د. محمد السعيد إدريس
mohamed.alsaid.idries@gmail.com
إعتاد الإعلام العربى، ضمن سلبياته الكثيرة أن يصف أياماً وأحداثاً بأنها “تاريخية” رغم أنها قد تكون أقل من عادية، أو فى أحسن التقديرات، أياماً عادية، ولكثرة استخدام هذا التوصيف، فإنه فقد معناه ودلالته، لكن هذا اليوم الثلاثاء الخامس عشر من سبتمبر عام 2020 سيكون، بجدارة، يوماً استثنائياً فى التاريخ العربى، وعندما نقول “يوماً استثنائياً” فإننا لا نقصد التعامل معه باعتباره “يوماً مجيداً” أو إعطائه بعداً “أخلاقياً وقيمياً”، لكننا نقصد أنه سيكون يوماً فارقاً فى تاريخ صراعات إقليم الشرق الأوسط المريرة، ونعتقد أنه سيكون يوماً فارقاً على مستويين؛ الأول هو مستوى الصراع العربى- الإسرائيلى، والثانى هو مستوى الصراع الإقليمى الإسرائيلى – الإيرانى الذى يمكن أن يتطور إلى استقطاب إقليمى بين محور يضم إسرائيل ودول عربية سواء كانت خليجية أو غير خليجية ترعاه وتدعمه الولايات المتحدة الأمريكية، ومحور آخر يضم إيران ومعها أطراف أخرى يمكن تسميتها بـ “محور المقاومة” قد يلقى الدعم الكلى أو الجزئى من أطراف دولية مثل روسيا والصين، وربما يتطور هذا المحور ليضم “تركيا” إلى عضويته، لكن انضمام تركيا ستكون له أسبابه وشروطه المعقدة، والسبب الرئيسى لهذا كله أن اليوم الثلاثاء (15/9/2020) سيشهد التوقيع فى البيت الأبيض الأمريكى على اتفاقيتى السلام الإماراتية- الإسرائيلية والبحرينية- الإسرائيلية بحضور الشريك الثالث، ونعنى الولايات المتحدة الأمريكية وبحضور كل من بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية وعبد الله بن زايد وزير الخارجية الإماراتى وعبد اللطيف الزيانى وزير الخارجية البحرينى.
على مستوى الصراع العربى- الإسرائيلى سيكون اليوم استثنائياً ليس من منظور تحقيق السلام العادل الذى سيعيد للشعب الفلسطينى حقوقه المغتصبة ويقيم الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967 (فى أقل تقدير) وعاصمتها القدس الشرقية ويضمن حق اللاجئين الفلسطينيين فى العودة إلى وطنهم، ولكن من منظور مدى قدرة الشعب الفلسطينى والقوى الشعبية الداعمة له على الخروج من هذه الكبوة، واتخاذ هذا اليوم عنواناً لمرحلة جديدة من النهوض الفلسطينى الذى هدفه استعادة الأرض المحتلة وامتلاك الحق فى تقرير المصير وتحقيق الاستقلال الوطنى ككل شعوب العالم التى احتلت أرضها من دول استعمارية.
الأمريكيون والإسرائيليون أكدوا علناً فهمهم لمعنى “السلام” المتضمن فى هذه الصفقة الجديدة. فوزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو أوضح فى تصريح نقلته وزارة الخارجية الأمريكية قال فى معرض توضيحه للتحالف “الذى تم إنشاؤه” وفقاً للاتفاق الإماراتى- الإسرائيلى أن “هذا التحالف أدى إلى مستويات مريحة وضعتنا فى موقع قالت فيه الدول العربية: نعرف أن إسرائيل باقية هنا، ومن الطبيعى أننا نتعامل معها”، معتبراً أن “النموذج التقليدى الذى يقضى بضرورة حل القضية الفلسطينية قبل إقامة العلاقات مع إسرائيل لن يجلب أى خير”.
معنى ذلك أن وزير الخارجية الأمريكى يفهم اتفاقات السلام الجديدة باعتبارها إقراراً واعترافاً عربياً بإسرائيل كأمر واقع، وأن هذه الاتفاقات لم تؤسس على فرضية الحل المسبق للقضية الفلسطينية على نحو ما تحدثت عنه “مبادرة السلام العربية”، التى قامت على أساس مبدأ “الأرض مقابل السلام”، أى أن تنسحب إسرائيل من الأرض التى احتلتها بعد الخامس من يونيو عام 1967 (الفلسطينية والعربية الأخرى السورية واللبنانية) وبعدها يقبل العرب بالسلام مع إسرائيل، ولكنها تأسست على مبدأ “السلام مقابل السلام” كما أكد بنيامين نتنياهو، الذى رفض بشدة، ودعمه فى ذلك ديفيد فريدمان السفير الأمريكى فى القدس المحتلة، بأن يؤدى اتفاق السلام مع الإمارات إلى إلغاء العزم الإسرائيلى على ضم الكتل الاستيطانية فى الضفة الغربية إلى جانب غور الأردن، ولكن “ما اتفق عليه فقط هو التأجيل”.
المعنى نفسه أكده الجنرال بالاحتياط عاموس جلعاد الرئيس السابق للدائرة السياسية والأمنية فى وزارة الحرب الإسرائيلية فى مقاله المنشور بصحيفة “يديعوت أحرونوت” أن الدول العربية “جربت، وفشلت عبر الحروب، عن إبادة إسرائيل. فقد توصلت أخيراً إلى استنتاج مفاده أنه لا توجد إمكانية كهذه (إبادة إسرائيل)، وأنه من الأفضل التعاون معها فى جملة من المجالات، وعلى رأسها الأمنى والعسكرى والسياسي”. ولعل هذا الإدراك ما أدى إلى تطوير المبدأ الذى أقامت وتقيم إسرائيل اتفاقات السلام الجديدة على أساسه من “السلام مقابل السلام” إلى “السلام مقابل الحماية” بمعنى أن تتعهد إسرائيل بحماية هذه الدول من العدو المشترك وهو إيران مقابل انخراط هذه الدول فى تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
إذا كان الأمر كذلك فهل سيكون فى مقدور الشعب الفلسطينى وقيادته وكل من يدعمونه عربياً وعالمياً جعل هذا اليوم استثنائياً من منظور البدء فى التأسيس لفرض “معادلة صراع جديدة” يكون فى مقدورها استعادة الحقوق المهدرة والمغتصبة؟
التحدى كبير، لكن توجد مؤشرات جديدة، يمكن أن تؤسس لبادرة من هذا النوع، رغم الصعوبات الهائلة، أبرزها الاتفاق الذى تم يوم 4 سبتمبر الجارى بين الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية خلال اجتماعهم فى رام الله وبيروت على “تفعيل المقاومة الشعبية الشاملة” ضد إسرائيل وتطويرها وتشكيل لجنة لقيادتها، وأخرى لتقديم رؤية لإنهاء الانقسام الفلسطينى. واعتبر عزام الأحمد عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية فى معرض تهيئته للإعلان عن تشكيل “القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية” يوم السبت الفائت (12/9/2020) أن “يوم الثلاثاء 15 سبتمبر “يوم مفصلى” للرد على ما سيوقع من اتفاقيات فى هذا اليوم”. وصدر فعلاً أول بيان باسم هذه القيادة السبت الفائت دعت فيه إلى اعتبار اليوم الثلاثاء “يوم رفض شعبى انتفاضى” ضد اتفاقى التطبيع بين الإمارات والبحرين وإسرائيل، كما اعتبر البيان يوم الجمعة المقبل “يوم حداد”، ودعا إلى “نبذ كل الخلافات الفلسطينية والمشاركة فى الكفاح الشعبى التحررى”، وتبنى البيان شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المقاومة”.
بيان، ربما يكون هذا البيان مثل غيره من مئات وربما آلاف البيانات، لكن التحدى سيكون مستمراً من منظور هل سيكون فى مقدور الفلسطينيين تغيير معادلات الصراع و”فرض قواعد اشتباك جديدة” مع كيان الاحتلال الإسرائيلى أم لا؟ هذا هو التحدى.
أما على المستوى الثانى، أى تأثير موجة الاتفاقات العربية الجديدة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل على معادلات الصراع الإقليمى، فإن التساؤل عن احتمالات فرض “قواعد اشتباك جديدة” بين القوى المتصارعة إقليمياً وبالتحديد إسرائيل وإيران يبدو أكثر جدية.
فخلال السنوات الماضية كانت إسرائيل تدير الصراع مع إيران على جبهتين أولهما: منع إيران من أن تتمكن من فرض وجود عسكرى دائم على الأرض السورية. بوضوح أكثر كانت إسرائيل تعمل بجدية على منع إيران من أن تصبح “دولة جوار إقليمى لها” فى سوريا، من خلال منع إيران من تأسيس جبهة مواجهة جديدة ضدها فى هضبة الجولان السورية على غرار جبهة جنوب لبنان التى يقودها “حزب الله” ومن خلال منع إيران من السيطرة على منافذ الحدود العراقية – السورية، لحرمانها من التأسيس لطريق برى يربطها بسواحل البحر المتوسط عبر الأراضى العراقية والسورية، ولمنع تدفق الأسلحة والميليشيات العراقية الموالية لإيران إلى داخل الأراضى السورية للمشاركة فى أى مواجهة محتملة مع إسرائيل.
أما الجبهة الثانية للصراع الذى أدارته إسرائيل ضد إيران فكان العمل على منع تمكين إيران من امتلاك سلاح نووى، انطلاقاً من القرار الاستراتيجى الإسرائيلى الذى يصر على فرض إسرائيل “دولة نووية متفردة” فى الشرق الأوسط، ومنع أى دولة فى المنطقة من امتلاك هذا السلاح، باعتباره “خط الدفاع الأخير” عن الوجود الإسرائيلى.
وإذا كانت إسرائيل قد عرقلت جزئياً مشروع إيران فى سوريا، فإنها فشلت فى إخراجها تماماً ومازالت تعانى من عجزها عن الحيلولة دون تمكين إيران من أن تصبح “دولة جوار إقليمى” لها فى سوريا كما هى فى لبنان، وإذا كانت إسرائيل قد فشلت، عبر الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى وعبر الضغوط الأمريكية الاقتصادية القصوى ضد إيران، فى تصفية البرنامج النووى الإيرانى وحرمان إيران من قدراتها الصاروخية المتطورة فإنها، ومن خلال التوقيع على اتفاقيتى السلام مع الإمارات والبحرين سيكون فى مقدورها أن تفرض نفسها “كدولة جوار إقليمى” لإيران فى إقليم الخليج، أى فى مقابل الشواطئ الإيرانية فى الخليج.
فهل ستستطيع إسرائيل فرض “قواعد اشتباك جديدة” مع إيران مستفيدة من هذا المتغير الجديد شديد الأهمية، خصوصاً فى ظل الحرص الأمريكى الدءووب على تأسيس تحالف إسرائيلى- خليجى ضد إيران؟ هذا هو المأزق الجديد للأمن الإقليمى. وهل سيكون قى مقدور إيران مواجهة التحدى بالتحدى؟
* نقلاََ عن جريدة الأهرام..