الإقتصاد الليبي و حرب النفوذ الإقليمية
فؤاد الصباغ _ علي الرغم من أن الديمقراطية تمثل البناء و التأسيس للمستقبل الواعد و تمثل في باطنها النقد و الإختلاف في إطار القانون و الشرعية الدستورية, إلا أنها أحيانا تصبح تخريبية إذا تجاوزت الخطوط الحمراء لتصبح بالنتيجة تهديدا صارخا للأمن القومي برمته. إن المشهد السياسي الليبي يعد حاليا من أبرز الملفات الدولية الأكثر حساسية و تعقيدا و الذي أصبح يحظي بإهتمام كبير علي الصعيد الداخلي و الخارجي. إذ بعد سقوط النظام السابق للعقيد معمر القذافي و رموزه منذ سنة 2011 تزايد الصراع الداخلي علي السلطة و الأطماع الدولية من أجل بسط النفوذ السياسي لكل جهة حزبية أو طرف معين علي كامل المدن الليبية و التي تبقت منها فقط مدينة طرابلس. كما يمثل هذا الصراع اليوم الشغل الشاغل للمجتمع الدولي و الجزء الأهم من اللقاءات الدولية و الحوارات الوطنية بين جميع الأطراف المتنازعة و ذلك من أجل إيجاد مخرج جدي لهذه الأزمة السياسية و الإقتصادية التي طالت مدتها. إذ من المعروف أن كل عدم إستقرار سياسي يؤدي بالنتيجة إلي عدم إستقرار إقتصادي.
إن الثورة الليبية التي أسقطت جميع رموز النظام السابق و المبادئ الثورية للجماهرية الإشتراكية العظمي شكلت اليوم التحول الجذري السياسي و الإقتصادي بحيث تم حرق الكتاب الأخضر و إسقاط كل شئ له رمزية أو تباعيه للنظام الإشتراكي الليبي السابق للعقيد معمر القذافي. إلا أن هذه الثورة لم تحقق أهدافها بحيث إنحرفت عن مسارها و إنجرفت نحو الحرب خاصة بعد التدخل الأجنبي المباشر من قبل بعض القوي الإقليمية علي غرار تركيا و قطر و إيران من جهة و مصر و الإمارات العربية المتحدة و المملكة العربية السعودية من جهة أخري. كما برز سرطان إرهابي خبيث متمثل في مجموعات داعش التخريبية. إذ في هذا الصدد تشكلت تكتلات عسكرية للقضاء لمجابهة هذا السرطان تحت قيادة الأحرار الليبيين بإشراف الجنرال المتقاعد و القائد الليبي البار خليفة حفتر.
بالتالي إزدات الصراعات و إنقسمت ليبيا إلي مجموعات سياسية منها ما يمثل الإخوان المسلمين و طرف يمثل الشرعية الدولية و دعم القرار بقيادة الرئيس فائز السراج و جهة أخري بقيادة تكتلات القبائل الليبية تحت تنظيم عائلة القذافي و جهة عسكرية كبري بسطت سيطرتها علي أغلب الأراضي الليبية بقيادة الجنرال خليفة حفتر. فإنقسمت اليوم ليبيا إلي دويلات و حكومات منها ما يمثل النظام السابق الثوري القبائلي و الآخر ما يمثل حكومة طبرق و بنغازي و الأخرى تمثل حكومة طرابلس و مجموعة منفصلة تمثل عناصر إرهابية منها النصرة و داعش. إذ زاد هذا الصراع من تعقيد الأمور الداخلية خاصة بعد رحيل العقيد القذافي الذي حكم البلاد مدة أربعين سنة منها الإيجابي و الآخر سلبي و رسخ فيها الفكر الإشتراكي القومي الثوري و الولاء لثورة الفاتح من سبتمبر و للجماهيرية العظمي و لمبادئ الكتاب الأخضر الشهير. تلاشي ذلك الحكم بعد سقوط جميع الأقنعة التي كشفت حقيقة الأنظمة السابقة في دول الربيع العربي التي حققت ثراء فاحش علي حساب الطبقات الشعبية الفقيرة بحيث مثلت تلك الأنظمة مجرد سياسة الإبتزاز و الفساد المالي و الدكتاتورية و غياب الحوكمة الرشيدة و المحاسبة للحكومة.
فتبين للعالم كله نظام حكام دول الربيع العربي الذي يماثل تقريبا حكم قارون و فرعون اللذين أفسدوا في الأرض و فقروا شعوبهم و نهبوا أموالهم و ذلك وفقا لتقارير مصرفية أجنبية لبعض الحسابات البنكية للرؤساء العرب في البنوك الأجنبية و خاصة منها موقع ذي ريشاست « The Richest ». لكن البديل الذي كانت تطمح به تلك الشعوب الثائرة من أجل تحقيق الإستقرار الإقتصادي و الرفاه الإجتماعي لم يتحقق. إذ كانت المفاجأة الكبري وذلك بدخول جماعات إرهابية إسلامية عالمية إلي ليبيا و التي تركزت مؤخرا في محاور مدينة طرابلس لتقوم بذلك بعمليات التخريب و التدمير لجميع المكاسب الإقتصادية الوطنية. إن ليبيا اليوم أصبحت تعاني الأمرين تحت ضغوطات داخلية و أخري خارجية منها الإرهاب و الإخوان المسلمين و رغبة النظام السابق في العودة للحكم أو البديل العسكري بقيادة الجنرال خليفة حفتر الذي يمثل سيسي ليبيا الجديد أو منها دعم القرار الدولي من خلال التوافق الداخلي و التشبث بالشرعية الدولية عبر التمسك بحكومة الوفاق الوطني التي تجمع جميع الأطراف المتنازعة علي طاولة واحدة.
كل تلك الأحداث أججت الصراع الحالي علي السلطة و إنعكست نتائجة سلبا علي الإقتصاد الليبي و الثروة البترولية التي وقع نهبها من قبل بعض العصابات الإرهابية المتطرفة, مما أدت لتعطيل الإنتاجية و تسببت في تراجع المداخيل المالية. كما أن جميع المؤشرات الإقتصادية تشير اليوم إلي تدهور نسبة النمو الإقتصادي و الإستثمار و القطاع المالي بالتالي كانت النتائج وخيمة علي التنمية الإقتصادية و المنظومة المالية و المصرفية. إذ للتذكير بالتجربة الإشتراكية التنموية السابقة التي راهنت علي القطاع العام و السلطة الشعبية و التوزيع العادل للثروة و الحكم القبائلي و ذلك بمقارنتها مع الأحداث الراهنة التي تزايدت فيها الصراعات الداخلية من إرهابيين و إخوان مسلمين و علمانيين رأسماليين و ليبراليين و عسكريين لا يمكن بأي حال من الأحوال في ظل الأوضاع التعيسة الراهنة بوضعها في ميزان المقارنة بالتجربة الإقتصادية السابقة. إذ علي الرغم من أن الدكتاتورية الإشتراكية للعقيد المتحالفة مع القيادة الروسية و التجربة السوفياتية السابقة كانت ليبيا بكامل ربوعها تعيش نوعا من الإستقرار الإقتصادي, الإجتماعي و السياسي و تنمية مركزية إشتراكية شعبية حققت العدالة الإجتماعية و التوزيع العادل للثروة الوطنية. إلا أن تلك التجربة التنموية الإقتصادية لم تكن نتائجها مرضية مقارنة مع الثروة الطائلة البترولية و من الغاز الطبيعي و التي لم تخصص بالتحديد في مجملها لتنمية البنية التحتية و الإنفتاح الإقتصادي و التحرر المالي و الإندماج في العولمة الإقتصادية و الرقمية العالمية و جلب الإستثمارات الرأسمالية الكبري. و بمقارنة تلك التجربة التنموية للجمهورية بتجربة دولة قطر أو دولة الإمارات العربية المتحدة و الكويت فلا مجال اليوم للمقارنة بتاتا, بحيث لا تزال عجلة التنمية في البني التحتية الليبية متأخرة كثيرا علي الرغم من تلك الثروات الطبيعية في مجال الطاقة و التي هي في مجملها أكثر بكثير من مخزون دولة قطر أو الإمارات العربية المتحدة أو حتي الكويت.
إن الصراع الليبي الحالي علي السلطة يعد نذير جرس لخطر إقتصادي داهم في الأفق بحيث فشلت أغلب الإتفاقيات الحوارية و من أبرزها إتفاقية الصخيرات و باريس و تونس و كانت جميع نتائجها سلبية نظرا لتشبث كل طرف من الأطراف بمطالبه و عدم التنازل عنها للطرف الآخر. بالتالي مثل هذا الجانب من الإضطراب و عدم الإستقرار السياسي عامل فوضي و عدم إستقرار إقتصادي إستغلته بعض العصابات الإجرامية خاصة بمدينة طرابلس الليبية لتقوم بأعمال تخريبية للمكاسب الإقتصادية الوطنية مما أدت بدخولها في صراع مباشر مع قوات حفتر العسكرية. أما دخول تركيا و حلفائها علي خط الأزمة فقد زاد بدوره من الطين بله بحيث عقد الأمور علي أرض الميدان و التي هي بدورها معقدة و متشعبة ليس فقط داخل ليبيا بل علي نطاق شمال إفريقيا برمتها. إن الطموح لتحقيق الإزدهار و النهضة الإقتصادية و الإستفادة من عوائد النفط المالية يتطلب التعجيل بإيقاف الحرب الدائرة حاليا و بإجراء إنتخابات وطنية سابقة لآوانها و التي تمثل اليوم الحل الوحيد من أجل إرساء الديمقراطية و تحقيق الشرعية داخليا و خارجيا و الإلتزام بنتائج الصندوق و التصويت الشعبي. كذلك وقف أعمال إنتهاك سيادة الدول المجاورة في قراراتها و تربتها من و التي راهنت علي مدار السنين الماضية علي دبلوماسية ناعمة لا تحشر نفسها في شؤون دولية معقدة و تقف حجز زاوية عن أي تجاذبات سياسية تمس من أمنها القومي أو تؤدي إلي توتر علاقاتها الدولية. كما أن الرهان الإقتصادي التنموي الليبي المستقبلي لا يتمثل في اللجوء لصوت السلاح و قرار الحرب بل يتمثل في جوهره في التحول نحو الإستراتيجية التنموية الرأسمالية الليبرالية و إنفتاح الأسواق الداخلية علي الفضاء الخارجي و الإندماج في العولمة الإقتصادية و التحرر المالي و التجاري الكلي و تحرير الأسعار و الأسواق و جلب الإستثمارات الخارجية خاصة منها الأوروبية و الأمريكية و الإنطلاق مباشرة في تنفيذ المشاريع العملاقة في البنية التحتية و ذلك بالنسج علي التجربة الإستثمارية القطرية و الإماراتية و الكويتية و ذلك من أجل تحقيق التنمية و بالنتيجة الإستقرار و الإزدهار.
إن الحرب الليبية الدائرة حالية تشكل اليوم خطرا حقيقيا علي إقتصاده الوطني مما ستؤدي به إلي الهاوية و الدخول في أزمات إجتماعية و إقتصادية لا تخرج منها إلي بعد مرور سنوات و سنوات عديدة. فنهاية ذلك الصراع الداخلي لا تتم إلا بالإسراع نحو التعجيل بتنظيم إنتخابات تشريعية و تنفيذية خلال الثلاثي الأول من سنة 2020 و تنظيم جميع قائمات الأطراف المتنازعة و التي فشلت في جميع اللقاءات الحوارية في باريس أو المغرب. كما أن السلاح العسكري الليبي عليه أن يوجه فقط ضد الإرهاب التخريبي و أن يكون فقط عامل لتحقيق الإستقرار السياسي و الإقتصادي و بالتالي لتحقيق الإزدهار و التنمية الإقتصادية الليبية الشاملة المنشودة.