد على الروابط التاريخية بين المنطقتين، وسلّط الضوء على الإمكانات الاقتصادية للتعاون، قائلاً: “قمة اليوم ليست سوى استمرارٍ لهذه الروابط، تهدف إلى إرساء بدايةٍ واعدةٍ مبنيةٍ على إرثنا التاريخي المشترك، والفرص، والموارد البشرية، والنمو الاقتصادي، الذي ساهم في وصول الناتج المحلي الإجمالي لبلداننا إلى ما يقارب 2.3 تريليون دولار أمريكي”.

وكانت أبرز نتائج القمة اعتماد خطة العمل المشتركة بين دول مجلس التعاون الخليجي ودول آسيا الوسطى للفترة 2023-2027. وقد حددت هذه الوثيقة مجالات التعاون الرئيسية، بما في ذلك الحوار السياسي والأمن، والتعاون الاقتصادي وفرص الاستثمار، وتعزيز العلاقات بين الشعوب، وإقامة شراكاتٍ فعّالة بين قطاعات الأعمال.

قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان: “نرحب باعتماد خطة العمل المشتركة بين مجلس التعاون الخليجي ودول آسيا الوسطى للفترة 2023-2027. وتنص الخطة على العمل على تحقيق الاستقرار السياسي، وتعزيز الحوار، والتعاون الاقتصادي والاستثماري، وإقامة شراكات فعّالة”. ودعا المشاركين في القمة إلى تكثيف الجهود لضمان أمن الطاقة ومتانة سلاسل الإمداد الغذائي العالمية.

قدّم قادة آسيا الوسطى مقترحات محددة للتعاون.

على سبيل المثال، اقترح الرئيس الأوزبكي شوكت ميرضيائيف إنشاء مجلس مشترك للمستثمرين يضم ممثلين عن قطاع الأعمال، واقترح عقد اجتماعه الأول في سمرقند. وأكد على أهمية إنشاء منطقة تجارة حرة مع دول الخليج، وحثّ الشركاء على المشاركة بفعالية في مشروع خط السكة الحديد العابر لأفغانستان، الذي سيربط دول الخليج بآسيا الوسطى عبر أقصر الطرق. كما اقترح إنشاء منطقة سياحية موحدة بدون تأشيرة، “الخليج – آسيا الوسطى”.

دعا الرئيس القرغيزي صدر جباروف دول الخليج للمشاركة في بناء خط السكة الحديد بين الصين وقيرغيزستان وأوزبكستان، ومحطة الطاقة الكهرومائية “كامبار-آتا-1”. ودعا الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف إلى إنشاء آلية لاجتماعات وزراء الزراعة وتطوير التعاون في مجال الطاقة. وركز الرئيس الطاجيكي إمام علي رحمانوف على إنشاء صندوق متخصص لدعم الاستثمار والتنمية، بينما اقترح الرئيس التركماني سردار بردي محمدوف إنشاء لجنة نقل مشتركة ضمن إطار “آسيا الوسطى – مجلس التعاون الخليجي”.

وأكد القادة على أهمية تعزيز العلاقات السياسية والاستراتيجية على المستويين الجماعي والثنائي، ومواصلة التنسيق السياسي لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي. ولتحقيق هذه الغاية، أُنشئت آلية دائمة – اجتماع لوزراء خارجية دول آسيا الوسطى ومجلس التعاون الخليجي – لضمان حوار سياسي منتظم بين المنطقتين.

وكان من أهم قرارات القمة اختيار أوزبكستان كدولة مضيفة للقمة القادمة.

القمة الثانية في سمرقند

بعد نجاح استضافة القمة الأولى لدول مجلس التعاون الخليجي وآسيا الوسطى، بدأت الاستعدادات الحثيثة للقمة الثانية، المقرر عقدها في أوزبكستان في مايو 2025. ويحمل اختيار سمرقند، إحدى أقدم مدن آسيا الوسطى، ذات التاريخ العريق والتراث الثقافي الغني، مكانًا للقمة دلالة رمزية. فقد كانت هذه المدينة، على مدى قرون، مركزًا رئيسيًا للعلاقات التجارية والتقدم الفكري والدبلوماسية الدولية.

من منظور تاريخي، لطالما نظرت سمرقند إلى العالم ككيان موحد لا يتجزأ، خالٍ من الحواجز المصطنعة والتشرذم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى