حين تسبق الصحة الحرية!
بقلم: أحمد طه الغندور
لا شك بأن قضية الأسرى في “المعتقلات الإسرائيلية” تحتل مكانة هامة وعالية في الوجدان العربي والفلسطيني على وجه الخصوص، يهتم بها الكبير والصغير، السياسي والإنسان البسيط الذي يشغله قوت يومه، فكل الشعوب العربية التي ناضلت الاستعمار والاحتلال سطّرت في ذاكرتها السياسية؛ ملاحم أبنائها الأسرى الذين عانوا ظلمات السجن، بل ربما دفعوا حياتهم رخيصة في غياهب المعتقلات من أجل حرية أوطانهم!
وهذا ما زال عليه حالنا إلى اليوم في فلسطين، لدينا الآلاف من الأسرى في “معتقلات الاحتلال الإسرائيلي”، وهم يُشكلون كاف ألوان الطيف الفلسطيني، وكافة عناصر تركيبته الاجتماعية؛ رجالاً، ونساءً، وأطفالاً.
لكن أكثر ما يشغلنا حقيقةً بين هؤلاء جميعاً ـ وإن كانوا على درجة واحدة من المكانة في القلب والوجدان ـ إلا أن المعتقلين المرضى قد أرقوا الخاطر، وشغلوا العقل بما لا يطيق!
نعم؛ المعتقلون المرضى!
فقد تجاوز عددهم (1800) أسيراً في “معتقلات الاحتلال”، من بينهم قرابة (700) أسير بحاجة إلى تدخل علاجي عاجل، وبينهم مصابون بالسرطان، وعشرات الأسرى الذين يعانون من إعاقات مختلفة “جسدية ونفسية وذهنية وحسية”، كما تُشير إلى ذلك الدوائر الرسمية الفلسطينية.
وربما في سابقة نادرة، فقد أفرجت “قوات الاحتلال الإسرائيلي”، مساء الاثنين الماضي، عن الأسير المريض “نضال أبو عاهور” من بيت لحم، بعد تردي حالته الصحية بشكل خطير جداً، نتيجة إصابته بالسرطان والفشل الكلوي، وأن قرار الإفراج عنه جاء مقروناً بتقديم كفالة مادية!
لكن هذا الوضع ـ على رغم عواره ـ لم يحرزه بطل حوارنا لهذا اليوم وهو الأسير/ كمال أبو وعر، من بلدة قباطية في جنين، ويبلغ من العمر (46) عاماً، والذي جرى اعتقاله في 15/1/2003؛ بتهمة “مقاومة الاحتلال”، ويقضي عقوبة ظالمة بـ “السجن المؤبد” في “المعتقلات الإسرائيلية”.
ولعل أهم ما رشح ” كمال ” ليكون محور حديثنا اليوم، فإن أسيرنا البطل يكابد السجن والسجّان، وقد استعمر جسده “سرطان خطير” يفوق “سرطان السّجان” وحشية!
ذلك “السجّان” الذي يُمعن في الإهمال الطبي، والذي نددت به العديد من الشرائع الدولية، كما بيّنها القانون الدولي الإنساني، إلا أنه ـ أجهد نفسه ـ لكي ينقل مرض “الكورونا” الخطير إلى جسد ” كمال ” الضعيف!
نعم بكل هذه البساطة الفجة، ” كمال ” الأسير يعاني من سرطان في الحنجرة ومن فايروس كورونا، التي نقلها له “السجّان”، أكررها ثانية ولا أحد يعرف حقيقة وضعه الأن، بل لا أحد يستطيع زيارته في “المشفى” الذي تم نقله اليه مكبلاً بالأغلال، ومحاطاً بالجنود؛ حتى من طواقم “الصليب الأحمر” المتخصصة لمثل هذه المهام الإنسانية الحرجة!
تُرى ما هي الرسالة التي من الممكن تمريرها لـ “الاحتلال” كي “يفهموا” بأنهم تجاوزوا كل “الخطوط الحمراء” في هذه القضية، فهل سيكون مصير ” كمال” هو نفس مصير الشهيد ” سامي أبو دياك “؟!
هل لا زالت “الغطرسة” و “جنون العظمة” التي تحيط بـ “الفكر الاحتلالي” توحي لهم بأنهم “فوق القانون”، وبأنهم “مُحصنين من المسائلة” قادرة على تعقيد المشهد بالنسبة لهم، على الرغم بأن الوقائع على الأرض تُشير بوضوح إلى اقتراب وقت الحساب، وأن المحكمة الجنائية الدولية قد شرعت بالاستعداد لنصب الميزان لهم!
ولعله من المناسب لنا كي نتعرف على حقيقة المشاعر التي يكابدها أسيرنا البطل ” كمال أبو وعر ” وكافة زملائه الأسرى المرض؛ من خلال تجربة خاصة جداً لإحدى الشخصيات العالمية المرموقة؛ ألا وهو الرئيس الراحل علي عزت بيغوفيتش الذي قضى في العام 2003، وكان أول رئيس جمهوري للبوسنة والهرسك بعد انتهاء الحرب. هو ناشط سياسي بوسني وفيلسوف إسلامي، ومؤلف لعدة كتب أهمها الإسلام بين الشرق والغرب، وقد سُجن العديد من المرات، وكابد المرض في سجنه، ولخص تجربته في كلمات؛ لعلها تكشف لنا الحقيقة هنا!
يقول الراحل بيغوفيتش: ” “عندما تكون في السجن لا تكون لك إلا أمنية واحدة؛ الحرية، وعندما تمرض في السجن لا تفكر في الحرية وإنما بالصحة.
الصحة إذن تسبق الحرية”!
هذا ما توصل اليه الرئيس الراحل.
لذلك علينا أن نعمل بكل إخلاص ممكن، لإخراج ” كمال ” وكافة أسرانا المرضى من براثن “الاحتلال” بدافع أنهم مرضى، وأن الاستمرار في احتجازهم بهدف “إعدامهم” والإمعان في الإهمال الطبي بحقهم، هي جريمة حرب واضحة تستحق الإسراع بنقلها إلى ساحة العدالة الدولية دون تردد!
وذلك بسبب واحد؛ وحيد وهو أن الصحة تسبق الحرية!