رئيس التحريرسلايدر

دُرة أشرف مروان.. وثورة الشك!

استمع الي المقالة

بقلم: أشرف أبو عريف

ونحن بصدد عرض فيلم “أشرف مروان” للكاتب هانى سامى فى الأيام المقبلة بعد تغيير عنوانه من “العميل”، كى يكون أكثر وضوحا أسوة بالأعمال الفنية الوطنية العالقة بوجدان العالمين العربى والإسلامى خصوصا كـــ <مهمة فى تل أبيب>، <الطريق إلى إيلات>، <أيام السادات>، <ناصر>، <رأفت الهجان>..إلخ. ومن ثم موافقة “الرقابة على المصنفات الفنية” لعرض الفلم فى الثامن من الشهر المنصرم.. أغسطس/آب 2018.

وهذا ما يثير الشهية لتسليط الضوأ على صهر الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر الذى خدع إسرائيل فى حرب العاشر من رمضان/أكتوبر 1973 وقدرته الفائقة على تضليل إسرائيل بتقارير ميدانية عن الحرب وموعدها.. وبالتالى، لا شك أنها ساعدت مصر فى إنجاز أهدافها خلال ساعات أربع..

نعم ستبقى شخصية “أشرف مروان” حيا أو ميتا، وكسكرتير الرئيس الأسبق أنور السادات لشئون المعلومات، مادة صحفية دراماتيكية خصبة مثيرة للجدل بسبب كارزمة “مروان” المعقدة بالألغاز، خاصة العنصر الذى كشف اللثام عن العقدة الأكبر من حياة أشرف مروان.

وباستثناء التصريحات الرسمية المصرية التى لا زالت تؤكد وطنية أشرف مروان، إلا أن بعض المصادر الإسرائيلية تناولت “مروان” بعناوين “حياة الجاسوس- أفضل جواسيس القرن العشرين، الجاسوس المثالى”.. إلا أن <إيلى زاعيرا> رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية خلال حرب أكتوبر1973 أشاد بــ “أشرف مروان” بشكل غير مباشر ومدى براعته فى إنتصار مصر على إسرائيل حسبما جاء فى مذكراته عام 1993.

البعض إعتبر رأى “زاعيرا” جاء انتقامًا من رئيسة الوزراء آنذاك “جولدا مائير” وكذلك وزير دفاعها آنذاك “موشى دايان” لتبرأتهم بواسطة لجنة “أجرانات” من الهزيمة واعتبرت “إيلى زاعيرا” المسؤل عن نكسة إسرائيل. وقال “زاعيرا” أن “المصدر” بالإشارة إلى “أشرف مروان”، الذى اعتبرته إسرائيل لسنوات أهم عناصرها للإنذار بالحرب مبكرا بالحرب، كان “درة تاج خطة الخداع الاستراتيجى المصرية”التى أصابت القيادة السياسية الإسرائيلية فى مقتل شديد أدى إلى عدم الإكتراث بتقارير ميدانية صريحة تنذر بواقعية الحرب.

* .. بل أيضا!

ليس “زاعيرا” فحسب، بل أيضا “أهارون بيرجمان” المؤرخ الإسرائيلى كان أول من كشف عن اسم أشرف مروان بصراحة فى كتابه “تاريخ إسرائيل” المنشور فى 2002 حيث جزم وأكد أن “أشرف مروان” يُعدْ “بطلًا قوميًا مصريًا” له نصيب الأسد فى خداع إسرائيل والتنكيل بجهاز الموساد الإسرائيلى آنذاك.

* أخطر جاسوس!

وبحسب ما جاء بالزميلة “اليوم السابع”، إلا أن هناك نظرية إسرائيلة أخرى ترفض تصديق أن أخطر وأهم جاسوس فى تاريخ المواساد لم يكن إلا عميلًا مزدوجًا يعمل لصالح مصر، وأوقع إسرائيل فى أكبر خدعة تعرضت لها، وساهم فى تحقيق مفاجأة كبرى على المستويين التكتيكى والاستراتيجى، فى وقت اعتقد فيه القادة العسكريين أن عصر “الحرب المفاجئة” قد ولى بسبب تطور تكنولوجيا التجسس من أقمار صناعية وطائرات الاستطلاع، وغيرها من الوسائل التى ترصد تحرك أى قوات بشكل فورى.

* الملاك!

كتاب “أشرف مروان.. الملاك الذى أنقذ إسرائيل” للمؤلف الإسرائيلى أورى بار يوسف، أستاذ العلوم السياسية فى جامعة حيفا والخبير فى مجال المخابرات، والذى صدرت ترجمته الإنجليزية خلال شهر أغسطس الماضى، آخر المؤلفات الإسرائيلية التى تزعم أن “مروان” كان “جاسوسًا مخلصًا” أنقذ إسرائيل من كارثة كبرى خلال حرب أكتوبر.

* مزاعم!

الكتاب الذى آثار ضجة مؤخرًا بعد عرضه على بعض المواقع الإلكترونية، وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعى، لم يقدم جديدًا عما نشر من قبل حول أشرف مروان إلا بعض المزاعم التى سنعرضها ونفندها فيما يلى بعد عقد مقارنة مع سير المعارك العسكرية على الأرض.

الجبهة السورية.. أخطاء استراتيجية وتكتيكية

يزعم الكتاب فى مجمله إن “مروان” أنقذ إسرائيل من كارثة بعدما أبلغ رئيس الموساد تسيفى زامير فى الخامس من أكتوبر بأن مصر وسوريا ستشنان هجومًا مشتركًا فى السادسة من مساء اليوم التالى 6 أكتوبر، مشددًا على أن معلومات “مروان” دفعت إسرائيل لحشد قوات الاحتياط لتصل فى الوقت المناسب إلى الجبهة السورية، لتصد الهجوم السورى وتعيده إلى خطوط ما قبل إطلاق النار.

* الخطأ الأكبر!

ولتفنيد تلك النقطة، التى تمثل عصب الكتاب سالف الذكر، علينا أن نعود لليوم الأول للحرب على الجبهة السورية، حيث حققت القوات السورية نجاحًا كبيرًا فى اليوم الأول، واستطاعت تحرير ثلثى الجولان قبل أن ترتكب الخطأ الأكبر، والذى كلفها الحرب، وتتوقف قبل منتصف الليل عن التقدم لاحتلال باقى أراضى الجولان، رغم أنها كانت فارغة تقريبًا من المدرعات الإسرائيلية، وكانت الطرق مفتوحة أمام الدبابات السورية للوصول إلى حافة هضبة الجولان والتحصن فى مواقع يصعب اختراقها، إلا أن مركزية اتخاذ القرار حالت دون السماح للقادة الميدانيين السوريين باستكمال الهجوم وخضعوا لأوامر القيادة السياسية فى دمشق بالانتظار لصباح اليوم التالى لاستكمال الهجوم وكان هذا خطأ فادحا.

* نقاط تفوق!

وبحسب المؤرخ العسكرى البريطانى “إدجار أوبلانس” فى كتابه عن حرب أكتوبر- والذى يعد من أكثر الكتب حيادية عن الحرب- ارتكب المخططون السوريون خطأ عسكريا كبيرا عندما لم يعترفوا بنقاط تفوق الجيش الإسرائيلى، الذى كان يتفوق على العرب فى المدرعات، واختاروا أن يخوضوا حرب دبابات تقليدية، عكس القادة المصريون الذين اعترفوا بتلك النقطة وتحاشوا الدخول فى حرب تقليدية مع المدرعات، واختاروا مواجهة الدبابات الإسرائيلية بجنود المشاة المسلحين بصواريخ “ساجر” المضادة للدروع، واستخدموا الدبابات المصرية كمدافع ذاتية الحركة أكثر من استخدامها كدبابات بحتة، الأمر الذى أدى فى النهاية إلى فشل كبير على الجبهة السورية ونجاح ساحق على الجبهة المصرية.

الجبهة المصرية.. تضليل تام ومفاجئة كاملة

فى ضوء العلاقات المعقدة بين الرئيسين أنور السادات وحافظ الأسد قبل وخلال وبعد حرب أكتوبر، وما نشره الفريق سعد الدين الشاذلى رئيس الأركان الأسبق فى مذكراته حول خطة “المآذن العالية” وعلاقتها بالجبهة السورية، فإن ما يهم فى الحديث عن أشرف مروان وتحذيره إسرائيل من أن الحرب ستنشب فى الساعة السادسة من مساء السادس من أكتوبر، هو تأثير ذلك على سير المعارك على الجبهة المصرية، وهل ساعدت تلك المعلومة إسرائيل أم إنها ضللتها؟.. إجابة ذلك السؤال حاسمة فى تحديد لحساب من كان يعمل أشرف مروان.

* حافة القناة!

وفى رده على هذا السؤال يعترف أورى بار يوسف مؤلف الكتاب نفسه بأن ذلك أثر بشكل حاسم على سير المعارك على الجبهة المصرية، وقال نصًا فى أحد الأفلام الوثائقية عن حرب أكتوبر ” نعم .. نعم، أثر ذلك على سير المعارك، حيث أصدر شموئيل جونين قائد المنطقة الجنوبية أوامره لأطقم الدبابات الإسرائيلية بعدم التحرك من مرابطها فى سيناء إلى حافة القناة إلا فى الساعة الرابعة عصرًا أى قبل الموعد الذى أخبرنا به مروان بساعتين حتى لا يعرف المصريون أن موعد الحرب قد سرب”.

* الثانية ظهرا!

لكن الهجوم لم يأت فى الساعة السادسة مساء، وإنما جاء فى الساعة الثانية ظهرًا.. وهنا يطرح هذا السؤال نفسه هل أثر فارق الأربع ساعات بين موعد الهجوم المضلل والموعد الحقيقى على سير المعارك؟.. نعم فخلال الأربع ساعات كان الجيش المصرى قد حقق الهدف السياسى من الحرب وبدأ فتح الثغرات فى الساتر الترابى وعبرت الدبابات المصرية قناة السويس، وبدأ القادة المصريون فى تنفس الصعداء” بحسب ما قاله الفريق سعد الدين الشاذلى فى مذكراته عن الحرب.

* عش الحمام!

ليس هذا وحسب، ولكن نصف ساعة فقط كانت كافية لتغيير مسار المعركة، ونعود للمؤرخ العسكرى البريطانى أدجار أوبلانس، حيث قال: “ودخلت خطة الدفاع الإسرائيلية عش الحمام حيز التنفيذ بعد نصف ساعة من انطلاق الهجوم المصرى، واندفعت الدبابات الإسرائيلية بأقصى سرعتها نحو مرابطها بين حصون خط بارليف، إلا أن جنود المشاة المصريين كانوا قد حسموا سباق الزمن لصالحهم، واحتلوا وفخخوا مرابط الدبابات الإسرائيلية، الأمر الذى مكنهم من سحق الهجمات المدرعة الإسرائلية المضادة بسهولة”.

* الرسالة المشفرة!

ويزعم أورى بار يوسف فى كتابه أن أشرف مروان أخبر الضابط المسئول عن تشغيله بالموساد بأنه يريد مقابلة رئيسه – اللقاء الذى تم فى الخامس من أكتوبر- للحديث عن “مواد كيمائية”، مدعيًا أن تلك هى الرسالة المشفرة المتفق عليها عن الحرب، لكن رئيس جهاز الموساد نفسه قال فى الفيلم الوثائقى سالف الذكر إن مروان طلب مقابلته دون أن يذكر الرسالة المشفرة عن حرب وشيكة، كما أن إسرائيل لم تتخذ أى خطوات لتعبئة قوات الاحتياط إلا بعد عودة رئيس الموساد من لندن وبالتحديد فى الساعة التاسعة من صباح السادس من أكتوبر، وهو نفس التوقيت الذى عرف فيه الجنود المصريون بأن المعركة ستنشب فى الساعة الثانية ظهرًا.

* الضربة الجوية!

ويزعم أورى بار يوسف فى كتابه أن أشرف مروان زود إسرائيل خلال لقائه الثالث فى أغسطس 1971،  بالخطط الهجومية المصرية بشكل مفصل وأن تلك الخطط تطابقت “بشكل مذهل” مع المراحل الأولى للعبور، ليس هذا فحسب بل يمضى فى تلك المزاعم، مؤكدًا أن “مروان” زودهم بوثيقة وصفت القوات التى ستقوم ببناء الجسور، وأين ستتخذ مواقعها، وأيها ستعبر أولاً وأيها ستتلوها فى العبور، والكثير من التفاصيل العملياتية الأخرى، وكذلك معلومات كاملة عن القوات الجوية وخططها، ولتفنيد تلك المزاعم علينا العودة مرة أخرى لمجرى العمليات العسكرية على الجبهة المصرية فى المرحلة الأولى للحرب، فقد حققت القوات الجوية المصرية أهدافها كاملة وقصفت مراكز القيادة والسيطرة والمطارات وصواريخ الدفاع الجوى الإسرائيلية فى سيناء، وعادت دون أن تخسر سوى 8 طائرات فقط، وكان ذلك نجاحًا كبيرًا للضربة الجوية الأولى، ما دفع “الشاذلى” لإلغاء ضربة جوية ثانية كانت مقررة فى حال عدم تحقيق الضربة الأولى لنتائجها، ولا يوحى هذا النجاح الكبير بأن إسرائيل كانت لديها أى معلومات عن الضربة الجوية المصرية، وإلا كيف تحقق هذا النجاح الكبير بتلك الخسائر الضئيلة؟

* جنود المشاة.. الصواريخ المضادة!

وعلى الأرض وكما ذكرنا فشلت خطة “عش الحمام” الإسرائيلية فى صد هجوم الموجات الأولى لقوات المشاة المصرية، وبحسب إدجار أوبلانس لم تكن الدبابات الإسرائيلية مزودة بقذائف مضادة للأفراد، وتوقعت القوات الإسرائيلية مقابلة دبابات وليس جنود مشاة مزودين بصواريخ مضادة للدروع، وهذا أيضًا لا ينم أبدًا عن أن تلك القوات كانت تعلم بالخطة المصرية، ولكن يمكننا أن نغفر للقادة المحليين الإسرائيلين اتخاذهم تلك الخطوة الهوجاء فربما لم تصلهم تلك المعلومات المزعومة فى الوقت المناسب، ولننتقل إلى الهجوم المضاد الرئيسى والذى لم يأت إلا صباح يوم الثامن من أكتوبر.

* أسود أيام إسرائيل!

ولأهمية هذا الهجوم استدعت اسرائيل اثنين من كبار قادتها العسكريين من التقاعد، وهما إبراهام أدان، وآريل شارون كل على رأس فرقة كاملة، وتولت فرقة أدان مهاجمة الجيش الثانى المصرى، فيما تولت فرقة شارون مهاجمة الجيش الثالث، إلا أن الهجوم الإسرائيلى المضاد جاء ضعيفًا وهزيلًا لدرجة فاجأت القادة المصريين أنفسهم، فلم يأت الهجوم على مستوى الفرقة وإنما جاء على مستوى دبابات فرادى، وبدلًا من أن يأتى من الشمال إلى الجنوب جاء من الشرق إلى الغرب وبالمواجهة، الأمر الذى جعل من ذلك اليوم “أسود أيام إسرائيل” من حيث الخسائر، وهذا يؤكد وبدون أدنى شك أن القادة الإسرائليين لم يكونوا على علم بتوزيع القوات المصرية، ولم يعلموا أماكن تمركز القوات المصرية ونقاط قوتها وضعفها.

* لغز تزويد مروان إسرائيل بـ95% معلومات صحيحة!

ومن الكتابات الإسرائيلية نفسها يمكننا أن نفهم كيف خدع أشرف مروان كبار القادة الإسرائليين؟ وعلى رأسهم رئيسة الوزراء جولدا مائير، ووزير الدفاع موشى ديان، ورئيس جهاز الموساد تسفى زامير، وأخيرًا رئيس الاستخبارات العسكرية إيلى زاعيرا، فباختصار شديد قضت عملية “مروان” – حسب العقيدة السوفيتية التى كانت تعتنقها مصر وقتها على المستويين العسكرى والاستخباراتى- تزويد إسرائل بـ 95% معلومات صحيحة ولكنها محسوبة بدقة، مقابل تمرير معلومة خاطئة تقضى على أهمية المعلومات المسربة فى الوقت الحاسم، وكانت مهمة أشرف مروان ببساطة حسب ما قاله إيلى زاعيرا فى مذكراته هى زرع “مفهوم” فى إسرائيل بأن مصر لن يمكنها شن الحرب ما لم يتحقق شرطين أساسين، الأول: الحصول على طائرة مقاتلة قاذفة تستطيع قصف المطارات فى عمق إسرائيل، والثانى: الحصول على صواريخ سكود لقصف المدن الإسرائيلية حال استهداف إسرائيل للعمق المصرى كما فعلت فى أواخر حرب الاستنزاف، وقبل حرب أكتوبر لم يتحقق هاذان الشرطان، وكان هذا “المفهوم” راسخًا بقوة لدى دوائر صنع القرار الإسرائيلية قبل أن يتولى “زاعيرا” منصبه فى أكتوبر 1972 ، ولم يقل أشرف مروان هذا صراحة لإسرائيل ولكن قادتها استنتجوا هذا “المفهوم” من خلال وثيقتين سربهما أشرف مروان وتسجلان محاضر جلسات بين عبد الناصر والسادات والقادة السوفييت، وطالما لم يتحقق هاذان الشرطان فإن الحرب ستكون مستحيلة.

* السادات.. خُدعة!

وقبل الحرب حذر أشرف مروان إسرائيل 3 مرات من أن مصر ستشن هجومًا عليها إلا أن هذا لم يحدث، وبحسب كتاب “الملاك” سالف الذكر، فإن رئيس جهاز الموساد ضغط على أشرف مروان فى لقاء 5 أكتوبر ليحصل منه على تأكيد بأن الحرب حقيقية هذه المرة، وكان رد مروان :”وكيف لى أن أعرف فالسادات يمكنه أن يغير رأيه فى اللحظة الأخيرة”، وقد تأكد بعد ذلك أن الثلاث تحذيرات السابقة لم يكن لها أى أساس من الصحة، كما أن السادات لم يكن بإمكانه التراجع عن الحرب فى اللحظة الأخيرة لأن الغواصات المصرية كانت قد خرجت بالفعل لإغلاق مضيق باب المندب، وبالنسبة لهذه الغواصات فإن الحرب كانت قد بدأت بالفعل لحظة تحركها يوم 27 سبتمبر 1973.

ولكن لماذا أخبر مروان إسرائيل بتلك المعلومة؟.. للإجابة على هذا السؤال الصعب علينا أن نعود لما قبل الحرب بأيام، فقد رصدت إسرائيل حشودًا لقوات سورية ومصرية على الحدود، لكن إسرائيل كانت مطمئنة فى ذلك.

* مناورات الخريف!

