بقلم: مفيد الديك
دبلوماسى أمريكى سابق
قلب إعلان دونالد ترامب يوم الجمعة الماضي عن إصابته بفيروس كورونا السباق الرئاسي في الولايات المتحدة رأسا على عقب، وذلك قبل شهر تقريبا من موعد الانتخابات الأميركية الرئاسية يوم 3 الشهر المقبل. وترك هذا الإعلان المجلجل طرفي الحملة الانتخابية أمام خيارات موجعة وغير متوقعة. ولكن غالبية المحللين الأميركيين يتوقعون أن ترامب هو الذي سيدفع الثمن الأعلى لهذا الإعلان الذي هز العالم. فسيد البيت الأبيض لم يستطع حماية نفسه أو أسرته من هذا الفيروس الذي وصفه مرارا بأنه ليس أكثر خطرا من فيروس الإنفلونزا العادية!
فصبيحة يوم الجمعة وبعد ساعات من إعلان ترامب أنه وزوجته ميلانيا قد تأكدت إصابتهما بالفيروس، أعلنت حملته الانتخابية عن تعليق كل أحداث الحملة بل والأحداث الانتخابية التي كان سيشارك فيها أفراد عائلته. وأعرب كبار مستشاريه عن صدمتهم من تحول الأحداث بهذه السرعة، وأعربوا عن أملهم في أن تظل أعراض ترامب خفيفة، وأن يظل قادرا على الأقل على الظهور على شاشة التلفزيون الأسبوع المقبل لمواصلة التواصل مع مؤيديه.
وفي الوقت نفسه، كشف المنافس الديمقراطي جو بايدن عن نتائج اختباراته السلبية للإصابة بالفيروس واستمر في حملته الانتخابية، بدءًا بجولة انتخابية يوم الجمعة على ولاية ميشيغان. ولكن المراقبين لا يستبعدون أن يعلق بايدن حملته، ولو جزئيا، كنوع من التعاطف مع المأساة الشخصية التي حلت بمنافسه الجمهوري، وإن كانت تلك المأساة هي من صنع يديه ونتاج تجاهله واستهتاره بهذا المرض الذي قتل أكثر من 209 آلاف أميركي وأصاب أكثر من سبعة ملايين منهم حتى الآن.
كان نائب الرئيس الديمقراطي السابق حريصًا على تجنب أي شيء يمكن أن يُظهره على أنه يستغل الوضع يوم الجمعة؛ ففي ظهوره الانتخابي في ولاية ميشيغان الجمعة الماضي، لم ينتقد، على غير عادته منذ بداية حملته، ترامب لتعامله مع الفيروس، واختتم تصريحاته بدعوته إلى “حماية الأسرة الأولى، وكل أسرة تتعامل مع هذا الفيروس”.
وفي لفتة كريمة أخرى من بايدن، سارعت حملته الانتخابية الجمعة إلى إزالة الإعلانات التلفزيونية السلبية ضد ترامب وتعامله مع الفيروس، وفقًا لمسؤول ديمقراطي مطلع على حركة الإعلانات. وأرسلت جينيفر أومالي ديلون، مديرة حملة بايدن، رسالة إلكترونية للحملة بأكملها تحث أعضاءها على “الامتناع عن نشر معلومات عن وضع ترامب على وسائل التواصل الاجتماعي أو الظهور بمظهر المتشفي في إصابته وزوجته بالفيروس.”
ومع تقدم المرشح الديمقراطي بايدن بالفعل في استطلاعات الرأي، فقد كانت احتمالات ترامب الانتخابية تعتمد اعتمادا أساسيا على قدرته على مواصلته القيام بحملته الانتخابية وتنظيم اجتماعاته الانتخابية الشعبية كما فعل خلال الشهرين الماضيين، رغم تواصل انتشار الوباء وتحذيرات المسؤولين الصحيين له من أخطار هذه التجمعات حتى ولو كانت تتم في الهواء الطلق. ويبدو واضحا الآن أن مصير محاولته إعادة انتخابه يتوقف بشكل متزايد على وضعه الصحي – وما إذا كان سيتمكن من التغلب على المرض وإقناع الناخبين بمنحه أربع سنوات أخرى.
ومن المؤكد أن إصابة ترامب بالفيروس ستبقي جائحة الفيروس في مقدمة ومركز الحملة الانتخابية في الأسابيع المتبقية قبل الانتخابات، وهو تطور لا شك سيكون في صالح السيد بايدن، الذي تركز رسالته الانتخابية على انتقاد إدارة ترامب للمرض الفتاك. وفي المقابل، كان ترامب يتجنب الحديث عن هذا الوباء الذي كان واضحا أنه أخفق إخفاقا شنيعا في التعامل معه، كما أظهرت استطلاعات الرأي الأميركية.
وفي البيت الأبيض، أقر مستشارو ترامب بأن إصابته بالفيروس لا شك ستكون مذكرا دائما وقويا للناخبين بمدى استخفاف ترامب بالفيروس، ليس فقط بسبب إهماله لسلامته وسلامة أسرته الشخصية ولكن أيضًا في تقييماته الوردية المفرطة حول الجائحة وقرب زوالها. واعترف أحد مستشاري ترامب بأن تهوره يرقى إلى مستوى “الكارثة السياسية وهو يدفع الثمن الآن.”
وقد بات واضحًا في وقت متأخر من يوم الجمعة أن عددًا من الحضور البارزين في حفل إعلان ترامب في البيت الأبيض السبت قبل الماضي للإعلان عن ترشيح القاضية إيمي كوني باريت للمحكمة العليا أصيبوا هم الآخرون بالمرض في ذلك الاحتفال الذي نظمه ترامب كعادته من دون ارتداء الحضور للكمامات ومن دون تباعد اجتماعي أو أية إجراءات حماية أخرى. ومن بين هؤلاء ثلاثة أعضاء في مجلس الشيوخ ومستشارة إعلامية بارزة في البيت الأبيض ورئيس جامعة وغيرهم.
وعلى الرغم من كل الأحداث الدرامية التي حملها العام 2020، فقد ظل السباق الانتخابي الأميركي ثابتا أمام العديد من الأحداث الخطيرة — من محاكمة ترامب البرلمانية الفاشلة إلى انتشار وباء كورونا إلى الاحتجاجات العنصرية الواسعة النطاق والأزمة الاقتصادية التي تعصف بأميركا والعالم. وربما كان العنصر الثابت أيضا في هذه الحملة هو تقدم المرشح الديمقراطي افي استطلاعات الرأي بثبات منذ بدء العام الحالي بما لا يقل عن سبع نقاط مئوية.
لكن تأكيد إصابة ترامب وزوجته بالفيروس ربما كان أهم وأشد ضراوة من كل هذه الأحداث مجتمعة لناحية تأثيرها على نتائج الحملة الانتخابية. ويعود ذلك لأربعة أسباب رئيسية:
أولا، يشعر الجمهوريون بالقلق الآن من أن ترامب سيضطر إلى البقاء في المستشفى لفترة طويلة من الزمن، وهو ما سيمنعه من مواصلة اجتماعاته الانتخابية التي هي شريان حياة حملته الانتخابية لأن الرجل يستطيع فعلا حشد الآلاف من مؤيديه حتى في حال انتشار وبائي كما هو الحال حاليا. كما أن المسؤولين الجمهوريين من أتباع ترامب يخشون من أن السباق الذي لم يبق فيه سوى عدد قليل من الأميركيين الذين لم يقرروا بعد لمن سيصوتون سوف يتجمد في مكانه، أي أن يبقى لصالح المرشح الديمقراطي. وقال العديد من الخبراء الاستراتيجيين الجمهوريين إن استطلاعات الرأي الداخلية التي أجروها في الليلتين اللتين تلتا المناظرة الرئاسية بين ترامب وبايدن التي بدا فيها ترامب مقاطعا لبايدن ومتنمرا عليه وغير رئاسي كشفت عن انزلاق كبير في نسب تأييد ترامب، بل وإن أداءه في تلك المناظرة ربما أضر بفرص مرشحين جمهوريين آخرين في هذه الانتخابات ومنهم أعضاء في مجلسي الشيوخ والنواب.
كما بات في شبه المؤكد الآن أن المناظرتين الرئاسيتين المتبقيتين بين ترامب وبايدن سوف يتم تأجيلهما أو ربما إلغاؤهما، وهو ما سيحرم ترامب من محاولة تغيير مسار الحملة الانتخابية المختلة بشكل واضح لصالح منافسه الديمقراطي. فقد كان من المقرر إجراء المناظرة التالية بعد أقل من أسبوعين من الآن، في 15 الجاري، والثانية بحلول يوم 23 الجاري. فمن يدري أين سيكون ترامب حينئذ وما سيكون عليه وضعه الصحي! فالرجل في الـ 74 من عمره وهو يعاني من السمنة ومن مرض في القلب، وكلها عوامل تجعل الكورونا داء أكثر فتكا وضراوة.
ثانيا، بتأكيد إصابته بفيروس كورونا، خسر ترامب نقطة قوية جدا أمام منافسه بايدن وأمام الجمهور الأميركي لأنه خاض حملته الانتخابية كلها مدافعا عن الطريقة التي أدار بها أزمة الفيروس ومقللا من خطورته ومطالبا الولايات الأميركية بإعادة فتح اقتصاداتها ومدارسها وجامعاتها دون مبالاة بالمرض. ولكنه الآن أظهر أنه لم يكن قادرا حتى على حماية نفسه أو أسرته من هذا الوباء الذي اقتحم البيت الأبيض، الذي يعتبر أكثر مبنى في العالم حماية وتحصينا. فإذا كان ترامب كما اتضح الآن غير قادر على حماية نفسه وزوجته من المرض، فكيف كان سيحمى أبناء الأميركيين الذين كان يطالبهم بعدم المبالاة بالمرض؟؟
ثالثا، خسر ترامب نقطة أخرى قوية في حملته الانتخابية بعد تأكد إصابته بالمرض وهي تأكيده منذ البداية على أن وباء كورونا، كما قال في اجتماع لجمع الأموال لحملته قبل ساعات فقط من اعترافه بالإصابة بالمرض هو في طريقه للتلاشي. وأنه بناء على ذلك التنبؤ غير المدعوم بأي دليل سيؤدي إلى استعادة الاقتصاد الأميركي عافيته، وأن هذا الاقتصاد سيكون العام القادم “أقوى مما كان عليه أبدا.”
رابعا، أدى اعتراف ترامب بإصابته بالمرض إلى دحض إحدى حججه المركزية ضد منافسه بايدن الذي كان يصفه بأنه بسبب عمره البالغ 77 عامًا هو رجل ضعيف وغير قادر على قيادة البلاد. وقد أصبح هو الآن عرضة لمثل هذه التهم بعد أن أصيب هو، لا بايدن، بالمرض وأصبح معطلا تقريبا عن القيام بواجباته الرئاسية تقريبا.
كان ترامب يعاني من تخلف واضح في استطلاعات الرأي منذ بداية العام مقابل المرشح الديمقراطي، وسجلت شعبيته تراجعا إضافيا بعد أدائه الذي وصف بـ “المقزز” في مناظرته الأولى مع بايدن الثلاثاء الماضي. غير أنه حتى أشد مؤيديه حماسة له يعربون عن قلق واضح الآن من أن إصابته وزوجته بفيروس كورونا يوم الجمعة الماضي ربما كانت الضربة القاضية لحملته الانتخابية كلها. إن كانت تلك “مفاجأة أكتوبر” في الموسم الانتخابي الأميركي هذا العام، فيا لها من مفاجأة!