بقلم: د. حذامي محجوب
يحتفل الشعب الجزائري الشقيق بالذكرى الرابعة والستين لانطلاق ثورة التحرير الجزائرية التي اندلعت في الفاتح من نوفمبر 1954 ودامت 7سنوات ونصفا من الكفاح المسلح بقيادة جبهة التحرير الوطني الجزائري .وقد حققت هذه الثورة العظيمة أهم أهدافها بحصول الجزائر على استقلالها في 5جويلية 1962، وبهذه المناسبة يسعدني أن أقدم للقراء “مقتطفات من مذكرات أسير خلال ثورة التحرير الجزائرية” وهو سعادة سفير الجزائر بتونس عبد القادر حجار مجاهد من الرعيل الأول عرف غياهب السجون والمعتقلات وقاد معركة التعريب في الجزائر بعد الاستقلال فضلا عن مساهمته في بناء الدولة الجزائرية الحديثة وتجربته الديبلوماسية الغنية والعريقة .وقد اخترت للقراء هذا النص المتعلق بليلة 19مارس 1962عيد النصر وفيها خواطر تلك الليلة وكيف عاشها هذا الأسير السياسي الذي يعدّ رمزا من رموز الكفاح في الجزائر مع رفاقه الثلاثة في زنزانة من سجن الشلف بعد سماعهم لخطاب المرحوم يوسف ابن خدة رئيس الحكومة المؤقتة من إذاعة تونس وبعده خطاب الجنرال ديغول من فرنسا عن طريق المذياع ،وقد صور لنا الفرحة العارمة للسجناء في تلك الليلة، ثم خاطب السجن اللعين يودعه بعبارات مؤثرة .لقد ارتأيت أن يطلع عليه القراء وخاصة الشباب من جيل الاستقلال تعميما للفائدة وتذكيرا بأن استقلال البلدان و بناء الدولة الحديثة قد دفع ثمنه غاليا مجاهدون أشاوس ، فلقد ذهب ضحية المقاومة العسكرية في الجزائر حوالي مليون ونصف المليون شهيد وأكثر من 600ألف سجين في السجون والمعتقلات هم مساجين ومعتقلين ثبتوا على العهد رغم أهوال التنكيل والتعذيب ،وتحدّوا بصبرهم السجن والسجان ، وصاروا أجزاء صلدة وصلبة أقوى وأعتى من سجون المستعمر ،فتحولت هذه السجون الى مدارس رفيعة لصنع العزائم والارادات في قلوب وعقول الرجال والأبطال .
” وأخيرا جاء النبأ ، وصدق الوعد ، وعد الإله الحق الذي وعد به عباده المخلصين الواثقين بنصره، والذين ردّدوا من غياهب السجون ، أو من قمم الجبال قوله الكريم :” وانّ جندنا لهم الغالبون” .وافرحتاه إ وصل النبأ ،سمعه أخوك من أعماق زنزانته على أمواج الأثير ،هو ورفيقاه في تلك الساعة الرائعة ،من ذلك اليوم المشهود في ذلك الربيع البهيج ،من تلك السنة الفريدة .سمعوه وأبواب السجن والزنزانة موصده دونهم. هتفوا من أعماق الصدور ، وبأصوات خافتة، تطبيقا لتعليمات الثورة . ربّاه إ حتى هذه الفرحة الكبرى ، فرحة الاستقلال، فرحة الفكاك من الأسر وشيكا يبقونها مكبوتة في الصدور، خوفا من انتقام جلاديهم ،ثأرا ونقمة للهزيمة أمام ثورتهم العملاقة إ هتفوا: الله أكبر ، تحيى الجزائر. ردّدوها مرارا و تكرارا ، الله أكبر تحيى الجزائر. وثبوا كأطفال يعانقون بعضهم رغم ضيق المكان. وقضوا الليل كله نشيدا فنشيدا . زأروا كأسود مازالت دونها الأقفاص .وباتوا ليلتهم تلك سهارى ، سكارى بالفرحة حتى الصباح .أيّ عين يغالبها النعاس ؟ أيّ سهاد يغازل الجفن؟ وأية فرحة هاته التي تملأ القلب؟ وأيّ جناح هذا الذي لا يريد التحليق في فضاء بعيد، بعيد عن السجن؟ وتحول سجنهم في تلك اللّحظات الفاصلة، والتي كان قبلها سجنا مظلما باردا مكفهرّا طوال سنوات الاعتقال، تحول الى ذكرى عطرة مفعمة بالعزة والافتخار، ذكرى عامرة ثامرة لبطولات وأمجاد، ذكرى شرف ووسام للتآلف والتآخي أمام المحن والشدائد. تحول سجنهم ذلك الجبار العتيّ الى مجرد أسوار ذليلة كسيرة يجرجر وراءه المخازي والمعرّات، ليظلّ وصمة عار في جبين بناته إلى يوم الدين. لا شك أنك تتصور يا أخي كيف قضوا ليلتهم تلك ،وآذانهم ملتصقة بالمذياع ،وهم يتابعون من إذاعة تونس ،وهي تنقل خطاب رئيس حكومتهم المؤقتة ،الرئيس يوسف بن خدة ،يعلن نبأ إيقاف النار ،ونبأ النصر بالاستقلال .ويتسمّعون ويسمعون ،ويزيدون من تلك الكلمات الخالدات التي أعلنها مذيع الثورة ولسانها وخطيبها ،ومحرّض الهمم والعزائم ،ومبكي القلوب والأفئدة ،عيسى مسعودي، يعلن، وصوته المتهدّج ،يحسّونه هم هنا من غياهب السجون ،يغالب العبرات ،يعلن خبر البشرى :” يا ثوارنا الأشاوس في قمم الجبال ،ويا أبطالنا الصامدين في غياهب السجون والمعتقلات ،ويا شعبنا الأبيّ وراء الأسلاك في التجمّعات والمحتشدات ،في المدن والأرياف ،ها قد تحقق لك النصر المؤزّر بالعزة والكرامة ،بالحرية والاستقلال”. باتوا ليلتهم تلك ،وصوته معزوفة تردّدها أبواب الزنازين. أنشودة تهز أركان السجن ,أغرودة تشنّف الأسماع ،وتهدهد الأحلام حتى الصباح .وليس يدري أخوك ،لو نام تلك الليلة ماذا كانت تكون عليه أحلامه، لاشك أنها كانت تتلون بالورود العطرة يستنشقها حلما كأنه يتنشقها في اليقظة ،وتتنوع لناظريه بأمان وردية ،يراها من وراء سجف الغيب حدسا، تنبئ بمستقبل زاهر للبلاد والعباد.
“………….”وتأمل طويلا في جدران زنزانته ولونها الأغبر الكالح ، والتي كان يحفظ كل أثقابها وأثغارها وشقوقها لكثرة معاشرته لها ، ومكوثه الطويل وراء قضبانها ,وجال به الفكر في جنبات السجن كله ،فتذكر أقبيته وعنابره وزنازينه واحدة واحدة، لأنه تنقل بين أغلبها. وناجاه من أعماقه شامتا ومذكّرا : آه منك أيها السجن اللعين ، كذا تنقضي زهرة الشباب بين أسوارك الصلبة ، وعسسك الزبانية ،محروما من نعم الكون التي هي ملك مشاع بين بني البشر جميعا ،والتي ليست قابلة للتمييز أو التحييز ،ولا خاضعة للّون أو العرق ،ولا للمذهب أو الدين ،محروما من نعم الكون كطلوع الشمس وغروبها ، كاهتلال القمر وأفوله ،كمسايرة النجوم وعدّها، وهي تسبح في فلكها .خمس سنوات لم تباغته فيها أشعة الشمس عند الشروق حتى من كوّة صغيرة في زنزانته. ولم يتطلّع خلالها لخيوط فجر تنساب من بين غبشات الظلام طلائع بشر لطلوع شمس ، كم اشتاق البصر لمداعبتها. اشتاق أن يراها وهي تصعّد برفق من وراء قمة أو أكمّة مختالة جميلة رقيقا شعاعها ، مداعبا أهداب العين قبل بصرها بشروقها . كما اشتاق ولخمس شداد أن يراها وهي تغرب في عين حماة تتهادى ببطء نشوى وراء الأفق شفقا أحمر يبكي مغيبها. كما اشتاق أن يرى القمر هلالا أو بدرا ساطعا عند الغسق أو السّحر. وكم حنّت نفسه لمناجاته كليالي السّرى، عندما كان يناغيه بأغان بدوية ذهبية كخيوط شعاعه. والسماء ، وآه من السماء إ عظمة الخلق ،وآية الملكوت ،ودليل سعة الكون ،وجلال الخالق ،لم يرها الفتى ،ذلك الفضاء المديد الذي لا يحده حدّ .السماء التي ترعرع وكبر يجيل البصر في أرجائها ،فينقلب البصر إليه خاسئا وهو حسير .وكان يعتقد ،ومازال بأنها سكن الخالق وعرشه، وفيها عروته الوثقى ،وبها سدرته المنتهى ،وفيها إليه عرج الأنبياء .وقضى العمر رافعا يديه وكفيه ضارعا ومتوسّلا ،لاعتقاده أنها محطّ دعواته ، ومناط إيمانه ومكان الاستجابة لابتهالاته وتضرّعاته .ورغم أنه يتلو في القرآن ” فأين ما تولّوا فثمّ وجه الله”، ورغم أنه ليس من المشبّهة ،ولا يقرّ للإله بالجهة ,فإن قلبه آمن ،ومازال يؤمن بأن خالقه في السماء ،لأنه من غير المعقول أن يكون جلّ جلاله بيننا ،وتبقى هذه الدواهي والشرور والمآسي بمعمورتنا .نعم هي السماء إ فقد شاء سجنه أن يحرمه من رؤية فضائها المديد، وسعتها اللامتناهية طيلة فترة الاعتقال . ولم يكن ير منها الا مساحة صغيرة من فناء السجن ، وغالبا ما كانت أسقف هذه الأفنية مغطاة تمنعه حتى من رؤية تلك المساحة الصغيرة والقليلة من السماء .خمس سنوات فقد فيها التمييز بين الفصول ،الا ما يشعر به من حرّ أو برد في جسمه الذي فقد الشعور من كثرة الرتابة والملل . لم ير صيفا كان بالنسبة اليه،هو ابن البادية ،علامة الخير و الابتهاج عندما تكثر الغلال من قمح وشعير .وكم كان يعشق البيادر والأغمار التي يحيطها الفلاحون بطقوس وابتهالات حتى ينزل الاله خيراته في المحصول وبركاته.
وكم كانت ترافق عملية الحصاد أهازيج ومواويل وأغاني عذبة رقيقة تخفّف عن أبناء قريته وطأة التعب وحرارة الشمس المحرقة ،وينتهي الصيف بأعراس وحفلات تيمّنا وتبرّكا بأولياء وأقطاب الجهة ،معتقدين فيهم الخير والصلاح .كما لم ير خريفا بأجوائه المعتدلة وفواكهه المتكاثرة وأوراق أشجاره المتناثرة .ولا شتاء بأمطاره وثلوجه ،ببروقه ورعوده ،بغمامه وسحبه. كما لم يزهر بسجنه الربيع بأزهاره وأنواره، بعصافيره وطيوره، فلم يره خمسا تباعا لا معشوشبا ولا مخضوضرا. كذا ضحى بنعم الكون من أجل نعمة الكينونة. قدم بهدي الاله زهرة العمر فدية على مذبح حرية بلاده. فأية شمس وضّاءة تداعبه أشعتها عند مطلعها والقلب مكبّل بأغلال الاستعباد، والعقل يئن تحت ديجور الظلام والجهل؟ وأية مناجاة لقمر يسبح في فلكه حرّا بين شموسه ونجومه لشخص عبد رأسه ومجد شعبه معفّر بالرغام ؟ كذا ضحى بشموس الكون وأقماره، بأصباحها وأمساءها، من أجل أن تسطع شمس الحرية ونورها في عقله وفكره ،وأن ترسل أشعتها الأبدية على أرجاء بلاده الجزائر ،دوما وسرمدا ،حتى يرث الله الأرض ومن عليها .سعد ليلتها بتضحية من أجل أن يصاحبه مجد الجهاد قمرا طالعا فوق غرّة الجبين ،يحمله تاجا ورمزا على الرأس أينما هلّ وحلّ ،من أجل أن يرافقه كوكب العزّة شعاعا في القلب في الحلّ والترحال ،من أجل أن يسطع نور الحرية في أرجاء النفس وخلايا الجسم دائما أبدا ، حتى يوارى الثرى في أرض الجزائر الحبيبة .
حرم خمسا من بهجة الربيع ليستزرعه في الروح زهورا وورودا ، ليستنشقه في الوجد شذا وعطورا ،ليتسمّعه طيورا تغرّد وألحانا تردّد في أذنيه على مر ّالليالي والأيام .حرم خمسا من رؤية السماء . فلتبق محط عزّته ومناط كرامته ، وموئل همته ووساد رأسه ،بعيدا هناك عن صغار الدنيا ،وتهافت الدّنى وسفاسف الدنايا.
وبعد هذا التجوال في جنبات السجن واستذكار شريط الوحشة والعذاب ، صاح من أعماقه مستشرفا : اتّقد يا عذابي اتّقد ،فأنت الشموخ والكبرياء .ذكّرني يا سجني وأذكر فأنت كنت لي ساحة للرجولة والإباء .هدهد يني يا ثورة الجزائر، ودثّريني وأعذريني إن قدمت لخلاص شعبي قليلا ، فالنفس وحدها أملك، جدت بها ،فأنت الكرامة والمعجزة .انتفض يا حلمي انتفض، واستمر، لتبق رفيق دربي طول المدى .ناغني يا ناي بداوتي بمواويلها في قريتي ،قد اشتقت اليك طويلا ،فأنت الرجع في القلب ،وفي الأذن أنت الصدى .كما صاح من أعماق قلبه في نشوة صوفية ،صافحا عمن أساء اليه من بني قومه ،ومتجاوزا عن وخزات الجروح ونخزات التجريح في تلك الليلة العظيمة من ليالي الجزائر ،داعيا و متضرّعا : سبحانك اللهم ، فمهما كان ظلم ذوي القربى ،فالاستقلال أكبر وأعظم ، ومهما كانت أخطاء بني ملته ،فالجزائر الأم ألطف وأرحم ،ومهما كانت النوايا فعهد الشهداء أشدّ وأوثق، ومهما كانت الخطايا ،فعفوك أوسع وأشمل .”