الوقت من أن هجومًا مشتركًا لن يحدث بسبب نظرية “المفهوم” سالفة الذكر، وفسرت الحشود السورية بأنها “استعداد لرد انتقامى” على المعركة الجوية التى دارت بين الطيران السورى والإسرائيلى يوم 13 سبتمر عام 1973 وخسرت فيها سوريا 13 طائرة، فيما فسرت القيادة السياسية الإسرائيلية الحشود المصرية بأنها تأتى فى سياق مناورات الخريف السنوية، لكن هذا التصور تغير فجأة صباح يوم 4 أكتوبر- اليوم السابق مباشرة لاتصال أشرف مروان بالموساد- حيث قام الاتحاد السوفيتى، بعد أن أبلغ بموعد الحرب، بإجلاء أسر مستشاريه من مصر وسوريا فى توقيت متزامن، الأمر الذى أدى إلى إعلان حالة الطوارئ فى الجيش الإسرائيلى، وبحسب مذكرات الرئيس السادات فإن الإجراء السوفيتى قد أزعج القادة المصريين بشدة حيث اعتبروه بمثابة اعتراف سوفيتى بأن ثمة حرب قادمة وأنه يخشى على أسر مستشاريه فى مصر وسوريا.

* حى كينسنجتون!

ومما سبق يتضح أن القيادة السياسية المصرية كانت مقتنعة فى صباح الرابع من أكتوبر بأن الإسرائيلين قد استتنجوا من الخطوة السوفيتية أن ثمة حرب على وشك الحدوث، وكان لابد من تخدير الإسرائيلين ومنحهم موعدًا مضللًا عن الحرب.. ونعود إلى كتاب الملاك، حيث يقول المؤلف عن لقاء الخامس من أكتوبر “بدا مروان متوترًا، وقال: تأخرت عليكم لأننى أمضيت المساء بأكمله فى قنصليتنا بحى كينسنجتون. وكنت على التليفون مع القاهرة محاولًا معرفة آخر الأخبار هناك. إنه (السادات) ينوى شن الحرب غدًا”.

ويضيف: “بدا مروان من طريقة عرضه للمعلومات إنه يدرك معرفة الإسرائليين بهذا الخبر، وكانت لدى المصريين قناعة بأن الإسرائيليين سيعرفون أن هناك حربًا ستشن عليهم قبلها بيومين كاملين، غير أن مروان ربما حاول أن يبدو فى عرضه الموقف للإسرائليين وكأنه المرجع الوحيد لمن يريد معرفة ما يحدث فى مصر، رغم حقيقة أن معلوماته تظهر أنه لم يكن يعلم بالأمر ويتيقن منه إلا منذ عدة ساعات”.

* مروان والسادات.. زيارة سرية!

ولكن “مروان” كان يعرف بموعد الحرب قبلها بمدة طويلة، فبحسب إيلى زاعيرا، رافق “مروان”، السادات فى زيارته السرية إلى السعودية للتنسيق حول قطع النفط خلال الحرب وأخبر السادات الملك فيصل بأن الحرب ستنشب فى الخريف.

* مائير ودايان وزعيرا.. والفخ المصرى!

ويعترف “زاعيرا” فى مذكراته بأنه خضع للـ “المفهوم” إلا أنه يقر بأنه لم يخضع وحده للفخ المصرى، وأنما خضعت له رئيسة الوزراء جولدا مائير، وكذلك وزير الدفاع موشى دايان، لأنهما كانا يحصلان على معلومات أشرف مروان “كمادة خام” دون أن تخضع لتحليلات من المخابرات العسكرية الإسرائيلية، أى أنهما تعرضا للخداع مثله، والأكثر من ذلك يتهم “زاعيرا” جولدا مائير بأنها تجاهلت تحذير رفيع المستوى تلقته من العاهل الأردنى الراحل الملك حسين قبل الحرب بعشرة أيام، بأن ثمة حرب على وشك الاندلاع، بسبب خداع مروان، وأنها اخفت تلك المعلومة عن لجنة “أجرانات”، وفى النهاية يعترف “زاعيرا” قائلا: “لا أحاول أن ألقى التهم جزافا على الآخرين لكننى كنت أعرف أن مروان كان عميلا مزدوجا، ولم أحاول أن أثبت ذلك وهذا هو الخطأ الذى ارتكبتـــــه”.

* أليس مروان فوق ثورة الشك!

ورغم أن مصر لم تصدر أى معلومات رسمية تفصيلية حول أشرف مروان ودوره فى حرب أكتوبر، إلا أن ثمة إشارت صدرت من القيادة السياسية المصرية حول دور مروان سنلخصها فيما يلى:

  • أولا: تسريب فيديو للرئيس أنور السادات يكرم فيه أشرف مروان بأكبر وسام عسكرى مصرى لـ”دوره فى حرب أكتوبر”.
  • ثانيا: فى ظهـر يوم الـ 6 أكتوبـر 2004، ظهرت المفاجئة المدويـة للذين يعتقـدون داخل أجهزة الاستخبارات الإسرائيليــــة بأن مــروان كان مخلصا لهم، حيث بث التليفزيون المصرى فيلما قصيرا يظهر الرئيس الأسبق حسنى مبارك وهو يحتضن أشـرف مـــروان قبل أن ينطلقا معا لوضـع باقة من الزهـور على قبـر الزعيم الراحل جمـال عبـد الناصر، الشريط نفسه نشر لأول مرة فى موقع صحيفة يديعـوت أحرونـوت باللغة العبريـة، وفيه يقف أشـرف مــروان بعد 31 عامًا من حـرب أكتوبـر ويصافح بود حقيقـى الرئيس مبارك أمام الكاميرات فى مراسم النصر، ويرافق الشريط تعليق قصير يقول: “وهكذا، لم يتبق مجال للشك، فما كان الرئيس المصرى حسنـى مبـارك ليعامل أكبـر خائـن عرفتـه مصـر فى تاريخها هذه المعاملة.. صـورة واحـدة تسـاوى ألـف مناقشـة بيـن المثقفيـن”، ونشرت صحيفة “يديعـوت أحرونــوت” فى مايـو 2005 تقريرًا عن هذا الشريط الذى يجمـع مبــــارك ومــروان، اعتبر فيه محرر الصحيفـة لشئون أجهـزة الاستخبارات والقضايـا الاستراتيجية أنه “سينهى الجدل الدائر منذ 32 عامًــا فى إسرائيــل حول مـــروان بأنه بطل قومى مصـــرى”.
  • ثالثا: سمح عمـرو موســى وزير الخارجيــة الأسبق، بعدما كشفت إسرائيل عن اسم مروان، لابنته بالزواج مـن ابــن مـروان فى الوقـت الذى كـان فيه موســى فى منصب يسمح لـه بالاطلاع على المعلومات الأشد سرية فى الاستخبارات المصريـة بحكم عمله.
  • رابعا: وبعد اغتيال “مروان” فى لندن يوم 27 يونيو 2007، أصدر الرئيس الأسبق حسنى مبارك بيانا رسميا أكد فيه أن مروان “كان وطنيا مخلصا وقام بالعديد من الأعمال الوطنية لم يحن الوقت للكشف عنها”، كما أرسل “مبارك” نجله “جمال” ليتقدم الجنازة التى حضرها كبار رجال الدولة وعدد من قيادات المخابرات المصرية، وشيعت الجنازة من مسجد عمر مكرم حيث أقيمت صلاة الجنازة التى أمها د. محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر السابق، وكانت جنازة لا تليق إلا بالأبطال القوميين.

وأخيرا.. كمواطن مصرى فخور بالإستخبارت المصرية، أعتقد أن الداهية أشرف مروان.. وقد استبق الرئيس السادات عصر الإستنساخ وأفرز للشعب المصرى مروان السادات.. فوق ثورة الشك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى