كورونا والصين وفانتيدا
بقلم/ على الصاوي
استقبل العالم وباء كورونا بكثير من التفسير والتأويل ولم يسلم حتى من ترديد النكات لمعرفة مصدره، وهل هو حيواني المنشأ كما يُشاع أم مُصنّع بشريًا فيما يُعرف بنظرية المؤامرة، والتي يُرجّح كثيرون تورط دول كبرى في صناعته، دول تفننت في صناعة الموت عبر قرون، ولا تتورع في عمل أي شيء في سبيل تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية.
لكن تعالوا بنا نعود للوراء قليلا وتحديدا عام 2005 بداية عرض فيلم ” في فور فانتيدا” الذي يناضل بطله من أجل الحرية والانتقام لنفسه من النظام الشمولي في بريطانيا في زمن افتراضي هو عام 2020 الذي نعيشه الأن، يحلل الفيلم بنية النظام الشمولي، ويقدم نماذج متنوعة للشخصيات الانتهازية التي تجد في هذا النوع من الأنظمة تربة خصبة للانتفاع.
البطل الذي ظل متخفيا طوال عرض الفيلم وراء قناع “جاي فوكس” الشهير، اعتقلته قوات الأمن وأجرت عليه هو وبعض المسجونين _ يراهم النظام منشقين وخارجين عن القانون_ تجربة بيلوجية عبر فيروس قاتل وعندما تأكد “آدم ساتلر” المنتمي لحزب يميني متطرف وممول المشروع نجاح التجربة، استخدم الفيروس لشن حرب كيميائية استهدفت المدارس ومصادر المياه، فقُتل المئات وعمّت الفوضى البلاد، وعندما اقتربت الانتخابات ظهر “ساتلر” كمنقذ أسطوري ومعه الدواء الذي سيقضي على الفيروس، وبالفعل نجحت خطته وفاز بالحكم ليبدأ في إنشاء نظام سلطوي جديد يحكم به البلاد.
مشهد قصير من فيلم قد يراه البعض مجرد عمل فني برئ من أي إسقاطات على واقعنا المعاصر لكنه في نظري استشراف جيّد للمستقبل، وتنبؤ صائب للشرور التي تُحاك للعالم من فئة المنتفعين والمتحكمين في ثرواته، فالفرق بين الفن والسياسة أن الفنانون أحيانا يستخدمون الكذب لإظهار الحقيقة، بينما الساسة يستخدمون الكذب لإخفائها.
عندما نفتش في صفحات التاريخ نجد تشابه كبير في كثير من أحداثه لواقعنا الحالي، قوي عظمى تتصدر المشهد وقوى أخرى تنافسها وبينهما دول نامية تستجدي غذائها وحمايتها من تلك الدول، ووراء كل ذلك جماعات المصالح التي تحكم في الظل من خلف ستار الحكومات والأنظمة، وما النظام العالمي الذي تعيشه البشرية الأن إلا ترجمة عملية لهذا السيناريو المحكم والدقيق الذي لا مكان فيه للعبث ولا الصدفة.
ففي الأسبوع الماضي قالت قناة “إيه بي سي نيوز” الأميركية، إن المخابرات الأمريكية حذرت في نوفمبر الماضي من عدوى ستنتشر في منطقة ووهان الصينية، سوف تُغير أنماط الحياة وتشكل تهديداً للسكان، وأطلق التقرير إنذاراً بأن المرض الخارج عن السيطرة قد يشكل تهديداً خطيراً للقوات الأميركية في آسيا، وكان يمكن أن تستفيد منه الحكومة الأميركية في تكثيف جهودها واحتواء الأزمة في وقت مبكر، وقال المركز الوطني للاستخبارات الطبية التابع للجيش أنه أبلغ هيئة الأركان المشتركة والبيت الأبيض بنتائج التقرير مرات عدة منذ ذلك الوقت ولم يتحرك أحد.!
فلماذا تقاعست أمريكا التي يقبع بداخلها رؤوس مافيا النظام الدولي وفطاحل المرابين في العالم في التحرك للتعامل مع المعلومات سابقة الذكر؟ أو على الأقل تُنبه دول العالم أن هناك خطر محتمل يهددها؟ هل هو عدم الوثوق في دقة معلومات مؤسستها الاستخباراتية؟ أم فشل ترامب وسوء تقدير إدارته في التعامل بجدية مع إنذار المخابرات الأمريكية؟
لكن الغريب في الأمر هو ما قالته المستشارة السابقة في البنك الفيدرالي الأمريكي “ديمارت نوبوث” في لقاء تليفزيوني إن الصين عندما وقعت اتفاقية التجارة مع الولايات المتحدة في اكتوبر الماضي، أصرّت على أن تضع بندا في الاتفاقية يقول “إذا كان هناك أي نوع من أقدار الله وباء مثلا، فإن الصين لن تكون ملزمة بما تم التوقيع عليه للشراء من الولايات المتحدة! وبعد شهر وبالتزامن مع تحذير المخابرات الأمريكية ظهر أول مصاب بالفيروس في مدينة ووهان الصينية!
ويبقى السؤال هل العالم سيتغير بعد كورونا؟ ومن هو أكبر المستفيدين من الأزمة؟ النظرة العامة حتى الأن تقول إن أواصر العلاقات بدأت تتصدع بين عدد من الدول خاصة الاتحاد الأوروبي الذي تحول من أسطورة إلى خرافة حطم كورونا قيم تضامنه وزعزع الثقة بين أعضاءه، حتى أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال “إن هذه الفترة علمتنا الكثير وأن كثيرا من الأمور اليقينية والقناعات ستتلاشى.”
فالأوبئة لا تقل تأثيرا عن الحروب والأزمات الاقتصادية في إحداث تغيرات في النظام العالمي عبر بلورة نظام جديد أو تهيئة الأجواء لصعود قوى أخرى منافسة بجوار دول أخرى ظلت مسيطرة لعقود، وينبئنا التاريخ أن الأوبئة التي أصابت العالم قديما أعادت صياغة العالم على نحو شامل بعد أن قضت على مئات الملايين من البشر، وتسببت في انهيار إمبراطوريات، وتصدع حكومات، وإبادة أجيال بأكملها.
لذلك أرى أن الصين هي أكثر الدول المستفادة من الأزمة وهذا ما يزيد من الشكوك حولها، لا سيما وأنها تعاملت مع الفيروس بمكر سياسيا وإعلاميا وضللت المجتمع الدولي عبر أرقام ضحاياها الغيرصحيحة، وانتهزت الفرصة لتقديم مساعدات عاجلة لدول تضررت بشدة من كورونا لتخترق العمق الأوروبي عبر إيطاليا وإسبانيا، كما فعلت من قبل في أزمة 2008 عبر تقديم حزمة مساعدات كبيرة لليونان بحزمة تمويل لإنقاذ قطاع الشحن البحري بقيمة 5 مليار دولار، ثم تأجير 50% من الميناء اليوناني الأضخم ‘‘بيريوس‘‘ لمدة 35 عام لقاء 500 مليون دولار، وكل ذلك بسبب فشل آليات التضامن الأوروبي في إنقاذ اليونان والتخلي عنها.
والأن يتكرر نفس الأمر مع إيطاليا وبهذا تكون الصين قد ضمت عضوين أوروبيين بل منفذين بحريين يخدمان مصالحها بعيدة المدى وأبرزها مشروع الحزام والطريق العملاق، لذلك قال جون كنيدي أستاذ الشؤون الدولية بجامعة هارفارد “إن الصين قد تنجح وأن كورونا سيسرّع وتيرة تحول موازين القوى والنفوذ من غرب الكرة الأرضية إلى شرقها”.
وهنا أردد ما كُتب على أحد الجدران في مدينة هونج كونج ” إن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه، لأن وضعها السابق كان هو المشكلة بالأساس”. فهل كورنا مؤامرة حقا لإعادة رسم خريطة النظام العالمي وتقليص مساحات زمنية تمهيدا لصعود الصين، أم مجرد وباء طبيعي لا ناقة للبشرية فيه ولا جمل؟