يوسف حسن
دفاعاً عن نفسها ردت إيران في عملية أطلقت عليها عنوان “الوعد الصادق رقم 2” على اعتداءات الكيان الصهيوني وذلك من خلال دفعات صاروخية بلغ عددها 250 صاروخا واستخدمت فئة جديدة من صواريخها، لترسل أكثر من رسالة إلى الكيان المحتل وإلى الأطراف المعنية على المستويين الإقليمي والدولي. ومن خلال ذلك الرد يمكن الحديث عن النقاط التالية:
لم تستهدف إيران خلافا للكيان الصهيوني المناطق المأهولة بالسكان ولا حتى القطاعات الاقتصادية وإنما اقتصر ردها على المواقع والأهداف العسكرية لاسيما القواعد التي تم استخدامها لاستهداف واغتيال قادة المقاومة ولذلك، أكدت إيران للمجتمع الدولي بأن قدراتها العسكرية موجهة لضرب القوات العسكرية المعادية لها وبأنها لا تستهدف المدنيين وذلك عكس المنهجية التي يتبناها الكيان المحتل خلال حربه على قطاع غزة وعلى لبنان، حيث نجد أن أغلبية ضحايا القصف والغارات الإسرائيلية هم من المدنيين الأبرياء والعزل. والملفت أن بعض وسائل الاعلام الصهيونية أو المتصيهنة تقلل من أهمية الرد الإيراني لعدم سقوط قتلى مدنيين من خلاله رغم الحجم الكبير من الصواريخ المستخدمة في الرد. ومثل هذا الموقف يكشف عن طبيعة الخطاب والعقيدة العسكرية الصهيونية القائلة بجواز استخدام الصواريخ في قتل المدنيين أيضا وليس فقط لضرب الأهداف العسكرية. خلافا لهذه العقيدة المعادية للإنسان والإنسانية فإيران ومن خلال ضرب الأهداف العسكرية أكدت طبيعة خطابها الأخلاقي في عقيدتها العسكرية. فالصور التي تداولتها وسائل الاعلام ومنصات التواصل الاجتماعي حيث تظهر سقوط الصواريخ في مواقع قريبة من المناطق السكنية وليس بداخلها تؤكد بوضوح بأن إيران كانت قادرة على استهداف المناطق المأهولة بالسكان وحتى المواقع والمؤسسات الاقتصادية لكنها اكتفت بالقواعد العسكرية لترسل للعالم رسائلها بشأن تبينها الخطاب الأخلاقي والإنساني حتى في الرد العسكري على الكيان الذي لا يفرق بين المدني والعسكري إذ قتل ما قتل من المدنيين عبر المجازر التي ارتكبها في القطاع وفي لبنان، على مدى عام كامل. إضافة إلى ذلك، فإن ضرب الأهداف العسكرية وعدم سقوط قتلى من المدنيين يؤكد دقة الصواريخ التي استخدمتها إيران في استهداف بنك الأهداف وبالتالي يظهر تقدم إيران في الصناعات العسكرية وقدرتها على توظيف التقنيات الحديثة في صناعاتها العسكرية رغم الحصار المفروض عليها منذ أكثر من 40 عاما.
إذا كانت إيران قد استخدمت المسيرات وفئة معينة من الصواريخ في ردها الأول للدفاع عن نفسها في مواجهة جرائم الاحتلال فإنها وفي هذه المرة رفعت من مستوى الرد كما وكيفا، إذ استخدمت الصواريخ بدلا عن المسيرات وكشفت عن طراز جديد من صواريخها في ردها وهي صواريخ تطلق عليها “فتاح” ذات القدرة القتالية الكبيرة. كما أن عدد الصواريخ بلغ250 صاروخا ما يعني أنها تقدمت نحو الكيان الصهيوني بنوعية الأدوات القتالية ومن حيث الأعداد، وهذه رسالة بحد ذاتها تؤكد من خلالها أنه كلما ازدادت الاعتداءات الإسرائيلية كلما رفعت إيران مستوى الرد وإنها لن تقف عند المستوى الأولي الذي أرادت من خلاله تأكيد حقها في الدفاع عن نفسها وتحذير الكيان المحتل الذي لم يأخذ الدرس من ذلك الرد.
ومن هنا يمكن القول إنه إذا أعاد الكيان الإسرائيلي الاعتداء على إيران، فإن مستوى الرد الإيراني سيرتفع مرة أخرى وبذلك فإنها سترد له الصاع صاعين وستزيد من حدة ردها بالتوازي مع الاعتداء الصهيوني، وهذه رسالة أخرى، حيث يمكن أن نفهم من خلالها أن الرد الإيراني القادم سوف لن يقتصر على الأهداف العسكرية وإنما يتوسع ليضرب بنك الأهداف الاقتصادية ما يؤدي إلى زيادة الشلل في القطاع الاقتصادي الذي يعاني من تراجع كبير في الاستثمار خلال السنة الماضية بفعل عملية طوفان الأقصى والعمليات المستمرة للمقاومة اللبنانية وعملية الوعد الصادق رقم 1، وكل ذلك سيدفع من أتوا إلى الأراضي المحتلة بوعود وإغراءات صهيونية، إلى مغادرة الأراضي المحتلة وسيضاعف حجم الخسائر والأضرار التي يتكبدها الكيان المحتل منذ السابع من أكتوبر الماضي.
إذا كان الرد الإيراني الأول اقتصر على إيصال الرسالة الضرورية إلى الكيان المحتل دون أن يضرب بعنف وقوة المواقع والأهداف العسكرية الإسرائيلية، فإن الرد وهذه المرة تجاوز مستوى التحذير وانتقل إلى مرحلة التدمير، حيث استطاعت الصواريخ الإيرانية أن تضرب وبأقصى قوة القواعد العسكرية لاسيما القواعد الجوية التي انطلقت منها المقاتلات الإسرائيلية لاغتيال قادة المقاومة والقادة العسكريين الإيرانيين سواء في لبنان أو في سوريا وكان مستوى التدمير كبير إلى حد بعيد، بما دفع الكيان الصهيوني للتشويش على صور الأقمار الاصطناعية لتلك القواعد بما فيها قاعدة نيفاتيم العسكرية ووضع سحابات الكترونية صناعية عليها لكي لا يتبين مستوى الدمار الذي لحق بها، فانكشاف مستوى الدمار سيؤدي إلى تراجع حاد في معنويات جنود الاحتلال ومن يقيمون في الأراضي المحتلة. لذلك نجد تراجعا في عدد الغارات الإسرائيلية على القطاع وعلى جنوب لبنان وتزايد في عدد قتلى جنود الاحتلال وإن لم نسمع عنه كثيرا نظرا لانشغال المحللين والمسؤولين بنتائج وانعكاسات الرد الإيراني، فعلينا الانتظار لتتكشف الخسائر وتتسرب المعلومات عنها خلال الأيام المقبلة.
إذا كانت المقاومة في فلسطين ولبنان قد قضت على أسطورة الجيش الذي لا يُقهر وتمكنت من إضعاف قوة الردع لدى الكيان المحتل، فإن الرد الإيراني في عملية الوعد الصادق رقم 2 أنهى أسطورة القبة الحديدية التي كانت تعمل وسائل الاعلام في الكيان المحتل وبعض الدول الغربية وحتى بعض القنوات المتصيهنة في الشرق الأوسط على تضخيمها وبالتالي كانت تترك انطباعا لدى الرأي العام العربي والإسلامي أنه لا يمكن اختراق القبة الحديدية وأن كل صاروخ يتم اطلاقه نحو الكيان المحتل سيتم اعتراضه عبر تلك القبة، لكن الرد الصاروخي الإيراني كشف مدى هشاشة تلك الأسطورة ومدى سهولة اختراقها. فلم تستطع لا القبة الحديدية ولا الدفاع الجوي من اعتراض سوى عدد ضئيل من الصواريخ الإيرانية خلافا لما يردده بعض المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين بشأن اعتراض معظم الصواريخ. فما يردده أولئك المسؤولون ووسائل الاعلام هو محاولات يائسة للإبقاء على تلك الأسطورة حية في أذهان الرأي العام في الشرق الأوسط. إضافة إلى أن إيران ومن خلال هذه العملية أمسكت بزمام المبادرة من جديد بعد أن كانت قد تبنت الصبر لوقت غير قليل لتؤكد احترامها للجهود الإقليمية والدولية لكبح جماح الأعمال الاجرامية التي يقوم بها رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتحويل الشرق الأوسط إلى ساحة حرب مفتوحة لا تبقي ولا تذر.
بعد الجريمة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله تعالت الأصوات في بعض وسائل الاعلام بأن إيران تتخلى عن حلفائها في الشرق الأوسط ولاسيما المقاومة الفلسطينية واللبنانية، إلا أن العملية الإيرانية أظهرت خلاف ذلك فإن الخطوات العسكرية تحتاج إلى دراسة متعددة الجوانب وأنها تقتضي بعض الوقت والإمعان لتحقيق المزيد من الأهداف بأقل الأثمان، وهذا ما لا تتطرق إليه وسائل الاعلام التي تعمل على تسطيح الأفكار وزيادة الهوة بين إيران والشعوب العربية والإسلامية. فالرد الإيراني كان مدروسا ومعمقا وذات دلالات متعددة وفي الوقت الذي رأته إيران مناسبا وأكد وقوف إيران إلى جانب كل من يقف إلى جانبها في تحقيق الاستقرار والأمن الشامل على المستويين الإقليمي والدولي.
فور انتهاء الرد الإيراني على الكيان المحتل، أكد المسؤولون الامريكيون أنهم لم يتلقوا أية رسائل تحذيرية مسبقة من إيران بشأن استعدادها للرد ومستواه، وهذا خلافا لما كانت تردده وسائل الاعلام أثناء عملية الوعد الصادق رقم 1 حيث تحدثت عن أن إيران أبلغت بعض الأطراف الإقليمية والدولية بموعد ردها ومستواه. فيمكن القول إن إيران تجاوزت في هذه العملية مرحلة التنسيق مع الأطراف الإقليمية والدولية وإبلاغها، وبذلك فانتقلت إيران من مرحلة ضبط النفس إلى مرحلة الرد المباغت لأن إجراءات التنسيق وضبط النفس لم تعد بنتائج ملموسة خلال المرحلة الماضية وإن الكيان الصهيوني واصل اعتداءاته رغم كل المحاولات والتحذيرات. ولذلك لم تعد إيران تأبه للوعود التي لا تؤدي إلى أية نتائج على أرض الواقع وإن ما دفعها نحو تأجيل ردها على أي اعتداء هو انتظار اللحظة المناسبة والمواتية للرد ليس إلا.