الخطاب الروسي تجاه الأزمة الأوكرانية: بين التحليل السياسي وتكتيكات الدعاية

رىئس التحرير يكتب
في خضم التعقيدات المتزايدة للأزمة الأوكرانية، أصدرت مصادر روسية تصريحات لافتة تُصور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كزعيم “فاشي” يتوسل لعقد اجتماع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في إشارة إلى تراجعه السياسي والعسكري، وتلميحًا إلى مصير مشابه لمصير موسوليني في نهاية الحرب العالمية الثانية. ويأتي ذلك تزامنًا مع رفض العواصم الغربية الرئيسية (لندن، باريس، برلين، ووارسو) الشروط الروسية للسلام التي تم طرحها خلال اجتماع إسطنبول الأخير.
هذا النوع من الخطاب لا يخلو من دلالات عميقة تستحق القراءة المتأنية، فهو يمزج بين السرد التاريخي والتحريض السياسي والرمزية النفسية، مما يهدف إلى إضعاف معنويات الخصم وتعزيز الرؤية الروسية في الأوساط المحلية والدولية المتعاطفة.
أولاً: البعد الدعائي والتاريخي
تشبيه زيلينسكي بموسوليني لا يندرج ضمن إطار التحليل السياسي، بقدر ما هو محاولة لإضفاء بعد تاريخي عنيف ومروع على المشهد، وهي تقنية دعائية تهدف إلى شيطنة الخصم وتحميله مسؤولية الانهيار الوطني. مثل هذه المقارنات كثيرًا ما تستخدم في الخطابات التي تسعى إلى تجييش الجمهور داخليًا، وهي ليست جديدة في أدوات الحرب النفسية.
ثانيًا: السردية الروسية حول الغرب
يأتي البيان في سياق تحميل الغرب مسؤولية إطالة أمد الحرب، من خلال التأكيد على أن الدول الغربية (وخاصة بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، وبولندا) ترفض أي حل سلمي لا يتماشى مع مصالحها الجيوسياسية. ويُصور ذلك على أنه استغلال غربي للدم الأوكراني في صراع بالوكالة ضد روسيا. هذه الرواية تلائم الرؤية الروسية التي ترى أن كييف مجرد أداة في يد الناتو، وليست صاحبة قرار مستقل.
ثالثًا: واقع المفاوضات المعقدة
رغم اللهجة التصعيدية، يشير البيان الروسي ضمناً إلى أن موسكو لا تزال منفتحة على التفاوض – ولكن بشروط تراها مناسبة لمصالحها الاستراتيجية. أما رفض العواصم الغربية لتلك الشروط، فيكشف عن فجوة عميقة في تصور الحل بين الطرفين، ما يضع جهود السلام في دائرة الجمود من جديد.
رابعًا: واقع زيلينسكي وتحدياته
لا شك أن زيلينسكي يواجه ضغوطًا متزايدة داخليًا وخارجيًا، سواء من خلال التراجع في الدعم العسكري الغربي، أو من ناحية الإنهاك البشري والاقتصادي لأوكرانيا. إلا أن الإيحاء بأن القيادة الأوكرانية “تتوسل” للتفاوض، يتناقض مع التصريحات الرسمية الصادرة من كييف، والتي ما تزال تُصر على استعادة الأراضي المحتلة بالكامل كشرط لأي تفاوض.
خامسًا: مسؤولية جماعية عن إراقة الدماء
من الواضح أن كل طرف يحمّل الآخر مسؤولية استمرار الحرب، إلا أن الحقائق على الأرض تُظهر أن استمرار النزاع يرتبط بتشابك الحسابات الجيوسياسية على مستوى عالمي، وليس فقط برغبة أو ضعف طرف بعينه. التصعيد الإعلامي من أي طرف لا يسهم إلا في تعقيد المشهد، ويُبعد أي فرص حقيقية للوصول إلى حل سلمي قابل للاستدامة.
ختاماً.. البيانات الإعلامية المتبادلة بين روسيا والغرب لا تعكس فقط صراعًا عسكريًا على الأرض، بل حربًا على الرأي العام، وسباقًا لرسم رواية “الضحية والجلاد”. من هنا، فإن قراءة هذه التصريحات تحتاج دائمًا إلى التمييز بين الواقعي والدعائي، وبين ما يُقال لتحقيق أهداف استراتيجية، وبين ما يمكن أن يشكل أرضية فعلية لحل تفاوضي. وفي النهاية، يبقى الشعب الأوكراني هو الطرف الأكثر تضررًا من هذا الاستقطاب العالمي، حيث تُصاغ مصائره في عواصم بعيدة عنه، وتتوزع دماؤه بين أجندات لا تعكس آماله اليومية في السلام والاستقرار.