رأىسلايدر

إبنة الرسائل القديمة!

استمع الي المقالة

بقلم: د. سلوى جودة

 أكاديمية مصرية

لعبت الرسائل المكتوبة دورا تاريخيا هاما في نشر الأفكار وفي شحذ الوجدان وتعديل السلوك وتهذيبه وفي تغيير حركة التاريخ، ولم تكن الرسائل الطريقة الأهم وربما الوحيدة للتواصل بين البشر في العصر الحديث فقط بل كانت أهم ادوات التطهر الأرسطي catharsis لكل مشاعر الخوف والقهر والغضب التي يعاني منها الإنسان في رحلته على الأرض وكان لها طقوسها ومفرداتها وادواتها واساليبها الخاصة التي تتبدل من حال الى حال ومن وقت الى اخر ولم تكن حكرا على طبقة أو جنس أولغة.

فالملوك والساسة والادباء والمفكرين والثوار وحتى الصعاليك مارسوا فعل الكتابة كمهارة انسانية لامعنى للحياة بدونها. فرسائل حنا اردنت وهيدجر وكافكا وميلينيا وسيمون دو بفوار وسارتر وفريدا كالو ودييجو ريفيرا ورسائل تي اس اليوت لملهمته وغيرهم ارثا فريدا يمحو ولو قليلا ماشهده العصر الحديث من أهوال ومأسي افقدت الثقة في ساسته وعلماؤه وفي منظومة القيم بكليتها وربما في انسان هذا الزمان.

ولقد التفتنا في سن مبكرة إلى فظاعة التمييز والعنصرية وخطاب الكراهية من رسالة مارتن لوثر كينج من سجن برمينجهام – الاباما حيث سُجن لمشاركته في احتجاجات غير عنيفة ضد الفصل العنصري، والتي تعد الأكثر أهمية في التاريخ الحديث والتي كتبها على قصاصات صغيرة تمكن اصدقاؤه وانصاره من جمع وحداتها ونشرها في الصحف والمجلات وكانت صرخة ضد العنصرية والقهر والألم فهو يرى ان الناس لديهم مسؤلية اخلاقية لكسر القوانين الجائرة:

“الظلم في أي مكان يمثل تهديدًا للعدالة في كل مكان” 

وكتب في رسالته مدافعًا عن المقاومة السلمية للعنصرية : “أنا في برمنغهام لأن الظلم هنا. لا يمكنني الجلوس مكتوف الأيدي في أتلانتا ولا أكون قلقًا بشأن ما يحدث في برمنغهام.”

وتحولت هذه الرسالة الى وثيقة هامة لمقاومة العنصرية والتنديد بها ولحركة الحقوق المدنية الامريكية.

وكرهنا كرة الحرب المتدحرجة التي لاتثتثني أحد من رسالة الشاعر البريطاني سيجفريد ساسون البالغ من العمر وقتها 31 عاما والذي عمل كجندي خلال الحرب العالمية الأولى والتي تعد الوحيدة التي نقلت جحيم الحرب واهوالها من جبهات القتال الى شوارع بريطانيا واحيائها ومنتدياتها ونخبها وللإنسانية كلها والاهم هو التنديد بدوافعها الكارثية عندما كتب رسالة مفتوحة إلى القادة العسكريين البريطانيين في عام 1917، بأن الحرب “تطول عمداً من قبل الأشخاص الذين لديهم القوة لإنهائها”.

كتبها وهو الذي خدم مع Royal Welsh Fusiliers في فرنسا وفلسطين ، وحصل على الصليب العسكري للبسالة وأصيب مرتين، واعلن أنه” سيرفض العودة إلى الخنادق.” وليس ذلك فحسب بل أكد أن هذا” عمل من أعمال التحدي المتعمد للسلطة العسكرية” وإنه “يتصرف نيابة عن الجنود”. لقد شعر أن “حرب الدفاع والتحرير” التي دخلها أصبحت “حرب عدوان وغزو”. واعتقد أن نهايتها “يمكن تحقيقها عن طريق التفاوض”.

وأضاف: أنه “لم يعد بإمكاني أن أكون طرفاً في إطالة أمد معاناة القوات من اجل غايات اعتقد انها شريرة وظالمة أنا لا احتج على سير الحرب بل احتج على الاخطاء السياسية والنفاق الذي يدفع ثمنه المقاتلون.”

طُبعت رسالته في برادفورد بايونير في 27 يوليو 1917 ونشرت في جريدة التايمز وتسببت قراءة الرسالة علنًا في مجلس العموم إلى إثارة ضجة كبيرة, لم تكن شجاعة ساسون موضع شك أبدًا – فخلال فترات عمله على الجبهة الغربية ، كان شجاعًا بشكل استثنائي. استولى بمفرده على خندق ألماني على خط هيندنبورغ.

وبينما كان الجنود الذين يرفضون الذهاب إلى الخطوط الأمامية سيواجهون محاكمة عسكرية، تم فحص ساسون من قبل الأطباء وأعلن أنه يعاني من مرض عقلي, وبالتالي، لم يكن لائقًا لمواجهة محكمة عسكرية، وتم إرساله إلى مستشفى كريجلوكارت الحربي، بالقرب من إدنبرة، حيث عولج من مرض التقوقع حول الذات. انتهت الحرب ورحل قادتها ورحل ساسون وبقيت رسالته شاهدا على اهوال الحروب ونتائجها الكارثية, ففي الحروب الكل خاسر.

وتعلمنا الحب من الرسائل المتبادلة بين طه حسين وزوجته الفرنسية والتي نشرتها دار المعارف عام 1982 والتي تحوي وصفا بديعا لحالة العشق المتبادلة فيخرجانا من مكابدات واقع ينسج أرقه الى حقيقة “أنا لاأحب الأفلين “وتجعلنا نرفرف كيمامات الروح في فردوس الله وتنتعش اللغة وتستعيد قدسيتها ومجدها القديم, فيقول في أحدها” ابقي ولا تذهبي,سواء خرجت أو لم اخرج احملك في..أحبك ..ابقي .. أبقي..لن أقول لك وداعا فأنا ملكك وسأملكك دوما” وكتب ” بدونك اشعر انني اعمى حقا أما وانا معك فإني اتوصل الى الشعور بكل شئ واني امتزج بكل الاشياء التي تحيط بي، بدونك اشعر فعلا انني ضرير لاني معك قادر على استشعار كل شئ وعلى الاختلاط بالاشياء التي تحيط بي.”

وبسبب المشاكل المادية الحادة التى أخذت تتراكم على العائلة الصغيرة خصوصا بعد أن أصبح لهما طفلان، اضطرت السيدة سوزان إلى العودة إلى فرنسا وعلى مدى الأشهر التى ظلت فيها هناك، كانت تتبادل الرسائل يوميا مع زوجها البعيد، وكان كل منهما يتحدث إلى الآخر بدقة عن تفاصيل حياته اليومية. وفى واحدة من رسائله كتب طه حسين: “هل أعمل؟ ولكن كيف أعمل بدون صوتك الذى يشجعنى وينصحني، بدون حضورك الذى يقويني؟ ولمن أستطيع أن أبوح بما فى نفسى بحرية؟ لقد استيقظت على ظلمة لا تطاق, وكان لا بد أن أكتب لك لكى تتبدّد هذه الظلمة,أترين كيف أنك ضيائى حاضرة كنت أم غائبة ؟”

وعندما رحل كتبت سوزان: «ذراعي لن تمسك بذراعك ابدا، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس، اريد عبر عيني المخضبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شيء، أريد أن أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة “.

وذبنا في الوجد وجدا ولم نصحو منه أبدا مع رسائل مي وجبران:

” أشعر انني اريد أن اقول لك فقط, أحبك ومن ثم أبكي, ابكي لانها تعبر عن الكثير ولانها تختصر الكثير ولأن الأطفال حين يعجزون عن التعبير يبكون ويرددون كلمة واحدة غير مفهومة ومبهمة.”

 فعندما تقرأ رسائلهما تشعر أن هناك أرواح خلقت من أثيروتتحول حروف الكلمات إلى فراشات من نور” أنت يا مي كنز من كنوز الحياة, بل وأكثر من ذلك- أنتِ أنتِ, وإني أحمد الله لأنك من أمة أنا من أبنائها ولأنك عائشة في زمن أعيش فيه، كلما تخيلتك عائشة في القرن الماضي أو في القرن الآتي رفعت يدي وخفقت بها الهوا كمن يريد أن يزيل غيمة من الدخان من أمام وجهه. يا مي , يا ماري , يا صديقتي “.

 تجاوزت رسائل مي وجبران كونها رسائل عاطفية بين عاشقين إلى محاورات فكرية وفلسفية ونقدية:

 “أنت أقرب الناس إلى روحي، وأنت أقرب الناس إلى قلبي، ونحن لم نتخاصم قط بروحينا أو بقلبينا, لم نتخاصم بغير الفكر والفكر شيء مكتسب , شيء نقتبسه من المحيط , من المرئيات , من مآتي الأيام ,أما الروح والقلب فقد كانا فينا جوهرین علويين قبل أن نفتكر.”

 وفي وداعه الأخير كتبت : “لوحت له يدي مُودعة، ولا يعلم كم يداً في قلبي لوّحت له بالبقاء”.

ومازلنا نلوح لكما يا مي بقدر ما تركتما فينا من ميراث نبيل عال وطد الصلات بيننا وبين سماوات المحبة وعلمنا الوجاهة في انتقاء المفردات التي تطبطب على القلوب فتوقظها من عثرتها,قلوبنا التي لا تستسلم لتقلبات المواسم.

وتوحدنا مع أيات الرقة والوداعة وأحببنا الحب حتى امتزج بذرات الهواء الذي نتنفسه في رسائل أمل دنقل لزوجته والتي تأخذنا إلى حيث الربيع والحرية التي تميز ظلال العشق الأول وللبحار التي بلا نهايات:” “الصباح أجمل ما فيه أنه يقع بين موعدين، بين ابتسامتين من عينيك، صحيح أنهما سرعان ما تنطفئان، لكني أسرقهما منك، وأحتفظ بهما في قلبي”.

 فحبه لها ملجأ واستراحه يستريح به من قسوة العالم ومكره وخبثه:

“إنني لا أبحث فيكي عن الزهو الإجتماعي, ولا عن المتعة السريعة العابرة ولكني أريد علاقة معك أكون فيها كما لو كنت جالساً مع نفسي في غرفة مغلقة” وحبه لهاغير مشروط وهوعلى اهبة الاستعداد ليقايض به الحياة بما فيها ” أحبك كثيراً، لا أعرف الحالة التي أحبك عليها ولا أريد أن أعرف، لكنني أحسّ بالحب لك في كل الحالات، حتى عندما ينشط عقلك ويتصاعد في أبخرة الأوهام والتحليل العصبي والتنقيب في أشياء لا وجود لها، أحبك مبتسمة وغاضبة، حاضرة وغائبة، راقصة المشية أو هامدة الجسد.”.

وسرينا معك ياأمل إلى عليات الذات الحاضنة لسرائر ثمينة والى سحر الوجد وألق اللحظة وتفردها والى زغاريد الورد والود على ضفاف الروح.

وعرفنا جنوب النهر الطيب وفيوضات أهله من رسائل حراجي القط العامل في السد العالي وزوجته فاطنة أحمد عبدالغفارللشاعر عبدالرحمن الابنودي والتي صدرت في خمس عشرة رسالة متبادلة بين حراجي القط وزوجته والتي طرحت قضايا اجتماعية وانسانية كثيرة من عمل المرأة إلى معاناة الريف وبسالة عمال السد العالي والى الوعي المجتمعي والابستمولجي الناقد للمجتمع القروي وشكل العلاقات داخله وفي خضم هذه المعاني تؤثرك الجوانب العاطفية الجياشة وصوت فاطنه وهي تعاتب زوجها بلطف باذخ لاتملك إلا أن تبتسم له:

شهرين يا بخيل؟

ستين شمس وستين ليل؟

النبى يا حراجى ما أطول قلبك

لاقطع بسنانى الحته القاسيه فيه

الجدية والصلابة والشهامة والغيرة المشروعة التي تميز الجنوبي الثري بتاريخه لا تمنعه من ان يسبك شوقه على بساط عسجدي لايشبه أحد غيرة والمرأة والرجل في البوح سواء:

فى الليل يا حراجى تهف عليا ما عرف كيف ..

هففان القهوه .. على صاحب الكيف ..

وبامد إيديا فى الظلمه ألقاك جنبى..

طب والنبى صُح ومش باكدب يا حراجى.

وباحس معاك إن الدنيا لذيذة .

أما حراجي وقد اضناه الشوق لزوجته فكان رقراقا منسابا في بساطته – كرفيقه النهر الذي يعيش على ضفافه- وهو يتحدث الحب كأنه يسكب شجنه على جمر ملتهب :

ولقيت نفسي يا فاطنه طيره مهاجره..

والطيره جناحها محتار..

ولقيت نفسي على بوابة جبلاية الفار ..

باخد الأحباب بالحضن..

كانس كل دروب الجبلايه بديل توبي..

طاوي كفوفي وباخبط بيهم على صدر الدار

قلتلي: (( مين ؟ ))..

مسيت الدمعه ف حزنك بإيدي..

مسيت الدمعه اللي في حزنك ..

ماعرف خدتك في حضاني..

ولا إنتي خدتيني ف حضنك..

 انا ابنة هذه الرسائل التي علمتنا العتاب على صفحات دفاترنا وعلى العزف على اوتار المواجيد وبأن الكتابة هي الحياة و الكلمة مسؤلية بها نبتكرأبجدية جديدة ونفتح من خلالها نافذة في جداريبدو كجفن أغلق أهدابه هربا من اهوال الطريق ,فكنا نكتب من اجل رقراق الماء بين فجاج الصخر وللانعتاق من قهر المادة إلى اطلالة الروح الوثابة فقلم النون مره مستطاب لمن اراد الشفاء لسرائر القلوب وكانت الرسائل التي نكتبها للجميع وضوء مبارك لايترك من ادران النفس شئ إلا طهرها, وكتبنا الحب والاشواق والحنين والصداقة والامومة والأخوة وكنا نبدع في اختيار الأوراق والألوان وليس هناك مايمنع من عطر رقيق وجورية حمراء في طيات الكتاب, كنا نسبح شطر الفطرة وفي فضاءات الروح البراح ,فتشوا في خزائنكم القديمة ستجدون رسائل لو اقترب منها الغيم لأمطر وعلموا أولادكم الحب حتى لاتتبلد مشاعرهم وحدثوهم بالمفردات الحبيبة واصروا عليها واحكوا لهم أننا كنا نكتب بدلا من أن نقنبل القلوب أو أن نضغط الزناد:

اكتب.. قال: ما انا بكاتب..

قالت : اكتب بالذى هو أزرق بحر..

 وبأخضرنا يابسه..

وبالأصفر صحراء بها سوسنه..

 وجذع نخله وجدول ماء..

واكتب فينا أن الرحمه أساس الحكم..

 وأن العدل ميزان..

وباللون الأحمر لا تكتب إلا للوردات..

اكتبنا بكل الألوان عجمى أو عربي..

كل إنسان..

ولا تنسي أن ترسم قلب فى محبرتك..

 لكى تمنح روح للألوان..

اكتب..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى