بقلم: مفيد الديك
الإعلامى.. والدبلوماسى الأمريكى المحنك سابقاً
يثير رفض دونالد ترامب القول صراحة إنه سيمتثل لإرادة الشعب الأميركي ومواصلة انتقال السلطة السلمي في الولايات المتحدة إذا ما خسر الانتخابات المقبلة في 3 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، الكثير من الهلع والسخط في أوساط اليسار والنخب الليبرالية الأميركية، بل والعالم. وباتت مواقف ترامب هذه وتشكيكه في شرعية الانتخابات منذ الآن، مع أنه هو الجالس في السلطة وليس مرشح المعارضة، تطغى على النقاش في وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث والفكر الأميركية، بل والعالمية بصورة متزايدة في الأسبوعين الماضيين. المستهجن هو أن هذا النوع من النقاش عادة ما نراه في بعض دول العالم الثالث مثل الكونغو أو الدول المستقلة حديثا عن الاتحاد السوفياتي مثل بيلاروسيا التي تحدى فيها الرئيس البيلاروسي مرشحة المعارضة رغم فوزها في الانتخابات في الشهر الماضي. ولكن أن يحتل مثل هذا النقاش الصدارة في كواليس النخب في الولايات المتحدة التي عادة ما تكون الحكم في أي نقاش كهذا في أية دولة في العالم هو أمر مستغرب حقا. ولكن علينا أن ندرك أن هذا الرجل مختلف تماما عن كل من سبقوه من رؤساء أميركا الـ 44. حتى أقرب الناس إليه، شقيقته التي تقاعدت كقاضية وصفته في كتاب ابنة شقيقها بأن “الغش والخداع هما أسلوب حياة بالنسبة إليه.”
هل أعتقد شخصيا، بحكم تجربتي ومعرفتي بالدستور والتاريخ الأميركيين، أن ترامب سيرفض إخلاء البيت الأبيض إذا خسر الانتخابات؟
الجواب المختصر هو لا.
هل أعتقد أنه سيكون قادرًا على ممارسة سلطاته كرئيس لمنع نتيجة مشروعة لانتخابات مشروعة وحرة؟
الجواب مرة أخرى هو لا.
هل أعتقد أن هذا الرجل المعروف بحبه للخديعة والاحتيال وكسر القانون يمكن أن يفكر على الأقل في الالتفاف على نتائج الانتخابات مهما كان الأمر وخلق أزمة دستورية في أميركا قد تدوم أشهرا لإطالة بقائه في البيت الأبيض؟
الجواب، للأسف، هو بالتأكيد، نعم.
أحد الأسباب الرئيسية التي يعتقد ترامب أن إثارة مثل هذا النقاش في أميركا قبل أقل من خمسة أسابيع على الانتخابات هو اعتقاده أنه بمثل هذه التصريحات “يغير عناوين الأخبار” السلبية بالنسبة إليه. فبدلا من تركيز الجمهور على فضيحته في إدارة وباء كورونا وجعل الولايات المتحدة في مؤخرة دول العالم في التصدي لهذا الوباء (عدد الوفيات في أميركا ما يقرب من 205 آلاف والإصابات أكثر من 7 ملايين) وانهيار اقتصاده الذي كان يستعد لاستخدامه كورقة رابحة وحيدة، إنما مهمة جدا، في خوض الانتخابات القادمة، بدأ الأميركيون في التفكير في ما يعنيه أن يرفض ترامب الخروج طواعية من البيت الأبيض حتى لو خسر الانتخابات. ثم إنه بمقل هذا الانتخابات يلهب حماس قاعدته الانتخابية التي تستمتع بمثل هذه المواقف لترامب وتعتبرها تعبيرا عن قوته وتحديه للمألوف، وهو أكثر ما يغريهم فيه.
محاولة تجنب المحاسبة القانونية إذا خرج من البيت الأبيض
طريقة ترامب في دغدغة أحلام مؤيديه تتمثل دائما في محاولة بذر الشك وعدم اليقين حتى لو كان يدرك أنه لن ينجح في ما يقول إنه سيفعله. تمعنوا، مثلا، في محاولته في بداية عهده الرئاسي منع مواطني سبع دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي وقعه كأمر رئاسي ليبدأ تطبيقه على الفور. لكن قاضيا مجهولا واحدا في ولاية صغيرة أوقف أمره وألقاه في سلة القمامة. بالنسبة إلى ترامب وأسلوب تفكيره الذي ألفناه ليست النتيجة هي المهمة، بل الفعل. هو بذاك التوقيع على ذاك الأمر الرئاسي أعطى مؤيديه “اللحوم الحمراء” التي يتوقعونها منه، أما أن يتمكن هؤلاء من التلذذ بأكلها أم لا فهذه قضية أخرى ليست جزءا من طريقة تفكير ترامب. وهو واجه الأمر نفسه في وعده لهم ببناء جدار على الحدود مع جارته المكسيك لمنع تواصل الهجرة غير المشروعة “على حساب المكسيك.”! ولكنه لم ينجح في بناء سوى عدة كيلومترات من هذا الجدار بعد أن اختلس بضعة ملايين الدولارات من ميزانية القوات المسلحة الأميركية، لا المكسيك. وعرضت بعض الفيديوهات عل وسائل التواصل قيام المكسيكيين بتفكيك هذا الجزء الصغير من الجدار وسرقة الحديد منه وبيعها في أسواق “الخردة” المكسيكية! إذن فترامب سيواصل التحدث عن مواقفه هذه حتى لو كان يدرك أن ذلك سيكون شبه مستحيل.
أرجو ألا يساء فهمي هنا. فترامب، على حد قول محاميه السابق مايكل كوهن، مصاب بالهلع من إمكانية أنه إذا خرج من البيت الأبيض قبل مضي فترة خمس سنوات (وهي فترة يجب أن تمر قبل أن تسقط بعض الدعاوى القضائية، وأهمها الضريبية ضده، – سقوط القضايا بالتقادم) فهو سيواجه مصيرا قاتما قد يكون السجن! ولذلك، فترامب قد يحاول فعلا القيام بما قال صراحة إنه يفكر في القيام به، أي إعلان أنه لن يقبل بنتائج الانتخابات يوم 3 تشرين الثاني/نوفمبر وخلق أزمة دستورية في الولايات المتحدة تتجاوز يوم مغادرته البيت الأبيض وهو يوم الـ 20 من كانون الثاني/يناير، وهو موعد نص عليه الدستور الأميركي صراحة. وفضلا عن خوفه من أن يكون مصيره السجن إذا ما خرج من البيت الأبيض في 3 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، فترامب يجد نفسه مدفوعا بالكثير من العوامل والأسباب التي أهمها عوامل نفسية، فلا خلاف على أ، الرجل نرجسي بامتياز. فهو مثلا يدرك مسبقا أن فوزه بالانتخابات لمرة واحدة فقط سيكون وصمة عار في جبينه إلى الأبد، وأن ذلك سيجعله يبدو أقل شعبية وتأييدا – بل وذكاء – بين الأميركيين من خصمه اللدود باراك أوباما أو حتى جورج بوش الابن اللذين فازا كل منهما بفترتين رئاسيتين. وثانيا، هو رجل لديه نزعات ديكتاتورية واضحة وجهل لا مثيل له بالحكم والديمقراطية والدستور الأميركي. ولذلك فهو يحلم، على الأقل، أن يتمكن من البقاء في السلطة لا لفترة لرئاسية ثانية، بل وإلى الأبد، وهو يردد ذلك أمام أنصاره، بنوع من “خفة الدم” أحيانا ولكنه في دخيلته يقصد ذلك. فترامب سيحاول استغلال كل ثغرة دستورية أو قانونية للبقاء في السلطة ولو ليوم واحد أطول مما يسمح به الدستور.
ولكن يجب التنويه أيضا إلى أن هناك بعض الأسباب الموضوعية التي تساعد ترامب على التجرؤ على مجرد التفكير بهذه الطريقة المثيرة للهلع فعلا. فهو محاط بوزير عدل، بيل بار، الذي هو، وللمرة الأولى في تاريخ أميركا، يعتبر نفسه محاميا شخصيا لترامب وليس “المحامي العام” لكل الجمهور الأميركي، كما يطالبه الدستور. وهو أيضا محاط بغالبية في مجلس الشيوخ الأميركي من الجمهوريين الذين يخشون سطوته في الانتخابات إذا ما تجرأوا على مخالفته علنا، أو حتى في مجالسهم الخاصة. ولهذه الأسباب وغيرها نجد أن ترامب يسرّع من وتيرة هجماته على العملية الديمقراطية في الولايات المتحدة، ويزرع الأكاذيب وينشر الشكوك حول بطاقات الاقتراع التي تتم عبر البريد، وليس الاقتراع الشخصي، وما يسميه بالاحتيال الانتخابي والتدخل الأجنبي وشرعية الأصوات التي لا يتم فرزها بعد يوم الانتخابات.الغريب، كما قلت آنفا، أنه يشكك في شرعية الانتخابات الأميركية مع أنه الرجل الجالس في سدة السلطة، وليس المعارضة كما هو الحال في بقية العالم!!
الناخبون الأميركيون هم الذين سيحددون مصير ترامب
لكن العديد من الجمهوريين الذين تجاهلوا تصرفات ترامب الصارخة التي تستوجب عزله وأبقوه في منصبه حين تمت محاكمته برلمانيا في العام الماضي يقولون الآن إن أميركا ستتمتع بانتقال سلمي للسلطة – ولا شيء يمكن أن يوقفها، ولا حتى ترامب. وعزز مجلس الشيوخ بالإجماع هذه الرسالة يوم الخميس بإصدار قرار يلتزم بالانتقال السلمي.
وعدا عن سلطات مجلس النواب ومجلس الشيوخ في قضايا الانتخابات والمحاكم الأميركية المعروفة باستقلاليتها عن الجهاز التنفيذي، هناك علامات أيضا على أن العملاق النائم للجيش الأميركي قد استيقظ وهو في حالة تأهب بعد رؤية الطريقة التي يتصرف بها ترامب. فقد ذكر ديفيد إغناشيوس، كاتب العمود في واشنطن بوست، الأسبوع الماضي أن القيادة الإلكترونية الأميركية اتخذت خطوات استباقية من شأنها أن تجعل من المستحيل على روسيا أو أي شخص آخر تعطيل أنظمة التصويت في الولايات المتحدة كما حدث في العام 2016، رغم أن ترامب تأكيدا لا يريد منها القيام بذلك.
كما أن هناك ما يشير إلى أن الجيش الأميركي ليس مستعدا للسماح بأن يقوم ترامب بأول انقلاب على سلطة شرعية في الولايات المتحدة. بل من الواضح أن الكثير من رجالات الجيش الأميركي الحاليين، والسابقين، وأبرزهم زير دفاعه السابق جيمس ماتيس، يرونه على أنه خطر على الديمقراطية وليس مؤهلا ليكون الرئيس. وفي الآونة الأخيرة، أعلنت مجموعة من ما يقرب من 500 من الجنرالات والأدميرالات وكبار مسؤولي أجهزة القومي الأميركية – بمن في ذلك الجنرال المتقاعد بالقوات الجوية بول سيلفا، الذي كان حتى العام الماضي نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة في عهد ترامب – عن تأييدها علنا للمرشح الديمقراطي جو بايدن. ووصف هؤلاء تارمب ترامب بأنه “ليس مؤهلا لتولي المسؤوليات الهائلة لمنصبه” وتحديات التعامل مع “عالم مشتعل”.