رأى

الشدائد مصارع السوء .. مصانع الأمم

استمع الي المقالة

أحمد بن سالم الفلاحيimages
shialoom@gmail.com 

تؤكد أحداث الواقع على امتداد التاريخ الإنساني أن البشر هم أول من يتلقى المأزق الناشئ بين توالي الأحداث وتصادماتها، بين شدتها ورخائها، بين كبيرها وصغيرها، بين تنوعها وتمايزها.

وقد قدر لهذا الإنسان بما أوتي من عقل مدبر، ومن حكمة عميقة؛ أن يكون أكثر قدرة في التعامل مع مختلف الأحداث، سواء أحداث كان هو السبب في نشوئها كالحروب التي تنشر الدمار والهلاك على البشرية جمعاء، أو أحداث فوق مستوى قدرته كأحداث الطبيعة من زلازل وبراكين وفيضانات، وأكثر حزما مع أشدها، وأكثر حكمة مع فضاءاتها في حالتي الخير والشر، وهنا تتجلى الحكمة أكثر، ولأجل ذلك استطاع أن يروض الكثير من الأحداث لخير الإنسانية، ويجعل منها – وهو الوجه المشرق للإنسانية- منطلقا نحو البناء، ومجابهة الظروف القاسية التي تفرض نفسها كنتائج لهذه الأحداث، ومن ذلك تحدث الانفراجات ويتسع الأمل وتكبر الطموحات، ولعل بيت الشاعر القائل: «ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنهـا لا تفرج»، يعكس حقيقة هذه المعايشة الإنسانية للظروف المختلفة طوال سنوات عمره، فالإنسان بقدر ما يحمل من بذر الشر، في المقابل يحمل بذر الخير، حتى يبقى التعادل قائما لتستمر الحياة، وتسجل آفاقا أخرى للبقاء والعطاء.

أن في توالي الحضارات الإنسانية، والأزمنة التاريخية الكثير من المشاهد التي تعكس ثيمة «الشدائد» المرتبطة بالإنسان، واثرها في ترويض الأفكار والرؤى لصنع مستقبل اكثر رحابة، موظفا هذا الإنسان مختلف التجارب الصادمة -على وجه الخصوص- التي يمر بها لخير مستقبله، وعبارة «الحاجة أم الاختراع» لم تأت من فراغ، بل هي تعكس هذا الإصرار لدى الإنسان في تجاوز مختلف المعضلات التي يمر بها سواء على المستوى الشخصي الضيق الذي ينال منه أو من أسرته، أو على المستوى العام الذي يشترك فيه مع غيره من أبناء المجتمع انعكاس للحمة الاجتماعية المفطورة في الإنسان على وجه التحديد، فالإنسان كائن اجتماعي بالدرجة الأولى، حتى وان طوقة الشر في بعض سلوكياته، حيث تأتي الفطرة السليمة لتعيد البوصلة إلى مسارها الآخر، ولعل لنا في مملكة الحيوانات شيئا من هذه الحميمية الاجتماعية وان عكستها غرائزها، حيث نرى ذلك في تكتلاتها واتحاداتها التي نراها عندما تهب للدفاع عن حياتها، وحياة صغارها في صور نعدها ملهمة لنا في تقفي أثرها الخير، كما نعدها عبرة لمن يعتبر، فإذا كانت هذه الحيوانات العجمى هكذا تتعاون لما يحميها من تكالب أعدائها عليها، فكيف للبشر لا يكون لهم مثل هذا الوعي العميق للحياة.

يسجل التاريخ في كل زمن من الأزمان رجالا صنعوا للأمم أحداثا ينعتون بها، وخلدوا مآثر تكتب اليوم بماء الذهب، ذلك أنهم وجدوا في أحداث التاريخ الصعبة النقطة المضيئة لإنارة طريق هدايتهم نحو العمل، فهمتهم -كما يقال- «همة ملوك، وانفسهم انفس حرة ترى المذلة كفرا»، حيث وجدوا في التاريخ المادة الخصبة للكتابة، والمادة الصالحة للبقاء، والمادة الحية للتوظيف، لم ينتظروا، في كثير من التجارب، الظروف لكي تتهيأ لهم لصنع تاريخ جديد، أو المساهمة في تاريخ مستمر، بل هم وظفوا الأحداث الماثلة على الواقع في إضافة نقلات نوعية تسهم بصورة مباشرة بما يمكن الواقع من الاستمرار لما فيه الخير، فكان لهم ما أرادوا، وكان للتاريخ الإنساني الإضاءة التي تنير سبل الآخرين ممن أتوا فيما بعد، فمثل هؤلاء الصانعون للتاريخ تعيش الحياة متنفسا آخر للبقاء والديمومة، ولذلك تسجل التجارب الإنسانية الكثير من هؤلاء الرجال الذين أضافوا لبنات خالدة في التاريخ الإنساني، وخلدهم التاريخ بأحرف من نور، حيث اهدوا للبشرية أعمارا مضافة من العطاء اللامحدود، وميزتهم السامية أنهم تجردوا من نزعات ذواتهم المختلفة، وانحازوا لخير الإنسانية، فكان جزاؤهم هذا الخلود في وجدان الناس، وهذا الخلود عبر صفحات التاريخ، فالتاريخ لا ينسى من يحييه ويضيف في أعمارها لبنات مجيدة خالدة.

يرى كثير من المنظرين أن الشدائد مجاسات مهمة لإرادة البشر وهممهم وعزائمهم، ولها الدور الكبير في إحداث نقلات الواقع من حال إلى حال مغاير، حيث تمثل نقطة تحول كبيرة في حياة الشعوب، ويندر ان تكون هناك شعوب على وجه هذه البسيطة لم تشهد طوال سني تاريخها أحداثا مهمة تغير وجه الحياة فيها، وان اتسعت الجغرافيا في ذلك، فهذا أيضا من العدالة الإلهية في الكون، حيث تجري الأحداث في الغرب وفي الشرق، وفي الجنوب وفي الشمال، كنوع من تبادل الأدوار من ناحية، واستلهام العبر من ناحية أخرى، حيث الاستفادة من تجارب الآخرين، ولعلنا في عمان إحدى الشعوب التي عايشت مثل هذه الأحداث عبر تاريخ عمان الممتد، ولا نزال، حيث حدثت النقلة التاريخية الفارقة في مطلع سبعينيات القرن العشرين المنصرم، وذلك بتولي حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- زمام الحكم في السلطنة، وأحدث النقلة النوعية في مفهوم التحضر الإنساني، بعد قرون صعبة وقاسية من الزمان عاشتها عمان بكل تفاصيلها المؤلمة، فله فضل الريادة في إنقاذها من براثن الضياع، وله فضل السمو في ميلاد تاريخ عمان الحديث الذي يسجل اليوم أكثر من أربعة عقود من الزمان وسط تحقق تنموي ملموس في مختلف المجالات، نسأل الله تعالى أن يمد في عمره، ويمتعه بالصحة والعافية، ويضفي على هذا البلد سبل الرخاء والتطور والنماء.

لعل التجارب الإنسانية الماثلة اليوم للعيان أيضا هي تجربة دول التي يطلق عليها «النمور الآسيوية»، وحركة تطورها السريعة بفضل جهود أبنائها المخلصين فيها بعد أن شكلت فيهم بعض أحداث التاريخ مراحل فاصلة بين ما كانوا، وبين ما أصبحوا اليوم، وخاصة في مجالات التطور التقني والاقتصادي، بعد أن استلمت ولا تزال تقود الزمام، بعد عقود من الزمان كان للدول الغربية على وجه التحديد فضل الريادة، ولكن هذا هو التاريخ بقدر ما يسدل الستار على دول وحضارات ينشئ في المقابل دولا أخرى وحضارات أخرى مخاطبة لزمانها بمادتها، وأدواتها لتتولى هي الأخرى القيادة في صناعة تاريخ جديد يسجل للبشرية وجها مشرقا آخر للحياة، فالحياة أوجدها رب العزة والجلال لتبقى هكذا مضيئة بما تنعم به على البشرية من فضله، وان مثلت فيها الأحداث الصعبة نقاط، ربما، لاسترجاع الأنفاس، وخلق صورة أخرى جديدة تكون اصلح لزمانها، وللناس الفاعلين فيها في ذات الزمان وربما المكان، وما هذا الجهد البشري القائم اليوم في مختلف الصناعات إلا تأكيد واضح لهذه الصورة التي تحتاج إلى قراءة أكثر عمقا، وتنظيرا يحمل أكثر من رؤية.

يقال في المثل: «الخير في بطن الشر»، أي انه لكي تحصل على الخير لا بد أن تغوص في بواطن الشر، والشر هنا ليس معناه المجرد، بل إن معناه الجد، والتعب، والكد، والنصب، فليس هناك ما يتحقق بالسهولة المطلقة، فلا بد من مكابدة المخاطر، ولا بد من الأخذ بالأسباب حتى يتحقق الخير، فالترقي في مستويات التعليم المختلفة، لا بد أن يرافقه جد واجتهاد وسهر، حتى يتحقق الحصول على الشهادات العليا، وما يقاس على التعليم يقاس على مختلف شؤون الحياة، فالمكابدة هي الوسيلة التي يستطيع الإنسان أن يحقق من خلالها المراتب العليا والترفيع الأسمى، وبدون هذه المكابدة تبقى حالات الحياة تراوح مكانها، «ومن لا يحب صعود الجبال: يعش أبد الدهر بين الحفر»، وهذا ما يميز بني البشر أحدهما عن الآخر، وهو مقدار الجهد المبذول، والإنسان في حقيقته طاقة كامنة تحتاج فقط إلى من يستثيرها ليجني من ذلك أرباحا كثيرة، (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).

* نقلاََ عن جريدة عُمان..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى