بقلم: منار منصرى
لا أحد يعلم كيف استطاعت الأساطير اليونانية أن تتجسد في لمسات واقعية؛ لتجد أغلب أساطيرهم بصمة في آثار هذا البلد العريق .. ربما هي جاهلية القرون الوسطى سهلت على الملوك بالتعاون مع الدجالين تمرير الخرافات في صور رغم دمويتها، تملك سحرا شيطانيا يغري الوجدان البشري في عصور مراهقته الأولى .. أو لعلها “عذرية” الإبداع البدائي تناغمت مع عفوية العاطفة الخصبة لشعراء وفلاسفة أرض الأساطير، فجعلت الناس يصدقون لدرجة الايمان روايات الأقلام الحالمة ..
ظن اليونان لعقود أن متاهة ديدالوس بنيت لتحميهم من المينيتور (وحش اسطوري له جسد بشري ضخم ورأس ثور فتاك) ؛ كانوا يقدمون قرابين بشرية لإشباع جوع وحش المتاهة ..
تضاربت الروايات حول مواسم تقديم القرابين وكيفية اختيارهم ، لكن كادت تجمع أن الإختيار كان يقع على أفضل شباب المنطقة ؛ فحراس المتاهة كانوا يدّعون أن المينيتور لن يقبل إلا بالأفضل … وإلا خرج من متاهته ليفتك بالجميع .. ثم سرعان ما تحول الطقس الأسطوري الى ديانة وثنية ، وتحول حراس المتاهة الى كهنة .. وتحولت المتاهة الى معبد ..
هكذا تحكي الأسطورة وهكذا ظن اليونان .. بينما تقول مصادر _لا أذكرها _أن المتاهة بنيت لتحمي الحاكم من التمرد الشعبي وتجعل الشعب يرمي خيرة أبنائه لمتاهة الوحش، بل ان روايات _لا أذكر أين قرأتها_ قالت أن قرى تمردت على ملك “مينوس” فاخترع وكهنتة قصة المينيتور لينسي القرويين أحلام الحرية والعدالة وتصبح النجاة بحياتهم من الوحش القاتل.. أكبر طموحاتهم ..عشرات الجثث كانت ترمى هنا وهناك ممزقة ، وحكايات انتشرت عن شكل الشيطان الليلي الذي لا يعيش من رآه ..ثم يبتكر الملك حلا يعيد السلام .. سيصطاد الوحش بنفسه ويبني متاهة يسجنه فيها .. ولأن الوحش لا بد وأن يأكل يجب تقديم قرابين تشبع جوعه ..ولأنه وحش اسطوري فلن يقبل الا بشباب لم يعبث الزمن بنضارة أجسادهم ..
لا أحد تساءل لماذا لم يقتل الملك وجنده الوحش ؟! ..لماذا صرفت أموال طائلة على بناء متاهة ضخمة فخمة له بينما رفض الملك صرف هذه الاموال على تلبية مطالب المتمردين ؟..لماذا ترك للمتاهة مخرجا ولم تغلق على الوحش ليموت بداخلها ..؟
لا أحد سأل علنا أو حتى تساءل سرا ، لأنك حين تواجه الخوف عاريا من أي حصانة عقلية او فكرية او عقائدية ويحشرك في زاوية الموت ؛ ثم تمتد يد لتدثرك بغطاء الأمن .. لن تفكر من أين وكيف ولماذا جاءت وستتشبث بها لدرجة الانصهار في فهمها..
هكذا تم الأمر ..”اختلاق” الرعب في صورة وحش وقتل عشرات الأبرياء باسمه بطريقة تراجيدية ؛ احتواء الخوف منه او محاولة محاربته في متاهة الموت ؛ جعل تلك التضحية تشريف مقدس ..
في عصرنا صنع وحش اسمه الإرهاب ، وحش تجول في الرمكة وبن طلحة وتنقل بين مدن العراق وترك لمساته على كل شبر في سوريا .. واليمن وليبيا .. رقص على نغمات ذاك الكيان المسمى دولة في سيناء … وحش باسمه ثم باسم محاربته ..يستمر حكم الاستبداد وينتشي حراس المقاطعات الذين نسميهم حكاما، باسمه تُحتل الأرض ويُنتهك العِرض وتنزف الأمة التائهة خيرة أبنائها ..ليعيش ملوك الامبريالية او الأصح الاقطاعية الجديدة عصر مجدهم ..