بقلم السفير: ناصر کنعانی
سفير الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة فی القاهرة
إن الإستراتیجیة الحالیة التی تنتهجها أمریکا برئاسة ترامب تتمحور حول محاصرة فلسطین وشعبها ومجموعاتها المقاومة عن طریق الدول العربیة، وفی المقابل تقوم بتعظیم المحیط الأمنی والمُتنفس للکیان الصهیونی، وتُعد هذه الإستراتیجیة استمرارًا بل جزءًا من الأفکار الخفیة الهادفة لخلق شرق أوسط أمریکی کبیر، یأتی اتجاه الحرکة فی دورة ترامب وفقًا لخطة صفقة القرن بدءًا من المحیط العربی ومرکزه فلسطین، وهذا یعنی أن أمریکا قد اختارت تدشین سیاسات جدیدة فی إطار تطبیع العلاقات العربیة الإسرائلیة بدلًا من سیاساتها السابقة الفاشلة والتی کانت تتمحور حول ترؤس مفاوضات تطبیع بین الفلسطینیین والکیان الصهیونی، لتجعل فلسطین فی الحصار عربیا وإقلیمیا حتى یدخلوا فی المفاوضات الأخیرة مع إسرائیل دون أی دعم وظهیر لهم وبالتالی یستسلمون، لذا فالشیء الواضح حالیًا من إطار التطبیع العربی الإسرائیلی هو ابتعاد العلاقة العربیة الإسرائیلیة عن القضیة الفلسطینیة، کما نرى أنه لم تتم الإشارة أبدًا إلى القضیة الفلسطینیة فی نص اتفاق التطبیع بین الإمارات العربیة المتحدة والبحرین مع الکیان الصهیونی، بل نرى أن بعض بنود الاتفاق تجعل السیاسة الخارجیة للإمارات والبحرین أسیرة هذا الاتفاق فی تعاملهما مع القضیة الفلسطینیة. إن إستراتیجیة جعل فلسطین وحیدة منفردة هی نفس الإستراتیجیة التی کانوا یریدون فرضها على الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة، أی یجعلوها منعزلة إقلیمیًا ودولیًا ومستسلمة بشکل کامل، إلا أن هذه السیاسة قد فشلت فشلًا ذریعًا، لذا ففی الوقت الحالی سوف یذهبون إلى حلفاء الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة فی المنطقة والعالم الإسلامی.
فی هذه الأثناء، نرى القرع على طبول فزاعة إیران فی إطار أطروحات الإیرانوفوبیا، وهی الفزاعة التی تستخدمها بعض الأنظمة العربیة لتبریر تطبیعها للعلاقات مع الکیان الصهیونی، لأن الرأی العام فی هذه الدول لم یقتنع بعد بتطبیع العلاقات مع هذا الکیان، من أجل ذلک یریدون أن یحرفوا أذهان الرأی العام نحو الخطر الإیرانی الوهمیبدلًا من الخطر الإسرائیلی، حیث جاءت تصریحات السیناتور الأمریکی متمحورة حول أنه لو لم تکن أمریکا موجودة لکان الشعب السعودی یتحدث الفارسیة الآن، وهذا أیضًا فی سبیل خلق فزاعة وتهدید وهمی من إیران للدول العربیة. من الواضح أن أمریکا ترى أن تحسن العلاقات بین السعودیة وإیران لا یصب فی مصلحتها ولا مصالح الکیان الصهیونی، ومن هذا المنطلق أصبحنا نشهد موجة بل موجات کبیرة من الإیرانوفوبیا فی المنطقة عبر أمریکا والکیان الصهیونی فی البدایة ومن ثم حالیًا توحدت الألفاظ والتصریحات بینهما وبین بعض الأنظمة العربیة.
إن کل طرق الإستراتیجیة الأمریکیة فی منطقة غرب آسیا وشمال أفریقیا والعالم الإسلامی تؤدی إلى إسرائیل، کما أن کل السیاسات الأمریکیة تتمحور حول دعم الصهیونیة والحفاظ على إسرائیل کنقطة مرکزیة، حیث خُتم شعار “أمریکا أولًا” فی حکومة ترامب ب”إسرائیل أولًا” بشکل عملی، حتى فی اتفاق السلام بین صربیا وکوسوفو الذی تم بهندسة وضیافة الحکومة الأمریکیة، فُتح فیه معبرًا نحو القضیة الفلسطینیة ودعم إسرائیل، وهنا أرى أنه قد تم تضمین ثلاثة بنود مباشرة حول القضیة الفسطینیة فی هذا الاتفاق: 1- اعتراف کوسوفو بإسرائیل 2- فتح سفارة لصربیا وکوسوفو فی القدس (التی تُعد عاصمة إسرائیل من وجهة نظر أمریکا) 3- إدانة حزب الله اللبنانی ووضعه على قائمة المجموعات الإرهابیة.
إن تطبیع العلاقات مع الکیان الصهیونی لهو خطر کبیر على العالم العربی قبل أن یکون خطرًا على فلسطین وشعبها وهذا من ناحیة المصالح العربیة على المدى المتوسط والبعید، لأن التفوق الإسرائیلی على جیرانها الحدودیین والإقلیمیین هو مبدأ أساسی وضروری لدى مؤسسی هذا الکیان، حیث من وجهة نظرهم یجب ألا تکون هناک أی دولة إقلیمیة أفضل وأقوى من إسرائیل. یقع الفلسطینیون فی الخطوط الأولى والمرکزی فی المعرکة ضد المشروع الأمریکی البریطانی لتأسیس إسرائیل والهیمنة على المنطقة، ومن هذا المنطلق ممنوع أن یکون هناک تفوق عسکری واقتصادی على إسرائیل، وعلى هذا فلن تحظى أی دولة عربیة بالإمکانیات الوطنیة أو الخارجیة التی تؤهلها للتفوق على إسرائیل ویجب أن یکون أمن جیوش تلک الدول مرتبطًا بأمریکا وإسرائیل، کما یجب ألا یکون هناک أی تفوق اقتصادی إقلیمی على الاقتصاد الإسرائیلی، إلا لو کان التحکم فی هذا الاقتصاد بید الشبکة الدولیة الرأسمالیة وفی خدمة مشروعهم.
إذًا فإن أولئک الذین یتجهون نحو تطبیع العلاقات مع الکیان الصهیونی طمعًا فی زیادة القدرات العسکریة وشراء الأمن أو جذب الاستثمارات الخارجیة والمساعدات المالیة وتدعیم اقتصادهم، یعیشون خیالات وأوهام باطلة.
بما أن الدول العربیة هی المحیط الخارجی القریب بالنسبة لإسرائیل فإن الإستراتیجیة الأمنیة للکیان الصهیونی تعتبر اقتدار هذه الدول متعارضًا مع أمن واقتدار إسرائیل، وبما أن تأسیس إسرائیل هو مشروع للسیطرة على المنطقة والعالم الإسلامی، فمن وجهة نظرهم أن أی أمن وأی جیش أو اقتصاد حول إسرائیل یجب أن یکون تابعًا للهیمنة.
إن أمریکا ترید التخلص من حالة الرکود الطویل التی أصابت عملیة التطبیع عن طریق اللجوء لأضعف الحلقات فی الخلیج الفارسی وهی الإمارات والبحرین. تُعد السعودیة فی منطقة الخلیج الفارسی والجزائر فی منطقة شمال أفریقیا من الدول العربیة الهامة التی سوف تُستهدف بکل تأکید من قِبل أمریکا من أجل وضعها على مسار التطبیع، وهنا یجب أن أشیر إلى أنه على الرغم من اتفاقیة السلام بین مصر وإسرائیل التی تمت قبل أربعة عقود، فلا زال الشعب المصری لا یُظهر قبولًا لإسرائیل، ومن أجل هذا فهناک برامج ناعمة وثقافیة على جدول أعمال الکیان الصهیونی وداعمیه من أجل النفوذ فی العالم الإسلامی وتطبیع العلاقات الشعبیة والثقافیة والاجتماعیة، الانحطاط الثقافی ونشر ثقافة واستئصال الدین من حیاة الشعب وإضعاف المعتقدات الدینیة والاعتقادیة وإفساد البنیان العائلی والترویج للعلمانیة الفکریة والثقافیة فی العالم الإسلامی، ولو نظرنا نظرة عاملة سنجد أن جمیع أطراف الحرکة الثقافیة والاجتماعیة والسیاسیة والأمنیة والعسکریة والاقتصادیة أیضًا التی ینتهجها نظام الهیمنة فی العالم الإسلامی هی جمیعًا قطع تدور فی فلکِ واحد وهو التخلص من العالم الإسلامی وتدمیره، وهذا الهدف هو ماهیة وذات مشروع تیار الصهیونیة المسیحیة فی الغرب التی ظهرت جلیة فی حُکم الإنجلییین الأمریکیین للبیت الأبیض.
وفی هذا الإطار فإن تطبیع العلاقات بین السعودیة والکیان الصهیونی أمر یحظى بأهمیة کبیرة لدی واشنطن، لذا یجب على قادة السعودیة والعالم الإسلامی النظر إلى عملیة التطبیع مع إسرائیل نظرة أکثر کُلیة. إن التطبیع مع کیان تتعارض فلسفته الوجودیة وماهیته مع السلام والأمن والتقدم فی العالم الإسلامی والعربی وتنحیة القضیة الفلسطینیة واختصار الصراع على الأرض بین الفلسطینیین والکیان المُحتل للقدس، هو اختصار لقضیة مرکزیة وحیاتیة ومصیریة بالنسبة للعالم الإسلامی والعربی، وسوف یدفع الجمیع ثمن هذا الخطأ الفادح على المدى غیر البعید، لذا فحتى لو نظرنا انطلاقًا من المبدأ المادی والنفعی فإن مصلحة الحکومات الإسلامیة والعربیة فی أن تُبقی على القضیة الفلسطینیة فی محور الأولویات الإقلیمیة والإسلامیة وأن یبقوا أوفیاء لهذه القضیة، وبالطبع وبدون أدنى شک أن القضیة الفلسطینیة هی قضیة مقدسة جدًا للعالم الإسلامی وأکبر وأعظم من المعاییر المادیة وأن الأمة الإسلامیة لن تغض نظرها عنها./