زواج المجنون والمعتوه في مدونات الأحوال الشخصية (2)
سهيلة زين العابدين حماد
بيّنتُ في الحلقة الماضية؛ المواد الواردة في معظم مدونات الأحوال الشخصية للبلاد العربية التي قنّنت زواج المجنون والمعتوه، رغم تعارضها مع مواد الأهلية في الزواج، وتبيّن أنّ مدونات الأحوال الشخصية لمصر وتونس والجزائر، وموريتانيا لم تُقنّن زواج المجنون والمعتوه.
وبعد ذاك العرض، هناك أسئلة تطرح نفسها، أولها:
هل زواج المجنون والمعتوه يتفق مع أحكام الزواج والأسرة في الإسلام؟
الزواج ميثاق شرعي بين رجلٍ وامرأة غير مُحرَّم كل منهما على الآخر بنسبٍ أو صهر أو رضاع، قوامه السكن والمودة والرحمة، وكل منهما لباس للآخر، وغايته إحصانهما، وإنجاب ذرية صالحة لإعمار الكون، وإنشاء أسرة مستقرة على أُسس تكفل للزوجين تحمل مسؤولياتهما الأسرية بمودة ورحمة وعشرة بالمعروف»؛ لقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم:21).. (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) (النحل:72) (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (البقرة:87).
هذا التعريف اجتهاد مني استقيته من القرآن الكريم؛ إذ تتبيّن لنا أهداف الزواج منه، فغايته إحصان الزوجين من الوقوع في فاحشة الزنا، حمايةً لهما وللمجتمع، وحفاظًا على الأعراض، وإنجاب أولاد شرعيين حفاظًا علـى بقاء النوع البشري، يُربون في كنف أسرة مستقرة تقوم على السكن والمودة والرحمة، والعشرة بالمعروف.
وأكَّد على هذه في قوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) ليشمل القرب والملاصقة والستر والتجميل والغطاء والوقاية من الحر والبرد، ومن كل ما يعترض حياتهما من عقباتٍ وأزمات، ليكون كل منهما للآخر بمثابة اللباس الذي يستره، ويقيه الحر والبرد، وهو كناية عن أن يكون كل منهما سترًا للآخر في السراء والضراء، فالزوجة ستر لزوجها، والزوج ستر لزوجته، وبهذا يرتفع بمشاعر الإنسان عن المستوى البهيمي في الوقت الذي يلبي فيه كل منهما متطلبات جسده، فكلا الزوجين بهذا المعنى أمانة في عنق الآخر يُسأل عنها يوم القيامة.. لذا جاءت تسمية عقد الزواج بالميثاق الغليظ (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)، ومن هنا جاء الأمر بالعشرة بالمعروف.
والغاية من هذا الزواج ليس إرضاء رغبات الرجل وإرضاء شهواته بعقد شرعي فقط، وإنّما إرضاءً لرغبات الجسد لكل من الرجل والمرأة بعقد شرعي، وللمحافظة على النسل البشري ليتم إعمار الكون، وتحقيق الغاية العليا من خلق الخلق، وهي عبادة الخالق (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً).. (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين).. (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
فهل زواج المجنون والمعتوه تتحقق فيه هذه الأحكام؟.. هل يتحقق الإحصان للزوجة من زواجها بمجنون، أو معتوه؟.. هل يتحقق السكن والمودة والرحمة لزوجة المعتوه والمجنون؟.. وهل يتم إنشاء أسرة مستقرة تكفل للزوجيْن تحمّل مسؤولياتهما الأسرية بمودَّة ورحمة وعشرة بالمعروف؟.. وهل الأب المجنون والمعتوه يستطيع مشاركة زوجته في تربية الأولاد وتوجيههم؟.. وهل أسرة ربها مجنونًا أو معتوهًا تُقدِّم أفرادًا صالحين للمجتمع؟.. وهل الذين أباحوا زواج المجنون والمعتوه وقنّنوه في مدونات الأحوال الشخصية سألوا هذه الأسئلة، وإن سألوها ما إجاباتهم عنها؟!.
بقيت الإجابة عن هذا السؤال: لماذا الإصرار على زواج المجنون والمعتوه؟
إنّ إباحة زواج المجانين والمعتوهين فيه إضرار بنظام الزواج والكيان الأسري في الإسلام، وإن كان المبيحون له يقولون من حق هؤلاء ممارسة حقهم الفطري، فلا يُفكّرون أنّ ذلك سيكون على حساب حقوق الزوجة والأولاد ، فأنت تُعطي حقًّا للمعتوهين والمجانين، وتأخذ حقوقًا من زوجاتهم وأولادهم مقابل إعطائهم هذا الحق.