رأى

محسن خضر الذي يعرفه الجميع

استمع الي المقالة

بقلم: د.سلوى جودة

أكاديمية مصرية

إن كنت قادما من البوابة الرئيسية ناحية شارع المقريزي وانعطفت يمينا خلف المسرح مرورا بمكتبة الطالب وصولا للممر الطويل الذي تحتضنه اشجار الكافور الكبيره العتيقة ربما عمرها اكبر من دول وجزر كثيرة في عالمنا المعاصروهي الشاهد الموثوق بروايته على الأجيال التي نقشت اسماء وقلوب مطعونة بسيف الحب العذري وامنيات غضة لم تصفعها الاسباب بعد وتمد الخطى قليلا للأمام في خط مستقيم فيظهر المبنى القديم ,فلا تملك إلا ان تلتفت ناحية اليسار إلى مكتب الأستاذ: إنه محسن خضر الراهب الناسك الذي يقطن الطابق الثالث في أقدم مؤسسة تربوية في الشرق الأوسط. الموسوعي التنويري ومن أهم التربويين في المنطقة العربية ,المخلص لقضايا الوطن والقومية العربية والتعليم والفنون والأداب.

دخوله الصباحي عادة من بوابة الكلية ناحية جسر السويس وفي يده حقيبة مثقله بالكتب وابحاث الطلاب وقصاصات لمقالات احتفظ بها ليناقشها داخل المحاضرة أو يمنحها لطالب مهتم بنفس القضية.. ولو وصل مبكرا عن موعد المحاضرة فمروره الأول علي عم عابدين بائع الجرائد في الممر المقابل لبوابة الكلية عند محطة منشية البكري لمترو مصر الجديدة..

خطواته رتيبة غير متعجله يميل برأسه قليلا ناحية اليسار وتعلو وجهه ابتسامة هادئة حزينة مرحبة بجميع من يقابله ,عادة يصعد من السلم الخلفي أعلى المسجد ويمر على غرفة الساعي الطيب عم محمود السني ليجهز له كأس الشاي قبل دخوله للمحاضرة ..الوحيد من الاساتذه الذين يصطحبهم الطلاب من مكتبه إلى قاعة الدرس ..

ويستهل الأستاذ أول محاضرة لمجموعتي بسلام الأرواح الشفافة المحلقة والشموس الطالعات بكبرياء والنجوم التي تتزين بها المجرة والزهور التي تتفتح كل بكور ومعها تباشير الأمل وأغاريد المحبة ..في الحقيقة بداية مربكة.. من هذا الأستاذ الذي يتسع القلب في حضرته وتتغير وظيفة الأشياء فالنهريفيض على الجبال واالسحب تنبت من الارض والبشر يهبطون من السماء وبوابات النور تفتح على مصراعيها في إيماءة بأن باستطاعتنا تغيير العالم ثقيل الظل أحيانا على حد قول درويش؟

وبمجرد صعودك السلم الذي يتوسط المبنى العتيق تحيطك هالة من الجلال والإكبار، فعلى نفس هذا الدرج صعد الكبار وذاكرة المكان تحفظ موطئ اقدامهم بعضهم سمعت عنهم ولم التقهم وبعضهم رأيتهم من بعيد والبعض كنت في مقاعد الصف أمامهم منهم اسماعيل اللقاني وحامد عمار وسعيد اسماعيل علي وشكري عباس ونادية جمال الدين وعبدالراضي ابراهيم وحسان محمد حسان ومحسن خضر.

وما إن تصل لنهاية الدرج وتلتفت يسارا ستوجهك طاقة نبيلة لامرئية إلى حيث يحتشد عدد من الطلاب والطالبات اشرأبت اعناقهم إلى باب الغرفة رقم (2) الذي قلما تجده مغلقا فأبوابه دائما مشرعة في كل الصباحات فالصباحات في الحقيقة تبدأ من هذه النقطة وتغرب منها – ينتظرون أن يأذن لهم باللقاء.. يعرفهم جميعا بأسمائهم ويعرف احوالهم وقدراتهم وكل منهم يشعر أنه أهتمامه الأول وأنه مهموم معه ويشاركه دهشته..دهشة السؤال الذي لا إجابة جاهزة له بل اجابته في مجموعة كتب مهداة من الاستاذ بلا شرط أو قيد سوى وعد لطيف بإعادتها ليستفيد منها زميل أخر.

فهو يضع العالم كله في قبضة يدك ويعلمك كيف تقوم بتفكيكة واعادة تركيبه من جديد وتحليله وفهمه والخروج بمعان من ركام أحداثه, وتأتي فرص السفر للإعارة التي ينتظرها معظم اعضاء هيئة التدريس والتي قد تمتد لعشرات السنين ويرفض أن يبتعد لأكثر من فصل دراسي واحد لثلاثة أو أربعة أعوام كأستاذ زائر فحلمه على أرضه وروحه لاتحتمل الإنفصال عن جذوره رغم قوميته وعروبيته المتأصلة ..يأبى الاستاذ أن يشد الرحال إلا لنواحينا :لأم الدنيا..

 وكانت أول زيارة لأتيلية القاهرة لي ولفرقتي بدعوة من الاستاذ الذي نتجمع حولة مشدوهين بتأويله للخطوط وللألوان وللفنان الذي ابدعها بلا تكلف أو تقنبل فكنا ننفذ معه إلى المعاني الثقال التي لاتمنح نفسها على الفورطواعية بل لابد أن تستنهض ذاتك العالية المتفردة وتتوحد معها حتى تصلها .. الحياة بعد هذه الزيارة لم تعد كالحياة قبلها وقد غصنا بكليتنا في منمنمات الجمال وذبذبات الملكوت وانغمسنا في نهر ارواحنا العميقة..

ولا أنسى للأستاذ دعوته لنا للاستماع إلى حفلة أم كلثوم بصوت العرب كل أثنين عند منتصف الليل والتي لفتنا إليها وحرص على تذكيرنا بها فكنا نستمع إليها في لقاء افتراضي كل في بيته فكانت تدريب على الانعتاق من قهر المادة إلى اطلالة الروح الوثابة وتصفح الكون الرازخ في الحنايا فثمة عالم لايرى إلا في عمق النوى خفي يتلو مع الوجد ياسمينا كنا نذوب في الوجد وجدا وكنا نحن الياسمينا..

محسن خضر الناصري المهموم بالقومية العربية والقضية الفلسطينية والحرية وقضايا التعليم والتيارات الفلسفية والفكرية الحديثة وفجوات العدالة في المجتمع والتعليم والحداثة ومابعد الحداثة وعلاقتها بالأصول الفلسفية للتربية وهو الحكاء البارع الكريم في سرد التفاصيل بذاكرته المخملية الثرية بالاحداث والمواقف والشخوص والأماكن والرفاق الذي لا يمل ذكرهم والبحث عنهم والذي يأخذك بسرده الذي لايخلو من أناقة اللغة وكبرياء الغواص الذي خاض التجربة وحيدا إلى ممالك الدهشة وإلى مجرات لم تطئها قدم من قبل فتلفتنا نقاء الفطرة والحرية التي تميز ظلال العشق الأول واكثر من ذلك يكتبنا بكل شروط الصلاة والانغماس الكامل في كمال اللحظة وصدقها وبحرارة الروح العابرة للتخوم.

فهو يستأذن بلياقة المسؤل وبارستقراطية النبلاء بأنه “سيعود متأخرا هذه الليلة” ويسري بنا على بساط دهشته إلى “شبح السيدة العجوز” ويقرأنا بكرم باذخ “بريد السماء” و يدخلنا سماوات البراءة الأولى في “السحابة الشقية” وسنوات الشقاوة في “أيام الكازوزا” والرفض في”انه السيستم ياغبي” ثم يأخذنا إلى “الربع الخالي” “وحدود الملكوت” رحلتك معنا عظيمة وفريدة سيدي الأستاذ الكبير الباسل قلبا وقلما فزدنا من أناقة مدادك فأمثالك رصيدنا من الغيث واكتبنا كي نستطيع مجابهة هذا البؤس البشري المطرد وطوبى لك..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى