رأى

من بكين الي العالم :كيف ستشكل الدورتان السنويتان مستقبل الاقتصاد الصيني؟

استمع الي المقالة

أحمد سلام

المستشار الاعلامي المصري السابق ببكين والخبير بالشأن الصيني

“الدورتان السنويتان”، أو (Lianghui) باللغة الصينية، مصطلح يُطلق على الاجتماع السنوي وهما “دورة الجمعية الوطنية الشعبية” (NPC) و”دورة المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني” (CPPCC). وتُعقد هاتان الدورتان في شهر مارس من كل عام، وتضم اجتماعاتهما المشرعين والمستشارين السياسيين من مختلف أرجاء الصين، لمناقشة وإقرار خارطة طريق للسياسات الوطنية للصين داخليًا وخارجيًا لمدة عام. حيث يتم خلالهما تحديد أهداف التنمية الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك النمو المستهدف للناتج المحلي الإجمالي للبلاد، والخطط والسياسات المتعلقة بالاقتصاد والدفاع والتجارة والدبلوماسية والبيئة… إلخ.

وتعقد دورتي هذا العام في ظل أجواء معقدة على المستويين الداخلي والخارجي. وهو ما يجعلهما محط انظار واهتمام رسمي وشعبي وإعلامي كبير على كافة الأصعدة المحلية والدولية، في ظل المكانة التي باتت تحظى بها الصين في عالم اليوم.

وتتجلى أهمية الدورتين في أنه يتم خلالهما الكشف عن سياسات وخطط الصين خلال عام مقبل على المستويين الداخلي والخارجي. فداخليا، يتم وضع الخطوط العريضة لسياسات الصين المتعلقة بالعديد من المجالات، ومن أبرزها الاقتصاد والتنمية والتجارة، والدفاع، والمجتمع، والبيئةوالذكاء الاصطناعي. إلخ. اضافة الي كيفية التعامل مع المشكلات التي يواجهها المجتمع الصيني. وخارجيا، تتضمن تلك الخطط الإفصاح عن أبرز توجهات السياسة الخارجية للصين في إطار علاقاتها مع العالم الخارجي، وكذلك توجهات سياستها الدفاعية للتعامل مع التحديات الأمنية للبيئتين الإقليمية والدولية.

فعلى المستوى الخارجي، نجد أن كافة دول العالم تنتظر بشغف للقرارات والرؤى التي يتم الكشف عنها خلال الدورتين، خاصة في ظل انعقادهما في سياق ظروف عالمية معقدة ومشاكل اقتصادية وحروب .

أهمية الدورتين في سياق عالمي متغير

فعلى المستوى الداخلي، تعد الدورتان فرصة لتقييم الإنجازات التي حققتها الصين في إطار خطتها الخمسية (2023-2027)، خاصة في مجالات مثل التكنولوجيا والتنمية الخضراء والأمن القومي.

أما على المستوى الخارجي، فإن الدورتان ستسلطان الضوء على استجابة الصين للتحديات الدولية، بما في ذلك التوترات الجيوسياسية مع الولايات المتحدة، والأزمة الأوكرانية، والحرب الاسرائيلية في غزى والتباطؤ الاقتصادي العالمي، بالإضافة إلى التغيرات المناخية. حيث ستواصل الصين، كقوة عالمية رائدة، طرح رؤاها وأفكارها للعالم، مع التركيز على التعاون المربح للجميع.

التحديات التي تواجه الصين في 2025

واجهت الصين والعالم العديد من التحديات التي ستؤثر على أجندة الدورتين ، ومن أبرز هذه التحديات:

التوترات الجيوسياسية: استمرت التوترات بين الصين والولايات المتحدة، خاصة حول قضايا مثل تايوان وبحر الصين الجنوبي، بالإضافة إلى المنافسة التكنولوجية بين البلدين.

التباطؤ الاقتصادي العالمي: واجه الاقتصاد العالمي تباطؤاً بسبب ارتفاع معدلات التضخم وأسعار الطاقة، خاصة بعد الأزمة الأوكرانية. ووفقاً لصندوق النقد الدولي، فقد نما الاقتصاد الصيني بنسبة 5.2% في عام 2023، وهو معدل أقل من التوقعات السابقة بسبب تباطؤ الطلب العالمي.

التغيرات المناخية: أصبحت قضية التغير المناخي واحدة من أهم الأولويات العالمية. وكانت الصين قد تعهدت بتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060. وقد أضافت الصين في عام 2024 والتي تحتل مكانة ثاني أكبر اقتصاد في العالم حوالي 277 غيغاواط من الطاقة الشمسية، متجاوزة الرقم القياسي في عام 2023، الذي بلغ 217 غيغاواط، حسب بيان صادر عن إدارة الطاقة الوطنية، وهو ما يعني أن الصين قد حققت هدفها للطاقة المتجددة لعام 2030 قبل ست سنوات كاملة، مما يعكس التزامها بتحقيق أهدافها البيئية.

التحديات التجارية مع الولايات المتحدة: في عام 2024، تخطت قيمة الصادرات الصينية لأول مرة 25 تريليون يوان (حوالي 3.4 تريليونات دولار)، بزيادة 7.1% عن 2023، فيما ارتفعت الواردات إلى 18.39 تريليون يوان (حوالي 2.5 تريليون دولار)، بزيادة 2.3% عن العام السابق، وحسب بيانات الجمارك الصينية، ارتفع الفائض التجاري إلى مستوى غير مسبوق بلغ 992 مليار دولار في عام 2024، بزيادة 21% عن العام السابق، وبصورة عامة فقد سجلت التجارة الخارجية الصينية نموا بنسبة 5% عام 2024 بالمقارنة مع العام السابق، محققة مستوى قياسيا قدره 43.85 تريليون يوان (حوالي 6 تريليونات دولار).

والحقيقة التى لا مفر منها أنه من بين التحديات الرئيسية التي ستواجهها الصين في عام 2025 هي السياسات التجارية الأمريكية، خاصة في ظل عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة مرة ثانية، والذي قام خلال فترة رئاسته الأولى (2017-2021)، بفرض سلسلة من الرسوم الجمركية على الواردات الصينية بقيمة وصلت إلى 370 مليار دولار، مما أدى إلى تصاعد التوترات التجارية بين البلدين. ومن المتوقع يواصل سياساته الحمائية، والتي قد تشمل فرض ضرائب إضافية على الصين بنسب تتراوح بين 10% إلى 25% على مجموعة واسعة من السلع، بما في ذلك الإلكترونيات والمنتجات الصناعية.

وفي وقت سابق، هدد ترامب بفرض ضرائب تصل إلى 60% على الصين. ولابد أن ننظر إلى التهديد بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على مجموعة البريكس باعتباره خطوة جريئة لحماية الدولار الأميركي ــ الأساس الذي تقوم عليه القوة المالية الأميركية.

وليس هناك شك أنه إذا نجحت مجموعة البريكس في خلق عملة بديلة، فإن نفوذ أميركا في السوق العالمية سوف يتأثر بشكل خطير. ويدرك الرئيس الامريكي هذا الأمر جيدًا وهو على استعداد لبذل كل ما في وسعه لمنع حدوث هذا السيناريو. وعلى نحو مماثل، فإن ضغوطه على بنما والاتحاد الأوروبي والمكسيك وكندا تظهر أنه لا يخشى مواجهة الحلفاء والمعارضين على حد سواء لحماية المصالح الأميركية.

ووفقاً لتقديرات معهد “بيترسون للاقتصاد الدولي”، فإن فرض ضرائب إضافية بنسبة 25% على جميع الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة قد يؤدي إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي للصين بنسبة تصل إلى 0.8% سنوياً. كما أن هذه الإجراءات قد تؤثر على حجم التبادل التجاري بين البلدين.

الاستجابة المتوقعة للصين

إنطلاقا من التحديات السابقة، سنحاول استقراء مشهد استجابة الصين المتوقعة في ضوء مخرجات الدورتين لهذا العام. حيث من المتوقع أن تستند الصين من خلال مخرجات الدورتين السنويتين في مارس 2025 إلى تعزيز قدرتها على الصمود وتقليل الاعتماد على السوق الأمريكية. ومن المتوقع أن تشمل الاستراتيجية الصينية عدة محاور رئيسية:

أولا: تنويع الأسواق التصديرية: ستسعى الصين إلى تعزيز علاقاتها التجارية مع دول أخرى، خاصة في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، حيث بلغت قيمة التجارة بين الصين ودول المبادرة نحو 22.1 تريليون يوان (3.07 تريليون دولار أمريكي) في عام 2024.. ومن المتوقع أن تزيد الصين من استثماراتها في هذه الدول لتقليل الاعتماد على السوق الأمريكية.

ثانياً: تعزيز الاكتفاء الذاتي التكنولوجي: ستواصل الصين استثماراتها الضخمة في البحث والتطوير لتحقيق الاكتفاء الذاتي في المجالات التكنولوجية الحيوية، مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي. وقد تجاوز إجمالي إنفاق الصين على البحث والتطوير خلال عام 2024 ما مقداره 3.6 تريليون يوان (حوالي 500 مليار دولار أمريكي)، بزيادة 8.3 بالمئة على أساس سنوي، وقد شكّل هذا الإنفاق 2.68 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في 2024، بزيادة 0.1 نقطة مئوية مقارنة بالعام السابق له.

ومع استمرار دفع الابتكار، تظل الصين في المرتبة الثانية عالميا من حيث إجمالي نسبة الإنفاق في مجال البحث والتطوير، وقد شغلت الصين المركز 12 من بين الدول الكبرى في العالم من حيث “الكثافة” في عمليات البحث والتطوير والتي بلغت نسبتها 2.68 بالمئة، وهي أعلى من المعدل المتوسط الذي حققته دول الاتحاد الأوروبي والذي بلغ 2.11 بالمئة، واقتربت من نسبة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والتي تبلغ 2.73 بالمئة.

وقد ارتفعت نسبة الاستثمار في مجال البحث الأساسي بنسبة 10.5% خلال عام 2024 مقارنة بعام 2023 لتصل إلى 249.7 مليار يوان، وهو ما يمثل 6.91 بالمئة من إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير، ومن المتوقع أن تزيد هذه النسبة إلى 3% بحلول عام 2025.

ثالثا: تحفيز الطلب المحلي: ستسعى الصين إلى تعزيز الطلب المحلي كبديل عن الصادرات. في عام 2023، ساهم الاستهلاك المحلي بنسبة 55% من الناتج المحلي الإجمالي للصين، ومن المتوقع أن تزيد هذه النسبة إلى 60% بحلول عام 2025 من خلال سياسات تحفيزية تشمل تخفيضات ضريبية ودعم للشركات المحلية.

رابعا: التعاون مع الشركاء الدوليين: ستسعى الصين إلى تعزيز تحالفاتها الاقتصادية مع دول مثل روسيا والاتحاد الأوروبي ودول جنوب شرق آسيا. وقد بلغت قيمة التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبي حوالي 850 مليار دولار في عام 2023، مما يجعل الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري للصين.

خامسا: الرد على الرسوم الجمركية الأمريكية: قد ترد الصين بفرض رسوم جمركية مماثلة على الواردات الأمريكية، خاصة في قطاعات مثل الزراعة والطائرات، والتي تعد حيوية للاقتصاد الأمريكي.

رؤية الرئيس شي جين بينغ للاقتصاد الصيني

في مقال نشره الرئيس شي الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني، ورئيس اللجنة العسكرية المركزية، في العدد الخامس للعام الجاري من مجلة “تشيوشي”، وهي مجلة هامة تابعة للجنة المركزية للحزب، أشار شي الي أن الاقتصاد الصيني يواجه صعوبات وتحديات بسبب التأثيرات السلبية الناجمة عن البيئة الخارجية المتقلبة. ومع ذلك، أكد الرئيس شي أن الاقتصاد الصيني مدعوم بأساس مستقر وقوى وفيرة وقدرة كبيرة على الصمود وإمكانات هائلة، وأن الظروف الداعمة للاقتصاد الصيني لم تتغير، ولا الاتجاه الأساسي له المتمثل في النمو على المدى الطويل.

كما أكد شي على ضرورة مواجهة الصعوبات وتعزيز الثقة والسعي بقوة لتحويل كل العوامل الإيجابية إلى إنجازات فعلية في التنمية. كما أشار إلى أن العمل الاقتصادي معقد ومتعدد الأوجه، وأن هناك خمس علاقات رئيسية يجب التعامل معها بشكل مناسب:

– العلاقة بين السوق الفعالة والحكومة جيدة الأداء: يجب على الحكومة أن تتصرف بحزم عندما يكون ذلك ضرورياً، وأن تعرف في الوقت نفسه متى تمتنع عن التدخل.

– العلاقة بين إجمالي العرض وإجمالي الطلب: يجب ضمان سلاسة الدورة الاقتصادية، مع التركيز على معالجة ضعف الطلب المحلي، حيث يجب أن يعمل الطلب المحلي كمحرك رئيسي للنمو.

– العلاقة بين خلق محركات نمو جديدة وتطوير الصناعات التقليدية: يجب تحقيق التوازن بين الابتكار والحفاظ على الصناعات القائمة.

– العلاقة بين تحسين الموارد الإضافية والاستخدام الجيد للموارد الحالية: يجب تعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة.

– العلاقة بين تحسين الجودة وتوسيع النطاق: يجب التركيز على الجودة في جميع جوانب التنمية الاقتصادية.

مخرجات متوقعة للدورتين في 2025

من المتوقع أن تركز الدورتان السنويتان في مارس 2025 على عدة محاور رئيسية، داخلياً وخارجياً:

تعزيز الاكتفاء الذاتي التكنولوجي: في ظل المنافسة التكنولوجية مع الولايات المتحدة، ستستمر الصين في تعزيز استثماراتها في البحث والتطوير. ومن المتوقع أن تزيد الصين من استثماراتها في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والرقمنة وتكنولوجيا أشباه الموصلات.

تعزيز التعاون الدولي: على الرغم من التوترات مع الغرب، ستسعى الصين إلى تعزيز علاقاتها مع دول الجنوب العالمي، خاصة في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، مما يعكس استمرار الصين في تعزيز نفوذها الاقتصادي عالمياً.

التحول نحو الاقتصاد الأخضر: ستستمر الصين في تنفيذ خططها للتحول نحو الاقتصاد الأخضر. وقد أعلنت الصين عن زيادة قدراتها في مجال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في عام 2024، بنسبة 20%، مما يعكس التزامها بتحقيق أهدافها البيئية.

تعزيز الأمن القومي: في ظل التحديات الأمنية، ستستمر الصين في تعزيز قدراتها العسكرية والتكنولوجية. في 2024، أعلنت الصين زيادة ميزانيتها الدفاعية بنسبة 7,2% لتبلغ 231 مليار دولار تقريبًا، في وقت تتفاقم التوترات بشأن تايوان وبحر الصين الجنوبي، مما يعكس تركيزها على تعزيز أمنها القومي.

وقد أشارت العديد من التصريحات الرسمية في الإعلام الصيني إلى أن الدورتين السنويتين في مارس 2025 ستكونان فرصة لتقييم الإنجازات والتحديات التي واجهتها الصين خلال العامين الماضيين. ووفقاً لتصريحات نائب رئيس اللجنة الدائمة للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، وانغ تشين، فإن الدورتين ستسلطان الضوء على “تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للصين في ظل الظروف الدولية المعقدة”.

كما أشارت صحيفة “الشعب اليومية”، الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الصيني، إلى أن الدورتين ستكونان فرصة لتعزيز “وحدة الشعب الصيني وقيادته نحو تحقيق الانتعاش الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي”.

نخلص من ذلك إلى أن الدورتين السنويتين للحزب الشيوعي الصيني ، تُعدان محطة مهمة لتقييم استجابة الصين للتحديات الدولية، في ظل المتغيرات الجيوسياسية والاقتصادية والبيئية، وستواصل الصين تعزيز استراتيجياتها لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام وتعزيز أمنها القومي، من خلال الاستثمار في التكنولوجيا والطاقة المتجددة والتعاون الدولي، حيث تسعى الصين إلى تعزيز مكانتها كقوة عالمية رائدة في القرن الحادي والعشرين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى