رأىسلايدر

السريالية ومواجهة التابوهات في “آيس هارت في العالم الآخر” لمحمد بركة

استمع الي المقالة

الأديبة والناقدة.. د.سلوى جودة تكتب

محمد بركة في روايته “آيس هارت في العالم الآخر” يواجه التابوهات الثقافية، الجنس- الدين- السياسة بسرد سريالي يعبر من خلاله الجسر بين العقل الواعي واللاواعي ويحرر به العقل الباطن ويصل إلى جوهر ما يمكن أن تكون عليه الحياة عندما لا يكون المرء مقيداً مجتمعياً، والحركة السريالية التي بدأت في باريس في عشرينات القرن الماضي جاءت كرد فعل مباشر لأهوال الحرب العالمية الأولى وللمعاهدات المقيدة نسبياً لعالم الفن في ذلك الوقت، وكلمة “سريالية” (تشير إلى “ما وراء الواقع”) وقد صاغها الشاعر الفرنسي الطليعي غيوم أبولينير في مقدمة مسرحية ” أثداء تريسياس” التي عُرضت في فى باريس عام 1917، وعرف رائدها أندريه بريتون (1896-1966) المؤلف الفرنسي “للبيان السريالي” (1924) السريالية على أنها: “آلية نفسية خالصة، والتي من خلالها يعمد المرء إلى التعبير، إما شفهيًا أو كتابيًا أو بأي طريقة أخرى عن الأداء الحقيقي للفكر، فهي إملاء الفكر في غياب كل سيطرة يمارسها العقل، وخارج كل الانشغال الجمالي والأخلاقي”، والسرد السريالي في “آيس هارت في العالم الآخر” تغلبها النزعة الفرويدية نسبة إلى سيجموند فرويد (1939-1865) الذي طرح العديد من الأفكار حول العقل اللاواعي ، والتي أطلق عليها اسم “الهو” أو الهوية والذي كان مصدراً للإلهام للحركة السريالية، ولايعمد المبدعون إلى هذه التقنية إلا عندما يضيق حيزالتكيف والفهم والموائمة وربما الحريات في مطلقها ولا يجب أن ننسى أنها ظهرت في أعقاب حرب طاحنة صادمة أدت إلى فقدان الثقة في المؤسسات الحاكمة وفي منظومة القيم الأساسية التي تحقظ استقرار وسلامة الشعوب النفسية والمادية، وربما السياق الذي كتبت فيه “آيس هارت في العالم الآخر” لايحتلف كثيراًعن سياقات الحرب العالمية الأولى.

الراوي في”آيس هارت في العالم الآخر” يقف على ناصية العدم ويغرد وليس وحده فصدحه يشاركه فيه ثلة من المعدمين من أبناء العصيان والتمرد وربما الثورات لاحقا فهو الرافض بكل شطح والناقد بلا كلل والذي يحتاج إلى الخروج على كل التقاليد البالية وماغلوه في نفسه من مغالطات ومخاوف وأوهام لا تتسق مع قناعاته الفطرية ففي عالمه يعاني” فيروس شديد الخطورة يفتك بالجهاز المناعي للتقاليد والأصول” فالراوي فنان تشكيلي، لم يتسق يوماً مع مجتمعه القروي الذي كان يرى لوحاته رجس من عمل الشيطان “أرسم فأجلب لأهلي العار” ألوّن فأجعلهم ” لبانة ” في فم كل نذل” فكانوا يرونه العنصر الشاذ في مجتمع نظيف ” سبحان من أخرج الطالحين مِن ظهر الصالحين” بينما الفساد الحقيقي ينخر كالسوس في عظام القرية “حيث تمتزج الحداثة بالسياسة إذن فى تلك التحفة المعمارية المقامة على عدة أفدنه وسط بقعة من أخصب الأراضي الزراعية، دفع أبي المعلوم وشرب موظفو البلدية شايا بالياسمين” وفي هجوم مباشر بلا استعارة أو مجاز يطلق النارعلى حقب سياسية كان الإنفتاح فيها مدوياً على المحسوبية والرشوة واعتياد القبح: “ترعة صغيرة كانت تشق مسقط رأسى الى نصفين ، لتهب القرية بعضا من إنسانيتها القديمة، ردموها فى عهد ” صاحب أول ضربة جوية ” ليزداد القبح رونقا” ).

 ويتوفى والده الذي هبطت عليه الثروة متأخرة وكانت تربطه به علاقة فاترة فيها من الغشم أكثر ما فيها من اللطف، فيذهب لحضور الجنازة بصحبة حبيبته، وفي البيت الريفي الفخم ، وفي تمرد بروميثيوسي على سلطة مجتمعية لم يألفها ويرفضها وترفضه وفي استحضار لرمزية الموت والذي يشير إلى نهاية وغموض كبير حول ما سيأتي بعد ذلك ، مع مجموعة المشاعر الإنسانية الواسعة والمرتبكة المحيطة به ، وقد رأى أبيه مسجيا على ”المغسل” في أقسى تصوير لم يقل في خاطري عن عقد “شيلوك” مع تاجر البندقية في رائعة شكسبير: “يفركون بطن” الديكتاتور المرح”بحثا عن آى فضلات فى أحشائه، يقصون شاربه المفتول الذي كان يباهي الخلائق به. يزيلون شعر عانته و يقلمون أظافره، ثم يسدون جميع الفتحات في جسده منعاً لتسرب الأذى، يجب أن يكون على “سنجة عشرة” استعدادا للقاء ملكين لا يعرفان المزاح”، ويصر على ممارسة الجنس مع ” كرستين” أثناء هذه الطقوس ويغيب عن الوعي مؤقتاً أثر ذبحة صدرية ، حيث يبدأ رحلة سريالية لما بعد الموت، فيها الدخول إلى عالم الغرابة والإدهاش وشطح الخيال، وسبب هذه الغرابة أنها خلقٌ ذهنيّ خالص لا يمكن أن يتولّد من مقاربة أو مشابهة بين طرفين، بل من مقاربة بين واقعين متباعدين بنسبة أو بأخرى، وكلما كانت الصلة بين هذين الواقعين بعيدة جاءت الصورة قوية، هذه الرحلة التي لم يتوقف الإنسان منذ الهبوط الأول في تصورها والتفكير فيها والتي شغلت الأدباء والفنانين وكانت من علامات الآداب والفنون الكلاسيكية فلدينا مخزون تاريخي من هذه الرحلة، فهناك الإنيادة لفرجيل في نهاية القرن الأول قبل الميلاد و”الكوميديا الإلهية” 1320 لدانتي أليجييري (1265-1321) المقسمة إلى رحلة من ثلاثة مستويات الجحيم، المطهر، الجنة، حيث تصور دانتي موقع الجحيم بعيداً عن الإله الذي يشع نوراً، ويتصور المطهر جزيرة صغيرة وسطها غابة تنبض بالحياة وترمز إلى فردوس الإيمان على الأرض، حتى يصل إلى ارتقاء روحي نحو الكمال حيث الخير الأعلى والسكينة الخالدة ، وكانت نظرته إيجابية لرحلة الروح بعد الموت، وترويلوس وكريسيدا 1380 لتشوسر و”الفردوس المفقود” 1667 لجون ميلتون و”رحلة الحاج” 1678 لجون بنيامين.

و”لا خروج” 1944 لسارتر وغيرها من عشرات الأعمال لآن برادستريت (1603- 1697وسي إس لويس (1898-1963) وإيميلي ديكنسون وسيلفيا بلاث وغيرهم، ولذلك كانت الحياة الآخرة مصدرًا حاسمًا للاستعارات التوليدية للتيمات والنظرية الأدبية ، فضلاً عن كونها تاريخًا أدبيًا مهمًا فالبشر يخشون الموت لأنهم يقدرون الحياة كثيرًا ولا يعرفون ما الذي يأتي بعد الموت، فلم يعد أحدهم منه ليمنحنا مروية واحدة يصدقها البشر: كل البشر.

ولسريالية السرد الذي لم يخل من لغة شعرية كان التأليف بين عالمي الواقع والحلم والعبور من أحدهما إلى الآخر فالأحلام والذكريات إضاءات للمواقع الخفية في الإنسان، وهي تتشابك وأرجاءَ الواقع الراهن فيذكر الراوي صديقاته النسويات في إشارة إلى بعض الارتباك وربما العنصرية والتعسف الذي يصيب بعضهن أحيانا “بعض صديقاتي من غلاة النسوية يتصورن الخالق أنثى” ويلمح إلى مغبة الطاعة العمياء لأي سلطة مهما كانت حيثياتها وقوتها فأصدقائه “يكنّون احترامًا بدرجة متفاوتة لإبليس ويعتبرونه أول معارض سياسي في التاريخ” في مواربة سياسية تحمل دلالات التمرد كفعل إنساني مشروع، أما عن قطته “آيس هارت” والتي تحمل الرواية اسمها فهي “بيضاء” فارسية وقد احترقت مع احتراق مرسمه، فهي لاتزره في الأحلام على خلفية من اللهيب أو الأدخنة لكن” التراب كان العنصر المشترك في كل زياراتها” واللون الأبيض برمزيته للموت والميلاد والفتور وفقدان الشغف الذي يمتلكه بطل الرواية قد أحدث انسجاماً مع تيمات النص، وفي العالم الآخر يقابل “أيس هارت” التي تخفف من أجواء الجلال التي تسيطر على الرحلة وهي تنطق بلسان البشر: ” كم افتقدك أيها الأحمق؟”، يعانقها فتفر بعيداً عبر مروج واسعة رغيدة من العشب والدلال في إيماءة إلى أنها سعيدة في عالمها الجديد، فهي غير معنية بالرماد الذي يخشاه أهل الدنيا ولا بالخلود “سواء في الجنة أو حتى في ذاكرة الفن التشكيلي”.

رحلة محمد بركة في “آيس هارت في العالم الآخر” هي امتداد لرحلات نفسية وميتافيزيقية – مر بها الكثيرون- يواجه فيها الراوي التابوهات الثقافية في مجتمعه والتي رسخت الخوف الأزلي من الموت عبرالأوهام والأساطير التي نسجت حوله، فهو لم يقابل الثعبان الأقرع الذي يحمل مطرقة صلبة ولم يرعذاب الآخرة التي يصرعليها شيوخ أهل الأرض، بل قابل طيفاً متسامحاً لديه ابتسامة أبوية حانية وهو مرشده الذي يقوده إلى عالم الروح، حتى أبيه يبدو أكثر جمالاً وحناناً وإشراقاً عندما قابله في رحلته فبدا وكأنه “ضوء يتأهب للعناق” وفي حوار طويل وأسئلة شائكة عن حور العين والملائكة الإناث وأعمال الجنة وعناصر التشويق والمتعة فيها واستدعاء للواقع الأرضي الذي لم يستطع تحييده أو تجاهله، اختصرالطيف التجربة إلى العالم الآخر في عبارة استنكارية لا تخلو من عتاب وفيها من الحكمة والقدسية ما يثبت الفؤاد ” خُلقتم من حب ويسري في عروقكم الحب ثم ترتابون؟” الحب بعد هذا الوعي يصبح وسيلتنا لتصور العالم القادم، إنه الحب الكلّي المطلق المزيج من كل أنواع الحب، إنه وسيلتنا للمعرفة، وأفضل أحوالها تجسُّدها المرأة، وفي حال “آيس هارت في العالم الآخر” فهناك الحب القديم “سلوى” بما يحمله الاسم من دلالات، والتي سأل عنها الراوي في رحلته مع عالم الروح، وهناك “كرستين” المؤمنة به والمصدقة لفطرته والمتعاطفة مع أحواله، وللاسم دلالاته الروحية أيضاً، وفي أحوال الحب يغدو الممنوع مباحاً، ويصبح الحب سلاحاً ثورياً يباح معه كل شيءٍ محبوب، وتغيب الخطيئة الأولى -خطيئة آدم- التي ما زالت تثقل ضمائر الناس، والحب لا يعمل إلا مع الأمل، وبهما يتجدد العالم، ويصبح فردوساً آخر غير الفردوس الإلهي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى