لمحة دبلوماسية في مجريات الاشتباك الأمريكي ـ الإيراني
بقلم: أحمد طه الغندور
لا شك أنه أصبح من السهل متابعة العمليات الحربية أو العسكرية بتفاصيلها هذه الأيام عبر وسائل الإعلام المختلفة أو حتى من خلال منصات التواصل الاجتماعي المتعددة، فما العالم اليوم إلا قرية صغيرة.
ولقد ضجت كل هذه الوسائل السابق ذكرها بتفاصيل الاشتباك الأمريكي ـ الإيراني الأخير؛ خاصةً بعد “اغتيال سليماني” قائد فيلق القدس، ومن ثَم توالت التحليلات والتكهنات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولكن ما يغيب عن المشهد بتفاصيله دائماً “الحراك الدبلوماسي”، والذي لا تأتي الأنباء إلا على لمحات أو عناوين لبعض منها على شاشات التلفزة ووسائل الإعلام فقط، كوصول مبعوث ما إلى “إيران” مثلاً دون تفاصيل هامة.
وهذا من الأمور العادية في عالم الدبلوماسية، لأنها ليس عملاً جماهيرياً، بل هي مجال خدمة للجنود المجهولين؛ وإن عُرف أسماء البعض منهم، فالمهم بالنسبة لهم، هو نجاح المهمة، والعمل سريعاً على فض الاشتباك، ونزع فتيل الأزمة، وإنقاذ الأبرياء من مصير مجهول، دون أن ننسى بأن هذا العمل يأتي في سبيل تحقيق “المصالح الخاصة” لدولة أو مؤسسة “المبعوث الدبلوماسي”، وليس بغرض البحث عن الشهرة أو التمجيد!
ومن الجدير بالذكر، لم يخلُ الاشتباك الأمريكي ـ الإيراني الأخير من وجود التدخل العاجل للجهود الدبلوماسية التي سعت إلى لجم تطرف الفريقين، ومنعت تدهور الأمور إلى حرب طاحنة جديدة في الشرق الأوسط، نتيجة “الفعل” الذي اتخذه الرئيس الأمريكي “ترامب”، ولن أصفه بـ “النزوة”؛ بل هو فعل مدروس أراد به ممارسة دبلوماسية قديمة معلومة، حثه عليها وزير خارجيته “بومبيو” ـ المغادر لهذه الإدارة ـ ؛ وهي جزء من “الدبلوماسية القسرية أو الحربية” عُرفت باسم “دبلوماسية البوارج الحربية” للتهديد باستخدام القوة المسلحة أو الاحتلال من أجل تحقيق مصالح سياسية معينة، بينما من الأجدر أن تُسمى اليوم “دبلوماسية الطائرات المُسيرة” ـ ” Drones Diplomacy “، حيث استخدمت “المسيرات الأمريكية” في “اغتيال سليماني” وفقاً لما تم الإعلان عنه مباشرة من جانب “السلطات الأمريكية”، والتي أكدت أن الهجوم ليس بقصد “شن الحرب” على إيران، ولكن بالطبع لمأرب سياسية أخرى، لم يُعلن عنها، من جملتها إجبار إيران على القبول بإعادة بحث “الاتفاق النووي”، لفرض شروط جديدة عليها؛ تُرضى “ترامب”، مع العلم بأن هذا ليس وجهة نظر أمريكية، بقدر ما هو نظرة خاصة لـ “ترامب” تدعم فوزه في الانتخابات القادمة!
مع هذا أحسنت “إيران” فهم الرسالة الأمريكية، بأن “لا رغبة أمريكية بالحرب”، فمن خلال “الدبلوماسية الإعلانية”؛ صرح “ظريف” وأخرين من المسؤولين الإيرانيين مباشرةً، بأن “إيران لا تريد الحرب، بل تريد الانتقام والثأر” أو قل تريد “حفظ ماء الوجه” لهذا الاعتداء السافر على كرامتها!
هذا فتح الباب واسعاً بين الطرفين لتدخل الوسطاء من أجل نزع فتيل الأزمة، وهذا ما كان!
وللأسف، هذا ما لا يتسع المجال لسرده في هذه المقالة، فكثيرة هي الأطراف التي سعت بين الفريقين، إما بالحديث إلى كليهما، أو بالحديث والضغط على أحد الأطراف، ومنهم من كانت خطواته مكشوفة للإعلام، وأخر فضّل السرية التامة على خطواته، والأرجح أن معظم هذه الوساطات كانت إقليمية بشكل بارز.
ولعلنا نُقدم بعض النماذج الدبلوماسية التي استخدمت في فض الاشتباك أو يدخل تحت مسمى “الوساطة الدبلوماسية” كما يُعرفها القاموس والعرف الدبلوماسي، إذ “بالمثال يتضح المقال” كما يقولون!
نجد في هذا الباب، أن الدول الخليجية قد تقاسمت الأدوار في الضغط على أحد الأطراف دون الأخر من خلال “الوساطة المباشرة” حمايةً لمصالحها الخاصة المتمثلة في؛ حماية أرضها ومصادرها النفطية من اعتداء الطرف الأخر، وخير مثال على ذلك الدور الذي مارسه “ولي العهد السعودي” مع “ترامب” وإدارته حرصاً على عدم قيام الولايات المتحدة في أخذ خطوات تصعيدية أخرى تقود إلى الحرب، قد تجر ويلات على “السعودية” وغيرها في الخليج، بينما سعت دول خليجية أخرى كالإمارات للحديث مع “إيران” للتعقل وعدم إشعال النيران في منطقة الخليج.
في حين نرى الدور المصري الملتزم بالسرية من خلال “الدبلوماسية الأمنية”، قد شرع بـ “ورشة الحوارات” والرسائل المباشرة وغير المباشرة، بين “طرفي الاشتباك”، ووكلائهم في المنطقة، حرصاً على عدم انتشار الاشتباك إلى مناطق أخرى في المنطقة، جاءت هذه المعالجة الدبلوماسية العاجلة من واقع الدور الإقليمي لمصر في المنطقة وتطبيقاً لسياسة مرسومة عميقاً في عقيدة الأمن القومي المصري بأن ” أمن الخليج العربي هو أمنا “؛ وقد جرى ذلك على مستويات ومحاور عدة، وربما دون أي إشارة إليه في وسائل الإعلام، وبالرغم من انشغال الجانب المصري بالعديد من القضايا الخاصة، في الملفين الليبي، والسد الأثيوبي وخلافهما، لكنه لم يُفاجئ ولم يرتبك، ومارس دوره القومي دون صخب إعلامي، فلم يرد في الإعلام عن أي اتصالات أو لقاءات بأي حال من الأحوال!
في نفس الوقت، فضلت الدبلوماسية “القطرية” أن تلجأ للدبلوماسية “المكوكية” في التنقل والحديث بين الطرفين بشكل مباشر، وقد يكون شاركها في هذا الأسلوب، “الدبلوماسية العراقية”، هذا النوع من الدبلوماسية قد يبدو للناظر أنه هو الأسلوب الأنجع في مثل هذه الظروف، كونه قادر على توفير معالجات “نفسية” لطرفي الأزمة، حتى يستطيعوا تجاوزها، والعودة إلى الحوار المباشر بين بعضهما البعض، ولكنه في الحقيقة يعتمد بشكل مباشر على “شخصية وخبرة الوسيط الدبلوماسي”!
ولعل من أغرب ما قيل عن نتائج جهد “دبلوماسية الوساطات”، السؤال البارز الذي صدّره الإعلام: هل نسق الجيش الإيراني هجماته مع واشنطن؟ مما يوحي بمدى تأثير الدبلوماسية على سياسات الدول، حتى الحربية منها!
أما اللمحة الدبلوماسية الأخيرة التي أود الإشارة اليها، هنا؛ هو ما يُسمى في علم الدبلوماسية باسم “دبلوماسية المفاجأة” والتي تمثلت بالزيارة المفاجئة للرئيس الروسي “بوتين” إلى المنطقة أو أكثر تحديداً إلى “سوريا” في ذروة التوتر العسكري بين الطرفين المتنازعين، ليحمل ظهوره المفاجئ العديد من الرسائل الرادعة لطرفي الاشتباك بتوخي الحذر، وكأنه يقول: “شخصياً أحذركم من عدم المس بالمصالح الروسية في المنطقة هنا، وعدم محاولة إدخال “سوريا” إلى أتون المعركة الخاسرة بينكما، وإلا اعتبرت ذلك مساً مباشراً بالسيادة الروسية”!
هذه الرسالة المقروءة من الظهور المفاجئ للرئيس “بوتين” شكلت ردعاً حاسماً أمام الطرفين المتنازعين ووكلائهما في المنطقة، وساعدت الطرفين على إعادة حساباتهما فيما سيكون عليه الحال، إذا ما تدهور النزاع إلى مراحل أخطر!
في الختام، لا بد من الإشارة، أن هذا النوع من الدبلوماسية تقوم به الدول، أو بعض المؤسسات الدولية المتخصصة، وليس مجالاً لـ “الدبلوماسية الشعبية” مهما علت مكانتها بين شعبين، لذلك أي تدخل من “قوى شعبية” في النزاعات الدولية حتى ولو بـ “حسن نية” فهو خاسر، بل هو بمثابة “مصيبة” لا يسهل الخروج منها.
لذلك، لا يمكن أن تكون الدبلوماسية إلا لقلة نادرة من “الجنود المجهولين” ممن تخصصوا في هذا العلم الدقيق!