بقلم: السفیر ناصر کنعانی
سفير الجمهورية الإسلامية الإيرانية لدى القاهرة
تواصل معی الکثیر من الأصدقاء المصریین عبر الهاتف والرسائل الخاصة لیقدموا واجب العزاء فی العالم الإیرانی المهندس محسن فخری زاده ولیعلنوا تعاطفهم وتضامنهم معنا، اعتبر الکثیر منهم أن الکیان الإسرائیلی هو الذی یقف خلف عملیة الاغتیال، بینما طالب البعض الآخر بأن ترد إیران سریعًا على هذه العملیة.
لا ینتابنی أی شک فی أن هذا الحادث الألیم والمریر والحزین قد تم بأیاد الإرهاب السوداء، وأزهق روح عالم کبیر لیس فقط من الشعب الإیرانی بل من الأمة الإسلامیة، کما نعلم أن قلوب الکثیرین من المجتمع المصری متضامنة مع الحکومة والشعب الإیرانی، ونحن نقدر ونعتز بهذا التضامن والتعاطف، فلطالما کانت قلوب الإیرانیین والمصریین متصلة على مدى قرون طویلة، وما أظهره الشعب المصری کرد فعل على هذا الحادث المریر لهو دلیل وحُجة أخرى على هذا التضامن والتعاطف الموجود، کما أن مصر حکومة وشعبًأ مثلها مثل حکومة وشعب إیران قد ذاقت خلال سنوات لیست بالبعیدة طعم اغتیال عدد من علمائها النوویین وغیر النوویین، ومصر تعلم جیدًا من الذی یقف خلف اغتیال هؤلاء العلماء وما هی الید الحقیرة الملوثة ومن هم الذین یقفون خلف اغتیالهم.
لقد أدانت الکثیر من الحکومات اغتیال المهندس فخری زاده، حیث وصف البعض هذه العملیة بالجریمة واعتبرها البعض عمل لا یمکن الموافقة علیه، فیما عبر البعض عن قلقه الشدید من عواقب هذا الاغتیال!
بینما دعا البعض إیران (وهی ضحیة الإرهاب) بضبط النفس! والتزم البعض الآخر الصمت وکأن شیئًا لم یحدث! ولکن من بین کل ردود الأفعال رأینا الفرحة التی تعم الکیان الصهیونی لدرجة أن هذا الکیان لم یتحمل تعبیر الاتحاد الأوروبی (الذی یدعی دائمًا دعمه لحقوق الإنسان) عن قلقه ووصف موقفه بالمنافق!
هناک بعض الاختلافات فی المعتقدات أو بعض الاختلافات فی التوجهات السیاسیة أو حتى النزاعات المریرة بین الدول الإسلامیة فی بعض المناطق، ولکن الحقیقة الواضحة والصریحة أن عدوهم واحد، وکلهم مستهدف من جبهة واحدة. حینما کانت تمر أوروبا بعصرها الأسود فی العصور الوسطى وکان العلم فیها مهجورًا ومتروکا، أو حتى تلک القرون الطویلة من الحروب والقتل الدموی الداخلی بسبب النزاعات الدینیة أثناء عصور محاکم التفتیش على العقائد، کان المسلمون حینها یعیشون تحت ظلال الإسلام وتعالیمه وبرعوا فی العدید من العلوم مثل الریاضیات وعلم الفلک والکیمیاء والفیزیاء والطب وما إلى ذلک وأحرزوا تقدمًا کبیرًا، وبالتأکید أن هذا الادعاء لیس بمعنى تجاهل التطورات العلمیة والإبداعات والابتکارات التقنیة والفنیة فی تلک الفترة فی أوروبا، کما لا یُمکن تجاهل تأثیر الثقافة والحضارة الیونانیة على الحضارة الإسلامیة، ولکن مما لا شک فیه أن العالم الإسلامی ظل لقرون طویلة ومتمادیة أحد قطبی القدرات العلمیة والتکنولوجیة والاقتصادیة والثقافیة والأدبیة بل والقدرات العسکریة المحوریة فی العالم، لدرجة أن الحضارة الغربیة الجدیدة قد استفادت أقصى استفادة من إنتاجات المسلمین العلمیة.
إن القرآن الکریم، بتشجیعه تعلم العلوم وترغیب الإنسان فی اختراق قطبی الأرض والسماء، بث حیاة جدیدة فی جسد الحضارة الإنسانیة، وخلق أجواء علمیة وثقافیة جدیدة.
«یَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ» (الرحمن – 33) «یَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَالَّذِینَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ»( المجادلة:- 11)
لقد أولى الدین الإسلامی أهمیة کبیرة للعلم والمعرفة لدرجة أنه وفقًا لعلماء القرآن، تم استخدام مادة العلم فی القرآن الکریم أکثر من 750 مرة فی أشکال مختلفة.
وفقًا للتاریخ والمفکرین الکبار مثل ابن خلدون (ولد فی تونس – توفى فی القاهرة)، فقد لعبت إیران قبل الإسلام وبعده دورًا لا غنى عنه فی إنتاج العلوم ونقلها وتطویرها وتعمیقها فی العالم الإسلامی.
لا شک فی أن محسن فخری زاده کان أحد النوابغ فی إیران والعالم الإسلامی فی مجال العلوم الفیزیائیة والهندسة النوویة والعلوم الجدیدة فی العصر الحالی، وکان أیضًا أستاذًا لمئات الطلبة الذی کانوا یدرسون فی مختلفة المراکز البحثیة والدراسیة الإیرانیة التی کان یشرف علیها بشکل مباشر أو غیر مباشر. على الرغم من الدعایة التی یقوم علیها أعداء إیران من ضمنها الکیان الصهیونی، فإن العلم النووی الإیرانی السلمی یخدم البشریة، وعلى الرغم من ضغوط الولایات المتحدة والکیان الصهیونی، أصدرت الوکالة الدولیة للطاقة الذریة العدید من التقاریر التی أکدت فیها مرارًا وتکرارًا على سلمیة الأنشطة النوویة الإیرانیة، إن العلوم النوویة هی بلا شک أحد متطلبات التقدم العلمی فی العالم، . وقد أحرزت إیران تقدمًا کبیرًا فی المجال النووی السلمی فی السنوات الأخیرة، وهو ما یراه المعسکر الصهیونی الغربی تهدیدًا لمحاولاتهم فی احتکار فی هذا المجال، لذلک ومن خلال اتهام إیران بعسکرة أنشطتها النوویة السلمیة، فقد بررت أعمالها المناهضة لإیران بما فی ذلک الاغتیال المنظم للعلماء الإیرانیین، فلم یکن اغتیال المهندس فخری زاده هی أول عملیة اغتیال لعالم إیرانی، حیث فقدت إیران خلال العقد المنصرم عددًا من علمائها النوویین خلال عملیات اغتیال إرهابیة منظمة، لذا فإن هذا الاغتیال المنظم لمحسن فخری زاده وبقیة العلماء الإیرانیین مثلها مثل عملیات الاغتیال الأخرى التی تستهدف علماء العالم الإسلامی والعربی من ضمنهم عملیات الاغتیال السابقة التی استهدفت العلماء المصریین والعراقیین واللبنانیین والتونسیین، وحقیقة الأمر أن اغتیال العلم والابتکار والقدرات العلمیة للعالم الإسلامی هی عقیدة معروفة لدى الکیان الصهیونی وهو یفعلها حتى یکون الکیان الأقوى فی المنطقة، کما أنها العقیدة المعلنة لأمریکا أیضًا حتى لا تتشکل أی قوة تعلو على إسرائیل فی المنطقة.
إن العالم الإسلامی وحتى یعود لعصره الذهبی، یحتاج إلى الطفرة العلمیة، وعلماء العالم الإسلامی هم الثروة الثمینة للعالم الإسلامی وقوته المحرکة، من الضروری للعالم الإسلامی أن یبذل المزید من الجهد لدعم وحمایة علمائه وأن یدین اغتیال فخری زاده وأمثاله بأعلى صوت.
وفی الختام یتبقى لنا سؤال:
ما هی مسئولیة منظمة التعاون الإسلامی والمراکز العلمیة والثقافیة والدینیة الکبرى فی العالم الإسلامی فی إدانة هذه الاغتیالات ومنع تکرار هذه الأسالیب الإجرامیة والمعادیة للإسلام؟