د. حذامى محجوب
بلاد كان الفن فيها دائما جوابا عن التحولات الاجتماعية والحروب والموت . هذه البلاد التي تمتد حضارتها إلى آلاف السنين والتي تطورت فيها الفنون منذ فترة ما قبل ظهور الإسلام( الفن المعماري ، وفنون الخط، والمنمنمات ….) فلقد كانت فيها هذه الفنون متقدمة زاهرة ولازالت كذلك إلى يومنا هذا. هذه البلاد هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تقدم لنا تجربة جمالية رائعة ومتفردة .ففي سنة 1979تم القضاء على نظام الشاه محمد رضا بهلوي الذي حكم البلاد مند سنة 1941والذي لقب نفسه بشاه شاه ملك الملوك على غرار ملوك فارس القديمة .وقد دعمت الولايات المتحدة الأمريكية هذا النظام الذي كان يحكم عن طريق “السافاك” وهو البوليس السياسي الذي كان يقمع كل نفس معارض دون أدنى رحمة أو شفقة . وتأسست بعد ذلك الجمهورية الإسلامية الإيرانية جمهورية وطنية مناهضة للامبريالية وتعتمد في تشريعها على مبادئ الشريعة الإسلامية.
* حُرمة الوطن!
وقد حاول صدام حسين أن يستغل الوضع السياسي المتردّي للبلاد بعد الثورة ليحتل الأراضي الغنيّة بالنفط لكن هذه الحرب ساهمت في تقوية النظام السياسي الجديد والتفاف الشعب الإيراني حوله للذّود عن حرمة الوطن .وقد تواصلت الحرب الإيرانية-العراقية من سنة 1980 إلى سنة 1988 وسقطت فيها حوالي مليون روح بشرية من الجهتين. ومع ذلك ازدهر الفن خلال الحرب الإيرانية-العراقية فقد قام الفنانون برسم العديد من الرسوم الحائطية والملصقات التي تروي الملاحم والقصص الدينية والسياسية في الفضاء العام –كان الفضاء العام حافلا بهذه اللوحات – لإيران إذن تاريخ فني ضارب في القدم في مجال الموسيقى والشعر والرسم والفلسفة. وكل الإيرانيين تقريبا الذين صادفتني الفرصة للحوار معهم يجمعون على أن الثقافة هي وحدها التي سمحت لحضارتهم بالعيش رغم كل الاضطرابات والتحولات التي عرفتها بلاد فارس خلال آلاف السنين التي مضت.
* الرقابة الذاتية!
سأحدثكم عن مرحلة ما بعد الثورة هذه المرحلة التي رافقت الحرب وسأركز على السينما الإيرانية مع الإشارة إلى بعض التجارب الفنية الأخرى .وسأبين كيف أن الفنانين الإيرانيين هم في مواجهة يومية لمسألة الفن والحياة بما أنهم يعيشون في كل لحظة مسألة الرقابة الذاتية التي هي أعسر من الرقابة نفسها. لما وصلت السينما إلى إيران في بداية القرن العشرين لم يكن عمرها سوى خمس سنوات .و أول مخرج إيراني هو ميرزا إبراهيم خان . وقد لقيت السينما الإيرانية نجاحا كبيرا بعد الثورة على مستوى المنتديات الدولية لطابعها المتميز وطبيعة القضايا التي تعالجها باعتبارها تعبر عن ثقافة فارسية أصيلة ومتفردة . وقد برز العديد من المخرجين الإيرانيين على الساحة الدولية كعباس كيا رستمي وجعفر ﭙناهى وكانت الأفلام الإيرانية حاضرة دائما في المهرجانات الدولية العريقة كمهرجان كان ولامسترا في البندقية ومهرجان برلين للسينما مما جعلها تخطف أنظار العالم وتشدّ ملايين المشاهدين إليها.
* هواية شعب!
لقد عرفت السينما الإيرانية نجاحا باهرا واعترافا دوليا متواصلا بتميزها وذلك منذ بداية سنة 1980أي منذ الثورة الإسلامية ، فكيف يمكن أن نفسّر نجاح أعمال سينمائية تعمل تحت رقابة شديدة ؟وكيف يمكن أن نفهم أن الأفلام التي يقع إنتاجها في جمهورية إسلامية تفوز بجوائز عالمية وتتميّز وتتألّق رغم كل القيود المفروضة عليها ؟ لا يمكن لأحد في العالم أن ينكر أن السينما الإيرانية هي منافس بلا منازع وحاضرة في كل المهرجانات والمسابقات الدولية وأنها تحظى دوما بالجوائز والتتويجات. ولكن هذا الحضور لا يقتصر فقط على الساحة العالمية بل إن السينما في إيران تحظى بمكانة مرموقة في المجتمع ، في القاعات ،في الصحافة وحتى في الحياة السياسية: إنها هواية الشعب ومنتجة للصور وللمعاني.
* الإمام الخومينى.. سينما وفق المعاير الإسلامية!
في بداية الثورة الإيرانية وأثناء التحرّكات الشّعبية لم يقع تدمير قاعات السينما التي كانت تعد تقريبا 220 قاعة رغم أن نصفها تقريبا قد عطّل عن العمل لما شهدته هذه الفترة من حراك وحالة عدم استقرار. ومن المفارقات التي لا يفهمها العديد من الملاحظين خاصة الأجانب منهم أن آيت الله الخميني عند عودته إلى إيران في فيفري 1979 شجّع السينما ودعّمها لكنه اشترط تطهيرها من الرذائل وإنتاجها وفق المعايير الإسلامية. من هنا نفهم أنه إذا كان النظام السياسي الجديد يطمح إلى سينما عصريّة جديدة فلا بد إذن من تطويرها لأن السينما السّائدة قبل الثورة والتي كانت تعمل وفق نهج الفيلم الفارسي كانت مقتصرة على بعض المشاهد من الرقص والغناء والمشاجرات أو بالأحرى هي ميلودراما محمّلة بالمواعظ وهي لا تختلف بذلك عن السينما التركية والهندية والمصرية.وقد وقع تجاوز هذا النمط من السينما كما منعت كل الأفلام الغربية من العرض. لذلك فان كانت الدولة تريد المحافظة على الإنتاج السينمائي لا بد من دعم وتشجيع هياكله وتوفير الاعتمادات المالية اللاّزمة. ومن هذا المنطلق يتّضح بأن السينما في إيران أصبحت تخضع لمعايير جمالية جديدة وخاصة إلى تحديات مغايرة سواء كان ذلك داخل البلاد أو خارجها وهذه المقاييس متناغمة مع السّياسة الثقافية الجديدة التي انتهجتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية .
* سياق إبداعى!
إن الإبقاء على السّينما وتدعيمها في الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعدّ مسألة أساسيّة بعد الثّورة في الثمانينيات بعد أن أغلقت الحانات والملاهي الليلية ومنعت الحفلات الموسيقية في تلك الفترة. وقد كان أيسر بالنسبة الى النظام السياسي مراقبة السينما من مراقبة مظاهر التسلية الأخرى. لقد ازدهرت إذن السينما الإيرانية ما بعد الثورة في فترة الحرب مع العراق وفي ظل سياق إبداعي عليه قيود كثيرة حتى وصلت في سنة 1990 الى انتاج سبعين فيلما طويلا في السنة والآن الى مائتي فيلم بين كل من القطاعين العام والخاص بتدعيم واعتمادات من الدولة للقطاعين. وقد رسم محسن مخملباف خطّا جديدا للتعبير السينمائي متماشيا ومتناغما مع سياسة الجمهورية الإسلامية. ووقع التركيز فيه بالأساس على احترام العادات الإسلامية والعدالة الاجتماعية .أما رخشان بنى اعتماد فهو يقدّم لنا في أفلامه مشاهد من اختلال الممارسات الاجتماعية ويتحدث عن المحظورات والممنوعات التي تشغل المجتمع عن طريق أفلام شعبية تتأرجح بين الكوميديا والدراما مثل “الكانري الأصفر” 1989 أما عن عباس كيا رستمى فعن طريق فيلم “أين بيت صديقي ؟ “سنة 1987 وأمير نادرى بفيلم “المتسابق” 1985 فازا باعتراف دولي في لحظة تاريخية كانت فيها أغلب وسائل الإعلام في العالم تشيطن الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتتجنى على كل ما تنتجه هذه البلاد. فكانت السينما إذن هي التي سمحت للعالم آنذاك بأن يكتشف بلدا غنيا بالفنون وبالصور الإيكوغرافية ذات حركية فنية كبرى وكذلك حوارات حول رهانات الصورة.
* الحقيقى والخاطىء.. تغير تاريخى!
فعن طريق فيلم “اغلق” لعباس كيارستمى و”تاكسي طهران” لجعفر ﭘانهى أكد هذان المخرجان على العلاقة بين الفيلم الوثائقي والفيلم الخيالي وكأن العلاقة بين الحقيقي والخاطئ متقلبة ومتغيرة وتاريخية.ففي ظل نظام إسلامي يرى البعض أنه يحتكر الحقيقة بشكل ما تنتج السينما رسالة سياسية لزعزعة هذه القيود وهذه الممنوعات .وهذه الطريقة أطلق عليها المشتغلون بالسينما الإيرانية اللمسة الإيرانية iranian touch أي الطابع الخاص المتفرد والمتميز للسينما الإيرانية . انه يعكس حيوية الإبداع ويفسر النجاح الباهر للسينما الإيرانية بعد الثورة .و هذه الحيوية تتجدد في كل لحظة وترافق التطورات السياسية التي تحصل في البلاد. كما نسجل أن للتداول على الحكم وتسلم السلطة من قبل الإصلاحيين في سنة 1997على يد محمد خاتمي الذي كان وزيرا للثقافة والإرشاد الإسلامي ما بين 1992- 1982 قد صادف نفس الفترة تقريبا إسناد السعف الذهبي لمهرجان كان الدولي لعباس كيا رستمي عن فيلمه “طعم الكرز1997” وحصد المخرجون الإيرانيون العديد من الجوائز الدولية بعد هذه الجائزة العالية فلقد حصل جعفر ﭙانهى في البندقية على جائزة الأسد الذهبي عن فيلم “الدائرة “سنة2000 وكذلك اقتسم كل من حسن يكتاﭙناه وبهمن قدبى بالتساوي جائزة الكاميرا الذهبية لمهرجان كان سنة 2000.
* برسبوليس.. تضارب حياة!
أما مرجانه ستراﭘى فان أعمالها تدل على قدرة الصورة على رسم تجربة ذاتية تطرح مسالة الهوية والسياسة وهذا ما يفسر نجاح ورواج برسبوليس أو ذكريات مرجانه ستراﭙى 2000. فأعمالها رغم أنها لم تكن تعكس رأي أغلبية الشعب بعد الثورة الا أنها تعبر عن وجهة نظر فئة من الإيرانيين وهي الفئة التي فقدت امتيازاتها بعد الثورة. وكعمل فني يبقى شديد الدقة في تصوير ما يمكن أن تفعله الأحداث التاريخية والتغيرات السياسية على الواقع المعيش والتناقضات الصادرة عما يحصل من تضارب بين الحياة الخاصة والحياة العامة في بلد ما. لقد صورت مرجانة ستراﭙى على طريقتها مناخ الريبة وعدم الاستقرار الذي ساد في فترة الحرب والذي تزامن مع تأسيس نظام سياسي جديد قائم على مفاهيم جديدة وقوانين صارمة.
كما نشهد في إيران الاستعمال المكثف للكاميروات الصغيرة لتصوير ما هو حميمي لصعوبة تصويره في الجمهورية الإسلامية أو لمساءلة التطورات السياسية والاجتماعية للبلاد وهذه الأفلام الوثائقية والأفلام القصيرة التي يقع إنتاجها عن طريق وسائل إنتاج بسيطة كالألواح الرقمية أو الهواتف المحمولة لا يقع عرضها في قاعات السينما ولكن تعرض في المهرجانات وتنتشر على الشبكات الموازية. هنالك إذن وسائل عديدة لمداورة الرقابة ،ففي فيلم شيرين لعباس كيار ستمى لا نرى خلال كامل لقطات هذا الفيلم الطويل سوى وجوه نساء يرتدين الحجاب وهن في قمة التأثر لأنهن ينظرن إلى أنفسهن”وهو فيلم مستوحى من أسطورة شعبية قديمة تروي قصة حب حزينة لشيرين وخسرو” ولكن عباس كيا رستمى أبدع في تجاوز الأسطورة حين وضع في الفيلم وراء وجوه المشاهدات وجوه المشاهدين وهو أمر غير ممكن في الواقع لأن هنالك في إيران فصلا بين النساء والرجال في قاعات السينما.
* جعفر بناهى.. الغائب الحاضر!
إذن عن طريق السينما استطاعت إيران أن تنسج علاقات مع بقية بلدان العالم في هذه الفترة الصعبة من تاريخها ومن عزلتها المفروضة عليها. وبعد موجة القمع الذي شهدتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية والتي رافقت انتخاب محمود أحمدي نجاد في سنة 2009 وقع سجن العديد من المخرجين السينمائيين مثل جعفر بنهى الذي حكم عليه بالإقامة الجبرية ومنع من العمل لمدة 20 سنة في الوقت الذي وقع استدعاؤه ليكون من بين أعضاء لجنة التحكيم لمهرجان كان السينمائي سنة 2010 فكانت صور كرسيه الفارغ الذي تناقلته القنوات التلفازية في جميع أرجاء العالم شاهدا حيّا على قيمة وقوة السينما الإيرانية من ناحية وفي نفس الوقت شاهدا على ما آل إليه النظام السياسي في إيران من انحراف.
خلال سنة 2015 وبعد أن وصل الإصلاحيون إلى السلطة مرة ثانية أحرز جعفر بناهى على الدب الذهبي لمهرجان برلين على فيلم تاكسي طهران، فبالرغم من خضوعه للإقامة الجبرية ورغم منعه من العمل، نجح جعفر بناهى في تصوير فيلم لا نكاد نميّز فيه بين الوثائقي والخيالي . فقد صور فيه نفسه وهو يلعب دور سائق تاكسي يجوب شوارع مدينة طهران حتى أن بعض الركّاب يتعرّفون عليه في بعض اللقطات من الفيلم.لقد وجد نفسه مجبرا على خلق طريقة جديدة على غرار الطريقة التي ابتكرها سنة 2011 في تصوير –هذا ليس بفيلم-مع صديقه منتانا ميرتماش الذي تساءل فيه عن ما الذي ينشأ السينما ؟-وقد تعرض في هذا الفيلم الى الصعوبات التي يتعرض لها المخرج في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وأهدى الفيلم إلى كل المخرجين الإيرانيين تقديرا لمجهوداتهم ويسأل المتفرج عن الاستعمالات المختلفة للصور وللمعتقدات انطلاقا من سيارة أجرة صفراء تتنقل في مدينة طهران تتعاقب فيها وضعيات وحالات مختلفة ويكتشف من خلالها المشاهد مظاهر مختلفة من المجتمع الإيراني المعاصر.
* المسكوت عنه!
والأفلام الإيرانية لها وقع وصدى اجتماعي كبيرين ورغم أنها تحرص على احترام القواعد الإسلامية على الشاشة ولكن تكمن قوة السينما الإيرانية في مراهنتها على المسكوت عنه وغير المنطوق به فهي في صراع متواصل مع ما هو متجانس ومع الأيديولوجيا والرقابة. ما يعطي كذلك للشأن السينمائي الإيراني حيوية كبيرة وتفردا هي ما تولده هذه السينما عند عرض الأفلام من حوارات وصراعات في البرلمان والمجالس البلدية وكذلك في الشوارع والمقاهي فضلا عن المجلات المختصة والصحف اليومية والبرامج التلفازية.
*الرسول الأعظم.. أكبر ميزانية!
ولقد شهدت السينما سنة 2015 انتاج فيلم محمد رسول الله للمخرج مجيد مجيدى بأكبر ميزانية عرفتها السينما الإيرانية (34 مليون يورو) ووقع عرض الفيلم في مهرجان مونتريال وعرض في نفس الوقت في 140 قاعة في إيران. ويسعى هذا الفيلم حسب منتجه إلى تقديم شخصية الرسول على أنها شخصية متسامحة بعيدة كل البعد عن العنف خلال السنة التي ضرب فيها الإسلام السياسي القائم على مبدأ السنة العديد من البلدان في العالم وقد وقع الاعتراض على هذا الفيلم من قبل السلطات السنية التي تحرّم تجسيد الرّسل ووقع منعه من العرض في جلّ البلدان العربية. إذن سواء أكانت الأفلام الإيرانية شاهدا على لحظات مهمة من التاريخ أم تصور بكل جرأة اللاّوعي الفردي والجمعي لمن هم خارج إيران أوفرّوا منها les outsiders أو تركز على الجانب الشعري والجمالي في الفن فإن الفنانين الإيرانيين يعملون على تحويل الحياة إلى فن ويبتكرون بكل حرية فهم يبرزون ويعرضون المفارقات المعقدة المحايثة لمجتمع أسسه تقوم على قيم تقليدية وقوانين دينية ولكنها لا يمكن أن تفلت من موجة الحداثة.
يمكن أن نثق في الفنانين في إيران لأنهم المدافعون والمحافظون والرّاعون للشّريان الإبداعي . من هنا نفهم انتشار الأروقة تحت الأرض وهي فضاءات عرض وقتية لا تكون دائما تحت الأرض ولكن لها دائما طابعا سريا وتعرض فيها اللّوحات والصور والتركيبات التي تكشف عن رسوم عارية وتعتبر من الأجهزة الرسمية غير اللائقة او المحدثة للشغب . لذلك فإن هذه المعارض لا يمكن مشاهدتها إلا بمواعيد مسبقة مما يجعل أصحابها في خطر دائم. ففي إيران كل افتتاح معرض هو مخاطرة لأن المراقبين يمكنهم إزالة الأعمال الفنية في كل لحظة واستجواب المبدعين ورغم ذلك فان الاحتفالات مستمرة في إيران فكل الإيرانيين تقريبا يذهبون إلى الأروقة الفنية سواء كانوا من المثقفين أو من الطبقة المتوسطة والشباب الى درجة الزحام واكتظاظ حركة المرور في الشوارع التي توجد فيها الأروقة.
* .. الموت بالحياة!
ونشهد على الساحة الفنية نشأة جيل جديد من الفنانين وخاصة العديد من النساء بتوجهات ومطالب جديدة، هذا الجيل بعيد زمنيا عن الثورة وعن الحرب ولكنه جيل نشأ وترعرع في ظل قيود اجتماعية وسياسية . هذا الجيل ولد في جو شبه ليبرالي سنة 1998 حين وصل الإصلاحيون إلى الحكم .وفي سنة 1992 غطى أربعة رسامين برسومهم أرض وحيطان مبنى كان سيقع هدمه في طهران . كانوا على علم بقرار الهدم وكانوا يعرفون أن أعمالهم ستنقرض ولكنهم أقدموا على هذه التجربة الفريدة .فالعملية ترمز إلى فكرة التدمير الذاتي وتعويض القديم بالجديد . إنها ترمز إلى فكرة تعويض الموت بالحياة . العديد من التجارب المماثلة في السنوات المتتالية، فقد أدان النّحات والفنان الذهني سياه ارمجانى في أعماله الحرب والموت وخلال حرب الخليج الثانية سنة 2004 حين وقع تدمير مدينة الفلوجة العراقية ذات المئتي مسجد وتدمير خمسة آلاف بيت من بيوتها رد ارمغان بالفعل بعمل فني قوي فلوجه 2004-2005 وهو بمثابة قرنيكة لبيكاسو 1937 وهذا العمل يتمثل في حصان قفز وسط اللهب وهو بذلك يستنكر سياسة الولايات المتحدة الأمريكية ومعظم البلدان المتورطة في الحرب على العراق تمانع اليوم بشدة عرض هذا العمل الفني، كما نجد عملا فنيا آخر يدين الجرائم والموت يتمثل في معرض تحت عنوان موت في طهران 2009 وهو عربون وفاء للطلبة الإيرانيين الذين قتلوا في الشوارع حتى يظلوا دائما أحياء.
إن الفنانين الإيرانيين الذين جاؤوا بعد الثورة قد أتقنوا دائما مداورة القيود وما هو مسموح بقوله وعرضه وقد استفادوا من الفترات التي يقدمها لهم النظام السياسي خلال مختلف تطوراته لذلك نرى أن المجاز والشاعرية يغلبان على السينما الإيرانية خلال الأربع عقود المنقضية فالسينما هي لعبة تتأرجح بين ضبابية الواقع والخيال وتداخلهما بكشفها وإبرازها لمتناقضات الحياة الثقافية والتاريخية المركبة للبلاد .كل هذا شكل مصدر غنى للإلهام وللإبداع، ,فاليومي دخل تدريجيا في نسيج الفن والإبداع الإيراني فمعظم المخرجين والمصورين الإيرانيين قد اختاروا البقاء في بلادهم رغم كل الصعوبات .”هذا سيختفي” اين نيز مى ﮔذرد” هذا المثل الإيراني يعبر عن قناعة عميقة أن كل شيء : الشباب –الصحة-الجمال –السلطة –الألم-المعاناة واليأس …كل شيء زائل ولهذا فان قدر الإنسان ان يصبر ويقاوم وينتج ولا يهجر بلاده لأن المنفى هو نمط حياة ، نحن لا نعود منه أبدا …لا يوجد مكان نذهب إليه.
وقد أخبرني فنّان إيراني في يوم ما بأن اليورانيوم الحقيقي في إيران هو الفن. هذا هو مصدر قوة وتميز الفنانين الإيرانيين وبهذه القناعة استطاعوا أن يواصلوا ويحافظوا بكل امتياز وتميّز على الشريان الإبداعي للمجتمع.