بقلم: محمد جواد ظریف
وزیر الخارجیة الإیرانی
نحن الذین نمثّلُ الیومَ هدفاً لأکثر العقوبات شراً وظلامیةً، نرى بوضوحٍ کاملٍ ماهیةَ النظام الفعلی للولایات المتحدة الأمیرکیة؛ هذه الدولة لا تملکُ أیَّ رؤیةٍ واضحةٍ حول مستقبل المجتمع العالمی.
إن النظام الحالی فی واشنطن، بغضّ النظر عن سوء إدارة کورونا فی الداخل، أو زعزعة السلام والاستقرار فی الخارج، لیس لدیه أیُّ مشروعٍ حقیقیّ، سوى أن یهاجمَ بشکلٍ أعمى کل الذین یدافعون عن سلطة القانون.
لقد رأینا فی الأشهر الماضیة، کیف تجاوز الرئیس الأمیرکی – فی انتهاک متکرر وکامل لقرارات مجلس الأمن والجمعیة العامة – حقوق الشعب الفلسطینی وأراد أن یمرّر صفقة القرن التی لن تجلب السلام أو الأمن أو الاستقرار. کما استمرت سیاسة العقوبات الظالمة على الشعب اللبنانی بلا وجه حق، حتى بعد سقوط الضحایا وتدمیر البنى التحتیة إثر الانفجار الکبیر الذی هزّ العاصمة اللبنانیة، وزادت حال الشعب صعوبةً فی ظلّ معاناته مع کورونا والأزمة الاقتصادیة، فباتت کل کلمات العزاء لا تفی حجمَ المأساة ولا تعدو کونَها محاولةً للتعاطف مع هذا الشعب الذی نقدمُ له کل عبارات العزاء والتضامن والدعم المعنوی والمادی.
مثالُ آخر فی هذا المجال، هو طریقة تعامل الولایات المتحدة مع القرار 2231 الذی أصدره مجلس الأمن، الذی کان قد وافق على – ولم یکن منفصلاً عن – خطة العمل الشاملة المشترکة (JCPOA)، المتعارف علیها بالاتفاق النووی فی إیران.
فی تموز/ یولیو 2015، توصّلت إیران مع کل من الولایات المتحدة وروسیا والصین وبریطانیا وفرنسا وألمانیا إلى اتفاقٍ مهم هدفُه طمأنة العالم حول الماهیة السلمیة حصراً للبرنامج النووی الإیرانی، وفی الوقت ذاته تحریر الشعب الإیرانی من العقوبات غیر الإنسانیة وغیر العادلة. تبنّت الولایات المتحدة وکذلک سائر الدول الموقِّعة بشکلٍ مشترک قرار مجلس الأمن2231، کجزءٍ من التزامات الاتفاق النووی، لأن خطة العمل الشاملة المشترکة جزءٌ لا یتجزأ من القرار، وصفحاتها الـ90 ملحقةٌ به. وبالتالی، فإن القرار یثبّتُ خطة العمل الشاملة المشترکة بصفتها حقوقاً دولیة. رغم ذلک، أعلنت الولایات المتحدة فی شهر أیار 2018 أنها اتخذت قراراً أحادیاً بـ«بالخروج عن الاتفاق» ووقف مشارکتها فی خطة العمل الشاملة المشترکة. منذ ذلک الحین، أمست إیران وبقیة المجتمع الدولی فی وضعٍ استثنائیّ، فلقد شهدوا على أن الولایات المتحدة هی الدولة الأولى فی تاریخ الأمم المتحدة التی لم تنقض قراراً إلزامیاً کانت هی نفسُها من واضعیه فحسب، بل فرضت عقوباتٍ على الدول والشرکات التی تدافع عن الحقوق الدولیة من خلال تنفیذها لأحکام القرار. وتماماً کما سبقَ أن حذّرتُ مجلس الأمن الشهر الماضی، فإنّ الوضعَ القائم لیس محموداً ولا هو بدائم، وإننا الآن داخل ممرٍّ لا أکثر.
إنّ حملة الافتراء والکذب التی تشنّها الولایات المتحدة – من جملتها الادعاءات الزائفة والمغلوطة حول الإجماع الإقلیمی – وحول عواقب التزام من تبقّى من الدول الموقِّعة على خطة العمل الشاملة المشترکة بتنفیذ أحکام الاتفاق – من قبیل تطبیع تعاون إیران الدفاعی مع العالم فی تشرین الأول/ أکتوبر – هی حیلةٌ لإخفاء دوافعها الحقیقیة ونیاتها السیئة: لقد أخفقت أمیرکا فی تفتیت القرار 2231، رغم عامین کاملین من فرض «الضغوط القصوى» على الشعب الى الیوم، ومنها حرمان المواطنین الإیرانیین العادیین من الحصول على الأدویة والتجهیزات الطبیة، وذلک خلال حقبة أشد الأوبئة فتکاً فی العالم على مدى عقودٍ توالت. الیوم تأملُ أمیرکا أن تنجح أخیراً فی القضاء على القرار، من خلال سوء تفسیرها لأحکام القرار نفسه الذی ترکته عام 2018. هذا السلوک المدمّر للولایات المتحدة یستهدفُ فی الواقع بنیةَ الأمم المتحدة بأکملها. سلوکٌ تتبعه الولایات المتحدة لتدمیر هذه المنظمة العالمیة من خلال استخدام آلیات الأمم المتحدة نفسها.
ثمة مواضیع وعواقب مهمةٌ فی هذا الخصوص، ینبغی أخذها بعین الاعتبار:
الأول والأهم، وقد یثیرُ التعجب، لمَ وکیف قد یؤدی انهیار مجرد قرارٍ لمجلس الأمن فی قضیةٍ معینة فقط، إلى نتائج أعمّ وأوسع. هذه العلاقة موجودةٌ طبعاً. إن أُجبِرَ مجلس الأمن على هدمِ قرارِه بفعلِ بلطجةِ أحدِ أعضائه فقط، فإننا فی الواقع سنکونُ أمام أجیالٍ متعاقبة تشهدُ تراجعاً فی الإنجازات المتعددة الأهداف فی المجتمع العالمی. فی غیاب احترام القوى کافة للأصول التی وجدَ مجلس الأمنِ من أجل تحقیقها، فإن المجلس لن یتمکن من العمل بواجباته، ولن یعود أیُّ شعبٍ قادراً على القبول بصلاحیة هذا المجلس وقدرته.
الثانی یجب أن لا ننسى أن النظام القائم فی أمیرکا خرج من منظمة الصحة العالمیة (WHO) بطریقةٍ ساذجة فی زمنِ انتشار أسوأ وباءٍ عالمی، إلا أنه یسعى الآن للسیطرة على سیر الإصلاحات فی هذه المنظمة نفسها، وإن یکن الثمن إزعاج أقرب الحلفاء الغربیین إلیه.
إن سُمحَ للولایات المتحدة بأن تکملَ فی هذا الطریق، فإن العالم سیعودُ أدراجه إلى قاعدة «القوة تصنعُ الحق» من جدید؛ ورغم أنّ هذا قد یروقُ أمراء زمن الحرب الباردة الذین یسعون إلى غایاتٍ جدیدة، إلا أن علیهم أن یلتفتوا إلى أن منطقَ الظلم الذی شهدناه فی زمن الحرب الباردة له حدودٌ کذلک: إن القوتین الکبیرتین فی القرن الفائت شهدتا تراجعاً فی نفوذهما الدولی، ومثال ذلک الهزیمة العسکریة فی أفغانستان، وهی دولة بناتجٍ إجمالیٍّ أقلّ من مردود شرکة آبل السنوی بـ 14 مرة.
إنّ دولة أمیرکا – فی موازاة الحملة على المؤسسات والاتفاقات الدولیة – حاولت بکل الطرق أن تُحِلَّ حقوقَها هی محلّ الحقوق الدولیة. وهذا یعنی عملیاً، أن الولایات المتحدة ولیس الدول الأوروبیة من یقرر مع من تقیمُ الشرکات الأوروبیة فعالیاتٍ تجاریة، سواءً فی ما یتعلق بتنفیذ القرار 2231، أم بتشغیل خط أنابیب غاز نورداستریم.
وفی الوقت الذی کانت فیه الولایات المتحدة، حتى الیوم، هی من سعى إلى توسیع صلاحیة قوانینها الداخلیة، فإنه لا دلیل أبداً على بقاء هذا المسعى محصوراً بأمیرکا وحدها. فمع توسیع صندوق باندورا هذا وتمکینه من قبل بعض الدول، من غیر المستبعد تصوّر مستقبلٍ یکون فیه المواطنون العادیون والشرکات الخصوصیة فی موضع الاتهامات العظمى الناجمة عن القوانین الداخلیة المتکثرة للدول؛ کذلک قوانین محدودیة السفر الداخلیة، وتجارة الآخرین واستثماراتهم الدولیة. نهایةٌ فی غایة الرجعیة فی دنیانا المعولَمة.
بناءً علیه، فإن المجتمع المعولَم بات بشکلٍ عام أمام قرارٍ مهم، وکذلک مجلس الأمم المتحدة بشکلٍ خاص: هل نرید أن نثبّتُ مبدأ احترام سلطة القانون الیوم، أم أننا سنعود إلى قانون الغاب؟
بینما أثبتت إیران مرونتَها وردّها القاطع على البلطجة الحاقدة، أنا على ثقةٍ تامة بأن الدول الأعضاء فی مجلس الأمن فی الأسابیع والشهور الحساسة المقبلة، ستُجهِضُ المساعی الانتخابیة القتالیة لحکومة الولایات المتحدة الیائسة لتدمیر النجاح الدیبلوماسی فی القرن الواحد والعشرین. کما أن المجلس لن یسمحَ بالقضاء على ما تبقى من المواقف المتعددة الجوانب والاتجاهات والحقوق الدولیة فی هذا المسیر.