مهند أبو عريف
المدقق في تاريخ العلاقات الدولية يلحظ أنه خلال نصف قرن تقريباً، شهد العالم أحداثاً متوالية من الصراعات والخلافات، بينما بقيت سلطنة واحة آمنة مستقرة؛ بسبب انشغال قيادتها السياسية ببناء البشر والحجر، كما بقيت عُمان ثابتة على مبادئها في إدارة سياستها الخارجية؛ غير متورطة في صراعات ترى أن حلها مُمكن على طاولة المفاوضات؛ لا في ساحات الحروب.
هذه المبادئ رسخها السلطان قابوس، منذ أعلن في خطابه الأول (23 يوليو 1970): “أتطلع إلى التعاون الودي مع جميع الشعوب؛ خصوصا جيراننا؛ وأن يكون مفعول ذلك التعاون لزمن طويل”. هذه المبادئ ذاتها؛ طبقتها القيادة السياسية العُمانية وأعلى من قدرها بين شعبه حتى على مستوى السياسة الداخلية؛ في زمن كان مليئا بالتحديات التي تهدد مستقبل عُمان. حيث استخدم قابوس -مُبكرا- لغة تعبِّر عن فكره الاستراتيجي على مدى عقود تالية.
“ثبات انفعالي”
وحين انقلبَ العرب على مصر رفضا لمبادرة الرئيس السادات لعقد اتفاق سلام مع إسرائيل بعد انتصار أكتوبر 1973؛ رفض السلطان قابوس قطع العلاقات مع مصر؛ وأوضح أنَّ من حق كل دولة إدارة مصالح شعبها حربا وسِلما. وكما أصدر السلطان قابوس مرسوما في 13 أكتوبر 1973 يقضي بالتبرع بربع رواتب الموظفين العُمانيين لدعم الجيشين المصري والسوري في حرب التحرير؛ اختار أيضا أن يدعم مصر في معركتها الدبلوماسية، على خلاف ما ذهب إليه قادة آخرون؛ لقناعته بصحة رأيه ورؤيته للمشهد؛ وقراءته الموضوعية للأمر الواقع؛ فماذا كانت النتيجة؟
مرَّت الأيام؛ وعاد العرب الذين قاطعوا مصر ونقلوا مقرَّ جامعة الدول العربية من عاصمتها إلى تونس لعشر سنوات وأكثر؛ عادوا للاعتراف بأنَّ المقاطعة ليست حلًّا بين أشقاء. أعادوا مقر الجامعة إلى القاهرة، وأدركوا أن الوحيد من بينهم الذي قرأ المشهد مُبكرا بشكل صحيح كان السلطان قابوس.
“سويسرا الخليج”
دُون إعلان رسمي أو حاجة لاعتراف دولي؛ فرضتْ سلطنة عُمان حيادها في محيطها الإقليمي – وتجاه العالم أجمع – كأمر واقع ومُمارسة ملمُوسة على مدى نصف قرن؛ حتى باتتْ تُعرف في الأوساط الدبلوماسية بـ”سويسرا الخليج”؛ وإنْ كان الأمر الواقع أيضا يمنحها لقبا أكثر عمقا واتساعا إذا ما قُورنت سياستها بسياسات العرب جميعا في العقود الخمسة الأخيرة: “سويسرا العرب”، لا الخليج فحسب.
ووفقاً لخبراء العلاقات الدولية، فإن “عُمان قابوس” تُفرّق جيدا بين معاني العُزلة والحياد؛ بل تفرّق بالممارسة بين نموذج الحياد السويسري في المطلق؛ ونهج الحياد الإيجابي الذي يجعل السلطنة في كل مرة ساحة للتفاوض والتقارب والصلح بين الفرقاء؛ على المستويين العربي والعالمي.
وقد بادرتْ سلطنة عُمان بالانتماء للجامعة العربية والأمم المتحدة، دون أن تسمح بأن يُفرَض عليها ما يُغير مَبادئها المستقرة منذ سبعينيات القرن العشرين، لذلك شاركتْ عُمان في تأسيس مجلس التعاون الخليجي في 25 مايو 1981؛ لكنها بعد 30 سنة تقريبا رفضت مُقترحا بتحويل المجلس من إطار للتفاهم والتعاون إلى اتحاد اندماجي على أُسس غير واقعية؛ قد لا تخلو بطبيعة الحال من أغراض “الهيمنة”، أو الرغبة في ممارسة تأثير إقليمي رُبَّما ينتقص من مبادئ السيادة الوطنية؛ والأخطر من ذلك: فرضية التورُّط في حِلف أو تكتُّل عسكري معادٍ لآخرين؛ على خلاف ما تؤمِن به القيادة العُمانية وشعبها في هذا الجانب.
واحة آمنة في عالم مضطرب
أيَّدت سلطنة عُمان تشكيلَ قوَّة عسكرية مُشتركة باسم “درع الجزيرة” لأغراض دفاعية. وبعد مُحاولات دبلوماسية مُتشعبة، وسعي دؤوب من جانب السلطنة لرأب الصدع بين الأشقاء إبان اجتياح “عراق صدام” للكويت؛ لم تتأخَّر عُمان عن المشاركة بقواتها في حرب تحرير الكويت؛ بعد أن باتت الجهود الدبلوماسية غير ذات جدوى.
ولأن من مبادئها عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، لم تُؤيد سلطنة عُمان الحل العسكري الذي لجأت إليه دول مجلس التعاون ذاتها – بدعم مِمَّا عُرف باسم التحالف العربي- لإنهاء أزمة الصراع في اليمن؛ إذ شدَّدت عُمان على أنه لا حل إلا بالتفاوض؛ وأنَّ المواجهات؛ طال أمدُها أو قصُر؛ مصيرها إلى طاولة التفاوض، وهو ما تُثبته الوقائع يوما بعد يوم.
ويؤكد خبراء العلاقات الدولية، أن هذه المبادئ العُمانية ضمنت للسلطنة سياسة “تصفير المُشكلات” و”النأي بالنفس” وتوجيه الطاقات البشرية نحو استدامة البناء والتنمية.