رأى

إستراتيجيات التنمية الإقتصادية التونسية

استمع الي المقالة

بقلم: فؤاد الصباغ 

يعتبر الإقتصاد الشريان الحيوي و القلب النابض لجميع القطاعات الحيوية بالدولة, فإذا تعطل ذاك المحرك تعطلت معه حياتنا اليومية و تأزمت معه أوضاعنا الإجتماعية. فمهما كان النشاط الداخلي بالمجتمع فهو يتطلب لإدارة حسابات و معاملات داخليا لتنظم التسيير الإداري و تضع ميزان مالي للمداخيل و النفقات و في المقابل أيضا نسبة تحقيق الأرباح شهريا و سنويا. فللدولة أيضا حساباتها و مخططاتها فإن فشلت تلك المخططات و الحسابات و المعاملات فإن النتيجة ستكون حتما كارثية علي جميع الأصعدة و بالتالي الإنزلاق نحو الهاوية و شل جميع أنشطتنا الخاصة و التي تعتبر في مجملها تمثيلا لذلك الإقتصاد الجزئي. فتحليل الإقتصاد الوطني الكلي التونسي يتشكل علي قاعدة بيانات و مؤشرات واقعية و التي بدورها تعكس الحالة الصحية لذلك الإقتصاد و مدى نجاعة نظرته الإستشرافية المستقبلية و مخططاته التنموية.

إذ إنتهجت تونس منذ إستقلالها عن المستعمر الفرنسي سنة 1956 مخططات تنموية إستشرافية علي مراحل وذلك إما ثلاثية أو رباعية أو خماسية, رغم أنها ألغيت في حقبة ما يعرف بالثورة الإجتماعية و تم تفعيلها مجددا مع بداية سنة 2016. إلا أن تلك المخططات كانت تنتهج سياسات إقتصادية مختلفة من فترة إلي أخري بحيث يتم تنفيذها خلال مدة زمنية معينة و بعدها يتم دراسة مدى تحقيقها للنتائج المخطط لها. فالبعودة إلي تاريخ الأحداث الإقتصادية التونسية و بالتحديد لسنوات الستينات و التي تعد العصر الذهبي “الإجتماعي” من خلال تجربة الإقتصادي أحمد بن صالح الذي أرسي مفهوم العدالة الإجتماعية و سياسة الإقتصاد المركزي و اللامركزي و تدخل الدولة في إنشاء المشاريع الحكومية الضخمة بحيث أحدثت مخططاته ثورة حقيقية في الناتج المحلي الإجمالي و نمو إقتصادي صاعد. كذلك حققت تلك التجربة الإقتصادية الناجحة التغطية الإجتماعية و الدعم الأساسي للطبقات الفقيرة و المهمشة من خلال ما يعرف بصندوق الدعم أو بالتعاضدية “الإشتراكية”. لكن تلك التجربة الإقتصادية الإجتماعية وقع إفشالها عمدا من خلال تقرير صادر من إحدى مؤسسات بريدن وودز و هو البنك الدولي بشعاره تحقيق التنمية المنشودة و إنقاذ الإقتصاد التونسي من الإفلاس. بالنتيجة تم التدخل في الشؤون الداخلية التونسية و ذلك من البوابة الإقتصادية و فرض إملاءات إقتصادية مجحفة و مؤلمة علي الطبقات الإجتماعية الفقيرة و التي هي في أشد الحاجة للدعم المالي و التغطية الإجتماعية. فشهد آنذاك الإقتصاد الوطني التونسي تحولا جذريا نحو إقتصاد السوق عبر ما يعرف بتجربة الإقتصادي الليبرالي الهادي نويرة و كانت تلك الحقبة بداية حقيقية لتراكم تلك الأزمات و التي أضحت تونس تعاني منها إلي غاية هذه الأيام. فتحرر الأسعار و الأسواق و خصخصة القطاعات الحيوية تعتبر مهمة و داعمة لبعض الطبقات الإجتماعية التي تملك رأس المال و القدرة التنافسية. لكن تعد مؤلمة لبعض الطبقات الإجتماعية الأخري خاصة منها “الغذاء و المعيشة” و “التعليم و الصحة”, بحيث تشكل كارثة حقيقية لهم لأن تونس ليست أوروبا أو اليابان أو الولايات المتحدة التي تصنع الطائرات و السيارات و الصواريخ و لديها عوائد مالية من الصادرات تفوق بكثير الإنفاق علي وارداتها و ليس قطاعها الخاص قوي و رأس مال رجال أعمالها كما يعتقد البعض و مناخ إستثماراتها سهل و قابل للصمود. فالسياسة الرأسمالية لا يمكن تنفيذها في إقتصاديات وطنية هشة بطبعها و أغلب شعبها مازال يعاني من ظروف إجتماعية حادة إلي غاية الآن. إذ كانت تلك الإستراتيجية التنموية الليبرالية لها تأثيرات سلبية علي الأوضاع الإجتماعية و تسببت فيما يعرف بثورة الخبر خلال سنوات الثمانينات نتيجة رفع الدعم عن تلك الطبقات التي تعاني الأمرين فقر مدقع و غلاء المعيشة و الحرمان من أبسط الحقوق الإجتماعية و الترفيهية. فسقط الإقتصاد التونسي سنة 1987 في الهاوية بسبب ظروف سياسية و إقتصادية و بدأت تونس تنتهج سياسة جديدة بدعم من صندوق النقد الدولي الذي تم الإستنجاد به من أجل الخروج من الأزمة مجددا و التي كان هو المسبب لها من خلال سياساته العمياء و الجوفاء و التي تعتبر في مجملها فاشلة. لكن لم تتواصل تلك العلاقة طويلا رغم تلك البرامج الواعدة لمخططات التأهيل الشامل و غيرها من البرامج للخصخصة, لأن الدولة وضعت رهان “التضامن الإجتماعي” و إستمرارية الدعم الإجتماعي كأولوية مطلقة و رفضت حكومة ما قبل الثورة الإجتماعية سنة 2011 الإنجراف نحو رفع الدعم الكلي عن تلك الطبقات الفقيرة بطبعها. أما السنوات الأخيرة بدأت بوادر التحرر الشامل و الكامل تظهر من جديد و بدأت الفجوات الإجتماعية تتسع بين الطبقات بحيث أضحت المعيشة صعبة جدا و ملموسة من خلال إرتفاع الأسعار بشكل رهيب و غريب. كما أن التغطية الإجتماعية تقلصت بحيث غابت كليا العدالة الإجتماعية في صلب أغلب القطاع الخاص التونسي نظرا لغياب الدولة الحامية لحقوق تلك الطبقات الإجتماعية و أطماع رجال المال و الأعمال للربح دون مراعاة ظروف تلك الطبقات الكادحة و المنتجة و إستغلالهم وفقا للأوضاع الإنتاجية لا أكثر و لا أقل. فالإنتاجية العامة التونسية غير ثابتة و رأس المال للقطاع الخاص جبان و لا يجازف بالإستثمار في ظل أي حدث دولي أو أزمة خارجية علي غرار فيروس كورونا أو الحرب الأوكرانية. فالنتيجة كانت تأزم الوضع الإقتصادي و الإجتماعي و تدهور كلي لأغلب المؤشرات للإقتصاد التونسي الهش بطبعه خلال الآونة الأخيرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى