رأى

نشأة التصوف ومقامات المتصوفه في بلاد ماوراء النهر

استمع الي المقالة

بقلم: أ.د/ رفعت عبدالله سليمان الحسيني

تعتبر منطقة آسيا الوسطى إحدى المراكز الرئيسة لانتشار الصوفية في العالم الإسلامي. ولقد لعبت الصوفية في منطقة آسيا الوسطى دوراً مهماً في مقاومة الاستعمار القيصري والسوفييتي.
أهم الطرق في آسيا الوسطى هي(1):
النقشبندية ومركزها بخارى في أوزبكستان ونشأت في القرن الرابع عشر الميلادي.
الكبراوية ومنتشرة في عدة مناطق في تركمانستان، وقد نشأت في القرن الثاني عشر الميلادي.
الياسوية ومركزها في مدينة ياسي (تركستان حالياً) في جنوب كازخستان، ونشأت في القرن الثاني عشر الميلادي.
القادرية ومركزها وادي فرغانة.
والفروق بين الطرق وبعضها بعضاً قليلة الوضوح، فممارسات الطقوس متداخلة ومتشابهة.
وتعتبر الطريقة النقشبندية أهم الطرق الصوفية في المنطقة، ولقد أسسها محمد بن بهاء الدين نقشبند (1317- 1389م) في بخارى في وسط ثقافي ناطق بالفارسية.
وترجع أسباب انتشارها إلى(2) :
1- ا لقدرة على التأقلم والتغير حسبما تقتضي الظروف السياسية والاجتماعية، كما أنها تتأقلم لغوياً حسب الموقع الجغرافي الذي توجد فيه، ففي آسيا الوسطى تتعامل بالفارسية الشائعة خاصة في طاجيكستان، وفي القوقاز تتعامل باللغات الثلاث المعروفة، الفارسية والتركية والعربية.
2 – اللامركزية الواسعة التي تسمح بقيام خلايا حرة الحركة لا ترتبط بمركز وإن اشتركت معه في شعائره وطقوسه. وعادة ما يرسل شيخ الطريقة خلفاء له يقومون بعملية التبليغ في المناطق النائية عن المركز كنواب يحملون صفته ويورثونها لأبنائهم. وهو ما يجعل انتشار الطريقة في هذه المناطق البعيدة عن المركز أشبه بالأغصان المستدقة الطول البالغة البعد عن جذع الشجرة الأصلي، وهكذا من جديد حتى تنتشر الطريقة (3).
3 – تلفظ النقشبندية أصحاب الأفكار الثورية وتمنع اندماجهم معها، في الوقت الذي تمزج داخلها عديداً من الطرق الصوفية الأخرى (كالياسوية والكبراوية). وتتسم النقشبندية بنظام مانع في الانتساب لعضويتها يخضع المريدين الجدد إلى مراجعة، وفي كثير من الأحيان تكون تغذية الانتساب للطريقة على مستوى القبيلة والعشيرة، بما يحقق معرفة جيدة بتوجهات وميول المنتسبين الجدد.
4 – انشغلت النقشبندية في مراحل تاريخية مختلفة بمقاومة الأعداء الخارجيين كالبوذيين والقياصرة والسوفييت، لكنها لم تخض في أي فترة تاريخية حرباً على المستوى المحلي بينها وبين غيرها من الفرق والمذاهب الإسلامية.
5 – تختلف النقشندية عن غيرها من باقي الحركات الصوفية في تحفظها على دور المرأة، إذ لا تسمح بوجود خلايا ومجموعات صوفية نسائية أو وجود حلقات مشتركة للذكر والمناجاة كما تنهج إلى ذلك بعض الطرق الصوفية، كالطريقة الياسوية.
6 – تتجاوز النقشبندية البعد العرقي في المرجعيات الدينية، فالمريد الطاجيكي يمكن أن يكون شيخه أوزبكياً، والعكس صحيح بغض النظر عن بعد المسافات الجغرافية التي تحول بينهما، كما تشترك النقشبندية مع غيرها من الطرق في إعلاء قيمة الأضرحة وزيارات الموتى من شيوخ الطريقة.
مركزية شديدة: وللمقارنة مع ثاني أكبر الحركات تأثيراً في تاريخ المنطقة، فإن الطريقة القادرية تتسم بمركزية شديدة وهرمية في قيادة الحركة بطريقة تضمن توريث زعامة الطريقة من عائلة واحدة، وهو ما يحد من انتشارها بين القبائل الأخرى التي قد لا ترضى بزعامة بعيدة عنها جغرافياً وإن اقتربت بالطقوس والممارسات.
وقد تمكنت النقشبندية من عبور مساحات جغرافية واسعة، فوصلت بشيوخ أنديجان ونامانجان في وادي فرغانة إلى تركستان الشرقية في غربي الصين اليوم، فتغلبت على ما قبلها من موروثات صوفية، وصارت الطريقة الأكثر تأثيراً ببين مسلمي الأيجور في الإقليم. وقد لعبت في هذا الإقليم الدور الذي لعبته في القوقاز حينما حملت هم الدفاع عن استقلال الإقليم ضد الطمع الاستعماري، وهو ما جعلها منذ القرن التاسع عشر في نظر السلطات الصينية حركة إسلامية سياسية استوجبت القمع، فتم اعتقال شيوخها وقتل شيخ الطريقة النقشبندية يعقوب بك خواجة في عام 1878م وبدأ دور الصوفية في الوهن منذ ذلك التاريخ، إلى أن عاد إليها شيوخ الصوفية من فرغانة فراراً من البطش السوفييتي بعد انكسار ثورة البسماتشي الشعبية في عشرينيات القرن العشرين، وذلك قبل أن تتحول الصين إلى الشيوعية وتنتهج تجاه الصوفية ذات النهج السوفيتي فتدفعها إلى الهروب تحت الأرض.
وهكذا فإنه على خلاف الاعتقاد بأن الصوفية لا تمارس السياسة، إلا أن هناك مستويين لعبت خلالهما الصوفية دوراً سياسياً:
المستوى الأول: في الصراع مع الاستعمار وهو دور في سياسة المقاومة حققت به دوراً إيجابياً في الحركة التحريرية في المنطقة.
المستوى الثاني: المشاركة السياسة الداخلية، وهو دور محدود قام به أفراد متصوفون أكثر مما قامت به جماعات صوفية بأكملها. ولعل أوضح الأمثلة على ذلك التعاون بين حزب النهضة الإسلامي في طاجيكستان ومفتى البلاد القاضي تورجان زاده الصوفي الأصل، الذي كان الرجل الثاني في قيادة الحزب، وذلك قبل أن تحدث بينهما القطيعة في عام 1997 بسبب قناعة تورجان زاده بالمشاركة مع السلطة بدرجة أكبر من قناعة الحزب.[ لاحظ التناقض في الدور للصوفية التي يزعم أنها قاومت الاستعمار مع الدور الذي لعبته في قضية الشيشان والمطلوب القيام به الآن من محاربة الإسلام الأصولي بتعبيرهم ، نحن لا ننكر أدوار مشرفة لبعض المجموعات الصوفية في التاريخ العام لكن هذا ليس بسبب المبادئ الصوفية ، بل بسبب نقصان هذه المبادئ الصوفية عند هذه المجموعات ، ولذلك حين تتعمق هذه المجموعات أكثر في التصوف تتخلى عن مصالح المسلمين وتسير في ركاب الغزاة !! الراصد ] غير أن أهم الأدوار السياسية للصوفية في آسيا الوسطى هي محل نقاش في العامين الأخيرين، ومن بين هذه النقاشات ما تهتم به بعض مراكز الأبحاث ودعم اتخاذ القرار. وكان أشهر هذه الأبحاث ما قدمه مركز نيكسون في مارس من عام 2004 في ندوة (4) بحثت في كيفية استفادة واشنطن من الحركات الصوفية في المنطقة. وخرجت هذه الندوة بمجموعة مهمة من التوصيات أبرزها :
تدعيم النهوض الثقافي لشعوب آسيا الوسطى حتى تستدعي موروثاتها وتقاليدها ذات التفسيرات المحلية للإسلام (الصوفية) حتى لا تترك الأجواء الثقافية نهباً لانتشار أفكار مستوردة من خارج المنطقة (السلفية الشرق أوسطية).
ليس في مقدور الولايات المتحدة تدريب الأئمة المحليين في المساجد والمراكز الإسلامية لكن بإمكانها تدعيم التعليم العلماني في هذه المنطقة خصماً من حصة التعليم الديني.
في مقدور الولايات المتحدة تقديم منح مالية لترميم ورعاية الأضرحة الصوفية، وكذلك العناية بالمخطوطات والتراث الثقافي للصوفية، على أن تقدم الولايات المتحدة الدعم والمنح لمؤسسات محلية في المجتمع المدني.
لابد من نقل تجربة العلمانية التركية إلى المنطقة، لما لهذه التجربة من علاقة وثيقة بكل من الولايات المتحدة والناتو. ولابد في هذا الصدد من الاستفادة من التعاليم الأتاتوركية التي أثبتت نجاحها في مجتمع كان الدين يدير حركته.
الإيمان بأن مصير أيديولوجية التطرف والأصولية الإسلامية حسب مركز نيكسون إلى زوال وهزيمة، فالتجربة أثبتت أن الديمقراطية الغربية هزمت أيديولوجية الماركسية اللينينية رغم شعاراتها بالجنة الموعودة التي لم تتحقق. ولا شك أن الاسلام مختلف تماماً عن الشيوعية وبالتالي فالكلام عن هزيمته يعد من الهراء.
وإذا حاولنا البحث عن الطرق التي يمكن أن تسيس بها الأنشطة الصوفية في المنطقة بتمويل من الحكومات المحلية والولايات المتحدة وروسيا والصين يمكننا تلمس نوعين من الدعم:
الأول: يعتمد إغراق الأسواق بمؤلفات في الصوفية كتلك التي اندهش لها القراء الروس، حينما كانت كتب الصوفية تباع في كل مكان لمواجهة التفسيرات الثورية للإسلام بعيد الحرب الشيشانية الأولى (1994-1996). مع التساهل في تقديم مواد إعلامية متلفزة عن الطرق الصوفية ومشايخها والدور الذي تلعبه في خدمة الرقي الروحي والأخلاقي. فضلاً عن عرض لأضرحة الأولياء (القديسين في المصطلحات الغربية) من مشايخ الطرق وفضائل الزيارة (الحج في المصطلحات الغربية) إلى تلك القبور. وكذلك السماح بإقامة مراكز لممارسة الصوفية بدلاً من الأسلوب الذي يلتقي به أفرادها الآن في شقق ومساكن للمنتسبين.
والأهم تعيين أئمة المساجد وخطبائها من الصوفية بحيث يتم إعادة ترتيب الأدمغة التي “أفسدتها” ما يسمونها بالأصولية. وهو وضع يعيد إلى الأذهان الأسلوب السوفييتي القديم الذي اعتمد على احتضان ما اصطلح على تسميته “بإسلام السلطة” مقابل ممارسات إسلامية تخضع للمراقبة والمتابعة الأمنية سميت في ذلك العهد بالإسلام السري أو “الإسلام الموازي”.
والثاني : يعتمد على التمويل المالي المباشر للطرق الصوفية، لتغذية نشاطها بل ودعم مالي لعمليات نشر الفكر الصوفي، وإن كان من الصعب تخيل أن يصل الدعم إلى مستوى التسليح، ففي القوقاز وبعد انتهاء الحرب الشيشانية الأولى (1994-1996م) وقعت اشتباكات بين السلفيين والصوفيين أدت إلى سقوط قتلى وجرحى(5) وهو الأمر الذي يتوقع أن تشهده منطقة آسيا الوسطى حين يتم تقوية الصوفية وتهميش الحركات الإسلامية ذات المشروعات السياسية المتهمة بالإرهاب.
ولقد أعرب بعض الكتاب الصوفيين عن خطورة استخدامهم لمواجهة الحركة الاسلامية مشبهين ذلك بأنه “لعب بالنيران”(6) وتبقى مثل هذه المقترحات قيد الدراسة وإن تمت فإنها تتم في تكتم شديد قبل أن تبدو جلية للعيان وقبل أن تتحول إلى ظاهرة!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى