المؤتمر السنوي لمؤسسة الفكر العربي “تحديات الفوضى وصناعة الاستقرار”
أشرف أبو عريف
كلمـة السيد/ أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية في المؤتمر السنوي لمؤسسة الفكر العربي
“تحديات الفوضى وصناعة الاستقرار”
بسم الله الرحمن الرحيم
سمو الشيخ/ محمد بن راشد نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، رئيس الوزراء وحاكم دبي
سمو الأمير/ خالد الفيصل رئيس مؤسسة الفكر العربي
البروفسير/ هنري العويط مدير عام مؤسسة الفكر العربي
الحضور الكرام
الحدث الذي نشهده اليوم هو واحدٌ من أهم الفعّاليات التي تُعقد في العالم العربي سنوياً.. ليس فقط لأنه يضم صفوة من خيرة العقول في بلادنا، ولكن أيضاً لأنه يتخذ من التفكير شعاراً وعنواناً، ويعتبره وسيلة وغاية .. ففي عصر تتلاحق تفاعلاته بسرعة فائقة، وتتحرك أحداثه بوتيرة تفوق القدرة على الاستيعاب، تتراجع قيمة التفكير الهادئ .. في عصر التدفق المستمر واللحظي للمعلومات تتقلص القدرة على التأمل والتدبر واستخلاص العبر.. نحن بالتأكيد نستهلك معلومات أكثر، ونطالع بيانات أوفر .. ولكننا للأسف نمارس فضيلة التفكير بقدر أقل.. ومن ثمّ فإن حكمنا على الظواهر والأحداث لحظي وانفعالي .. سريع وعابر مثل الأحداث ذاتها.
والحقُ أن العصر الذي نعيش يحتاج إلى المفكر الباحث عن الحقيقة أكثر من أي وقت مضى.. هو عصر اضطراب بامتياز، حيث الأوراق تتداخل والقضايا تتعقد، واحتمالات الفوضى تتصاعد.. والحقيقة ذاتها تختبئ وراء ركام من الأكاذيب والتضليل.. حتى أطلق البعض على هذا العصر “عالم ما بعد الحقيقة” للتعبير عن هذه الحالة المُلتبسة من اختفاء الخط الفاصل بين الحقائق الثابتة والأكاذيب المُفبركة.
إن النظام العالمي يمر بحالة غير مسبوقة من السيولة والتنافس –الذي يقترب من الصراع- بين اللاعبين الرئيسيين، وهو تطور يلقي بظلال من انعدام اليقين على كافة التفاعلات والعلاقات الدولية.. نحن نقترب من وضعٍ تتآكل فيه قواعد قديمة من دون أن تظهر أخرى جديدة تحل محلها.. وتهب فيه رياح الفوضى والاضطراب على الدول والمؤسسات الراسخة فتُزعزع أركانها، وتُزلزل قواعدها، وتُصيب بُنيانها بخلل شديد.. ولا يخفى أن بلادنا العربية ليست بعيدة عن هذه الرياح الخطرة، بل هي – لأسباب كثيرة – في عين العاصفة.
لقد كنا، كعرب، وعلى مدار عقود، نواجه تحدياً رئيسياً يتعلق بكيفية نقل المجتمعات العربية من أوضاع متخلفة خلفها الاستعمار إلى حالٍ جديدة من التحديث والتنمية. واليوم تواجهنا تحديات إضافية .. مضاعفة ومركبة: كيف نحافظ على الاستقرار في زمن الفوضى؟ كيف نُصون الوحدة في عصر التفتت؟ كيف نبني المؤسسات في زمن تآكل المؤسسات؟ كيف نعصم مجمعاتنا من تهديدات مفاجئة وتصدعات خطيرة صارت جزءاً لا يتجزأ من طبيعة العالم المُعاصر؟
وفي هذا السياق، اسمحوا لي أن أطرح أمامكم بإيجاز خمس نقاط تُمثل تحديات أرى أن تطورات الوضع العالمي تفرض علينا كعرب التفكير فيها والتعامل معها:
النقطة الأولى:
أن هناك ردة فعل عنيفة إزاء ظاهرة العولمة .. الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي ووصول الرئيس ترامب إلى مقعد الرئاسة في الولايات المتحدة، ليست سوى أمثلة لتجليات رد فعل غاضب من جانب قطاعات واسعة من مواطني الغرب تشعر أن العولمة خذلتها وفاقمت من معاناتها .. ليس هؤلاء الرافضون كلهم من الفقراء، ولكنهم يضمون شرائح من الطبقة الوسطى التي لم تتزايد دخولها الحقيقية لعقود .. هؤلاء يشعرون بأن حرية التجارة وتعزيز الترابط العالمي لم يصب في مصلحتهم.. ومحصلة ذلك هي صعود لتيارات الانكفاء على الداخل، وبناء الجدران العالية أمام التجارة والمهاجرين وكل ما هو قادم من الخارج.
ويرتبط بهذا ما نشهده من تصاعد ملحوظ في السياسات القومية المتطرفة والنزعات الشعبوية الجارفة .. والشعبوية بطبيعتها تعتمد على نهج مُغازلة غرائز الجمهور، وتحريك مخاوفه الأولية، عبر طرح شعارات مُبسطة وأهداف براقة .. تعتمد الشعبوية كذلك على اختراع الأعداء وتضخيم المخاطر الداخلية والخارجية.. إن عالماً يقوم على الانكفاء والقومية المتطرفة هو عالم أكثر خطورة، وأشد عرضة للتوترات بين الدول وبعضها البعض، بل بين الجماعات المختلفة داخل الدولة الواحدة .. وبالتالي الاتجاه إلى تفتيت الوحدات القائمة إلى وحدات أصغر، على أساس القومية أو العرق أو الدين.
وفي مواجهة هذه الاتجاهات التفتيتية المُدمرة في الغرب، ليس أمام دولنا إلا اتقان فن العيش المشترك .. وتعزيز قدرة المجتمعات على قبول التنوع والاختلاف باعتباره مصدر قوة وإثراء.. إن التحدي الرئيسي أمام الدولة الوطنية في العالم العربي هو أن تصير بحق “دولة لكل مواطنيها”، لا مكان فيها للطائفية أو المذهبية أو التيارات المُلتحفة بالدين .. في المنطقة العربية، الغنية بالملل والنحل والأعراق، لا مجال أمامنا سوى أن نتعلم العيش معاً .. إنه اختبار بقاء لمجتمعاتنا ودولنا ومواطنينا.. فالبديل –كما شهدنا- هو القضاء على الدولة وتشريد أبنائها وتبديد مُقدراتها.
النقطة الثانية:
أننا نقف على أعتاب ثورة تكنولوجية ضخمة سيكون من شأنها أن تُغير الكثير من القواعد الراسخة في السياسة والاقتصاد والمجتمع.. لقد اصطلح البعض على نعت مجمل التطورات الجارية في المجال التكنولوجي، وعلى رأسها ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي والبيانات العملاقة وتكنولوجيا المعلومات والأتمتة، بالثورة الصناعية الرابعة.. هذه الثورة، شأنها شأن الثورة الصناعية الأولى، ستفرز رابحين وخاسرين.. سيكون لها ضحاياها، وأولهم العمالة غير الماهرة وشبه الماهرة التي ستقوم الآلات بوظائفها بصورة أفضل، فتنتفي الحاجة إليها.
أين العرب من هذه الثورة الهائلة التي تطرق أبوابنا؟ .. هل تفوتنا مثلما فاتتنا الثورة الأولى زمناً طويلاً حتى صرنا أسرى للتخلف والاستعمار؟ هل تسهم في اتساع الفجوة بيننا وبين العالم بصورة تتجاوز قدرتنا على تجسيرها؟
إن إعداد الشباب العربي للتعامل مع معطيات ومتطلبات الثورة الصناعية الرابعة، تعليماً وتدريباً.. ثقافة ووعياً .. يقع في القلب من المهام التي ينبغي أن يضطلع بها قادة الفكر والسياسة والمجتمع والاقتصاد في العالم العربي، ذلك أن البديل هو أن نترك شبابنا فريسة لتقسيم جديد للعمل على المستوى العالمي لا يحصلون بمقتضاه سوى على الوظائف الدنيا والأعمال ذات القيمة المضافة المنخفضة.
النقطة الثالثة:
أن أخطر ما يواجه العالم اليوم من وجهة نظري هو تقويض الثقة في المؤسسات القائمة.. ولا أقصد بالمؤسسات السياسية منها فحسب، وإنما الدينية والاجتماعية والثقافية أيضاً .. ولا شك أن تكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي تدفع في هذا الاتجاه عبر ترويج الأخبار الكاذبة بما يُسهم في تشكيل مناخ مشحون من الاحباط والتشويش والتحريض والغضب واليأس يكون من نتيجته إضعاف الثقة في المؤسسات القائمة، بحيث تصير فريسة سهلة أمام معاول الهدم والتخريب التي يرفعها أعداء الحضارة والإنسانية.. إن جيل الشباب هم الأكثر عرضة لهذه التأثيرات الخطيرة .. وقد رأينا ما يُمكن أن تُفضي إليه من فوضى مجتمعية واضطرابات سياسية.. إن تكنولوجيا التواصل الاجتماعي، مثلها مثل أي تكنولوجيا لها ما لها وعليها ما عليها.. إلا أنني أرى، وبواقع تجربة مجتمعاتنا العربية وكذا ما يحدث في العالم الغربي من اختراقات للعملية السياسية والأسس الديمقراطية، أن هذه التكنولوجيا –إذا تُرك لها الحبل على الغارب- ليست سبيلاً لتعزيز الحرية والديمقراطية، بقدر ما هي قادرة على إفراز أكثر الاتجاهات تطرفاً وغوغائية .. وظني أن هذا الملف يتعين أن يلقى الاهتمام والانتباه من المفكرين العرب، فالعزلة والانغلاق لا يمثلان حلاً.. ولكن البديل لا ينبغي أن يكون الانكشاف الكامل أمام هذه المؤثرات المُدمرة للنسيج الاجتماعي.
النقطة الرابعة:
أنه لا يخفى على أحد ما تُعانيه بعض دولنا العربية من أزمات تمتد آثارها إلى ما وراء الحدود، وتُلقي بظلالها على الوضع العام في المنطقة، وتُفرز مناخاً عاماً من انعدام الاستقرار والقلق من المستقبل لدى المواطن العربي .. واليوم، ونحن نتناول صناعة الاستقرار، فإننا نتحدث في واقع الأمر عن قدرة المؤسسات العربية على التعامل مع التحديات التي تناولتها .. مطلوب من المؤسسات العربية، سياسية كانت أم دينية أم اجتماعية، أن تُعزز رسوخها لا بالانغلاق والانعزال عن المجتمع والعالم.. وإنما بالانفتاح على تجارب الآخرين، والتعلم منها والتفاعل معها… المؤسسات التي تستطيع البقاء في هذا العصر هي تلك التي تُجدد نفسها بنفسها قبل أن يُفرض عليها التغيير فرضاً.. هي مؤسسات مرنة، سريعة الحركة، قادرة على التكيف .. مؤسسات تبذل الجهد من أجل نيل ثقة الجمهور وتستمد الشرعية من هذه الثقة المتجددة .. إن ما يحصن المؤسسات العربية حقاً هو ثقة الناس فيها، وإيمانهم بها، ودفاعهم عنها .. ففي ذلك ما يعصمها من تيارات الفوضى مهما تصاعدت، ومن عواصف الاضطراب مهما اشتدت.
النقطة الخامسة والأخيرة:
أن الحفاظ على الاستقرار لا يعني أبداً الدفاع عن الجمود أو الركود .. بل إنه مرهون بالجرأة على خوض غمار التغيير والإصلاح.. الإصلاح فرض عين من أجل تحصين مجتمعاتنا من فورات الفوضى وشرورها.. الفوضى تفرض تغييراً بلا حساب ولا هدف ولا غاية معلومة .. في المقابل، الإصلاح يجلب تغييرات تناسب إيقاع المجتمعات وحاجاتها.. إن إصلاح نظمنا التعليمية وتجديد مفاهيمنا الدينية وتطوير رؤيتنا الثقافية هو العلاج الناجع لجرثومة الفوضى التي تتغذى على الركود والتكلس .. وفي كلمة مختصرة أقول: أن الاصلاح والتغيير مطلوبان من أجل صيانة الاستقرار.
شكراً لاستماعكم،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.