مصر وإيران: 35 عاما من المعونات والعقوبات
بين مصر وإيران علاقة معقدة جداً، أضعف حلقاتها المسألة السياسية، علاقة تعود إلى عمق التاريخ الفرعوني، عزيز مصر فى زمن سيدنا يوسف عليه السلام لم يكن إلا حاكما فارسيا من مملكة الشمال، وعندما انهارت الحضارة اليونانية وأطفئت معها أنوار مكتبة الإسكندرية، أضاءت أنوار الفكر فى جنديسابور، ذلك المعسكر الذى أنشأه الإمبراطور سابور فى نفس منطقة مدينة قم الحالية للفلاسفة والعلماء اليونانيين اللاجئين بعد سقوط دولهم تحت سنابك خيول الرومان، مصر وإيران مركزان للعلم فى التاريخ الإسلامي، لكن الصراع السياسى بينهما لم ينقطع يوما ولن يتوقف، هكذا هى سنة التاريخ تقشعر جلود الإيرانيين للقرآن بأصوات المقرئين المصريين أو مقلديهم، حيث لا يعرف الإيرانيون قراءة للقرآن غير طريقة المصريين، وفى نفس الوقت التنافس والصراع السياسى على أشده، حيث يحلم السياسيون الإيرانيون بإخضاع مصر أو اختراقها.
ومن عجائب التاريخ أن مصر وإيران بدأتا السير فى اتجاهين متعاكسين فى علاقتهما بالعالم الغربى فى نفس التاريخ، ففى عام 1979 وقعت مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل وبدأت رحلتها مع المعونات الأمريكية والغربية، وفى نفس السنة قامت الثورة الإيرانية وخضعت بعدها إيران لنظام العقوبات الذى أقره العالم الغربى وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، واليوم وبعد مرور خمسة وثلاثين عاما على المعونات الغربية والأمريكية لمصر، والعقوبات الدولية على إيران، أين هى مصر؟ وأين هى إيران؟
هذا السؤال تفجَّر فى ذهنى بعد اتفاق فيينا بين إيران من جانب، والدول الخمس الكبار أعضاء مجلس الأمن، إضافة إلى ألمانيا من الجانب الآخر، وبغض النظر عما يقدمه مرتزقة الفضائيات من تحليلات تحاول أن تزيف حقائق الواقع والتاريخ، فإن إيران خرجت منتصرة من هذا الاتفاق أيا كان تعريف هذا الانتصار، على الأقل جنبت نفسها مصير العراق مع محمد البرادعي، وفى نفس الوقت رفعت الحصار عن شعبها واقتصادها، ودخلت العالم المعاصر بعد إغلاق دام لثلث قرن من الزمان. ويظل السؤال: أين هى مصر بعد ثلث قرن من المعونات؟
وأين إيران بعد نفس الفترة من العقوبات؟
هيا ننظر فى الواقع دون مجاملة، ودون كذب يفوق ما تسمح به بحبوحة التجمّل، مصر. يا سادتي، استطاعت وبصورة مبهرة أن تحقق إنجازا تاريخيا غير مسبوق، فقد وصلت الدولة المصرية بفضل عبقرية الوزير الهمام خالد حنفى – الذى يفوق فى حكمته كسرى أنوشروان إمبراطور فارس قبل الإسلام – أن تطبق منظومة الخبز، وهى منظومة تؤدى إلى توزيع الخبز اليومى على الشعب المصري، مصر. يا سادتي، نجحت والحمد لله العزيز الجبار أن تجتاز شهر رمضان دون انقطاع فى الكهرباء، مصر. يا سادتي، استطاعت أن ترحم اهل الصعيد الذين هم نصف مصر من وحوش السوق السوداء الذين يتاجرون فى تذاكر القطارات أيام الأعياد.
بفضل المعونات الأجنبية لمصر على مدى خمسة وثلاثين عاما تراجعت مصر إلى مراحل لم تشهدها منذ مجاعات المماليك التى سجلها المقريزى المتوفى 1442م، نحن فى حال لم تعرفه مصر فى عهد أسرة محمد علي، ولا فى عهد ثورة 23 يوليو التى نحتفل بمرور ثلاثة وستين عاما عليها، ثورة يوليو التى يحلو لأبناء فساد الانفتاح الساداتى – الذين رضعوا من لبن المعونة الأمريكية، وتغذوا على دقيقها المغموس فى تراب الذل – أن يكيلو ا لها الاتهامات، ولولا هذه الثورة لكان هؤلاء وأنا منهم نرعى بقر الباشوات.
تراجعت مصر مع عصر المعونات إلى درجات دنيا فى الاقتصاد والتعليم والصحة والخدمات ومستويات المعيشة، بفضل عقلية المعونات خرج من مصر ملايين العقول التى ذهبت فى منح السلام للدراسة فى أمريكا وكندا، ولم يعودوا بعد أن استثمرت فيهم مصر حتى تخرجوا من الجامعة، وبفضل عقلية المعونات تم اختراق العقل المصرى وتم تشويهه، وتم اختراق الزراعة وتم تدميرها وسرقة أفضل ما فيها خصوصا القطن، بفضل المعونات انهارت الصناعة، وأصبحت المصانع التى كانت تنتج أسلحة وسيارات تنتج أطباق الاستقبال الفضائية للتليفزيونات.
مصر بفضل عقلية المعونات انهار نظام التعليم الذى تم تشويهه وتحويله إلى مختبر للتجارب الفاشلة، ولم ينج من هذه المأساة إلا القوات المسلحة التى تأبى طبيعتها السرية على الاختراق، وتأبى عقيدتها القتالية التطبيع مع إسرائيل، وهى العدو الأول فى تلك العقيدة القتالية، وبفضل قادة وطنيين منذ المشير أبوغزالة الذى قاوم اندفاع القيادة السياسية للخضوع للسيد الأمريكى والذوبان غراما بعيونه الزرقاء.
مصر بفضل عقلية المعونات تخلت عن بديهيات أمنها القومى تدريجيا وطواعية، تراجعت القضية المحورية للعالم العربي، وهى قضية فلسطين، وانهارت حتى صارت جماعة سياسية مثل حماس التى تحكم ما يعادل بضع قرى فى مركز من محافظات مصر تهدد أمن مصر القومى وتناطح سيادتها وتتدخل فى شئونها، والشيء نفسه حدث فى السودان، حين استطاع مفكر مغامر مثل حسن الترابى تفكيك علاقة مصر بالسودان، واستطاع اتباعه تفكيك السودان نفسه وتهديد أمن مصر المائي.
اما إيران فبفضل عقلية العقوبات اشتعل فيها التحدي، واستطاعت بناء نظام تعليمى تدافع عنه بكل قوة، إلى الحد أن تكون أكثر معضلة واجهتها مباحثات فيينا قبل الوصول إلى اتفاق هى رفض إيران السماح بمقابلة العلماء والباحثين العاملين فى حقل البحوث النووية، حتى لا يتم اختراق العقل الإيرانى وفك رموزه وأسراره، ذلك العقل الذى كونه نظام تعليمى قوى وعميق، استطاع أن يخرِّج عقولاً قادرة على إدارة ذلك العدد من المفاعلات النووية.
إيران بفضل عقلية العقوبات استطاعت بناء قاعدة صناعية قوية بمقاييس دولة خاضعة لعقوبات دولية صارمة، واستطاعت تحقيق التصنيع العسكرى الذى يحفظ أمنها القومي، ويضعها فى موقع التهديد لدول أخرى، ولنتذكر ذلك البند فى اتفاق فيينا الذى يتناول تصنيع الأسلحة الباليستية فى إيران. أسلحة باليستية فى ظل عقوبات دولية؟!
إيران وبفضل عقلية العقوبات استطاعات أن ترسم خططا طويلة الأجل، استثمرت فى العراق ولبنان واليمن منذ ربع قرن وها هى تجنى الثمار فى صورة كيانات تخدم أهدافها من حزب الله إلى الأحزاب التابعة لها فى العراق وأخيراً الحوثيين، وتهدد الأمن القومى العربى من جميع جوانبه الشرقية والشمالية والجنوبية، ثم اخترقت دولا عديدة بدرجة أو بأخرى من السودان إلى دول غرب إفريقيا.
مصر وإيران، معونات وعقوبات، مفارقات غريبة عجيبة، لا تحتاج إلى جهد للوصول إلى النتائج، فالواقع يتكلم ولا يحتاج إلى دليل، أين هى مصر؟
وأين هى إيران؟
وأيهما كان أفضل وأكثر نفعا
العقوبات أم المعونات؟
أسئلة لا تحتاج إلا أن يكون لك عينان وأذنان، ولسان وشفتان، وعليك أن تختار أى النجدين أو الطريقين.
* المصدر: الأهرام اليومى..