بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
كثيرون هم أولئك الذين يجهلون قيمة غور الأردن وشمال البحر الميت، ويظنون أنهما فقط منطقة سياحية حارة، تجتذب إليها السياح والمصطافين من كل أنحاء العالم، وأنها تتميز عن غيرها من مناطق العالم بانخفاضها الشديد عن سطح البحر الذي يتجاوز الــــ 410 متراً، فيمنحها هذا الانخفاض برودةً في الشتاء وحرارةً عاليةً في الصيف، تجعل أرضها أرضاً خصبةً جداً تصلح لإنتاج الكثير من الخضار والفواكه، المميزة بجودتها العالية وغناها الغذائي، وفيها البحر الميت الشديد الملوحة والعالي الكثافة، الغني بالأملاح المعدنية، والزاخر باليود والفوسفات والبوتاسيوم والماغنسيوم وغيرها، والمحاط بسلسلة كبيرة من الفنادق والمنتجعات السياحية، التي تجعل من المنطقة واحدةً من أكثر الأماكن السياحية الطبيعية والدينية والأثرية والاستشفائية في المنطقة.
أما ما خفي عن الكثيرين فهو أن منطقة الغور وشمال البحر الميت تشكلان ما نسبته 30% من مساحة الضفة الغربية، وتبلغ 1.6 مليون دونماً من الأراضي الخصبة، ونسبة 90% منها مصنفةٌ ضمن اتفاقيات أوسلو وملحقاتها بــــ “c”، والباقي وهو القليل مصنفٌ بين “A” و“B، وهذا يعني أنها تخضع بالكامل للسيادة الأمنية الإسرائيلية، التي لا تسمح للسلطة الفلسطينية بممارسة سلطاتها وصلاحياتها على الأرض.
في الوقت نفسه تقوم سلطات الاحتلال الإسرائيلي بقضم أرض الغور، ومصادرة ممتلكات أهله، وبناء مستوطناتٍ عليه، وتشق فيه الطرق وتبني معسكراتٍ للجيش، وتتحكم وحدها في مياهه الجوفية، حيث لا تسمح أبداً للفلسطينيين المقيمين فيه والبالغ عدهم 65.000 ألف فلسطيني، بالوصول إلى المياه الجوفية واستخراجها، بينما تمنح الحق الكامل لــــ 11.000 ألف مستوطنٍ إسرائيلي يقيمون فيه بالوصول إلى مصادر المياه الجوفية واستخراجها والاستفادة منها.
يصنف الإسرائيليون أراضي الغور الواسعة إلى أراضي دولة، وهي تشكل قرابة نصف مساحة الغور، ونسبة 20% مناطق إطلاق نار وتدريب عسكري، وأقل منها بقليل محمياتٍ طبيعية، وما تبقى تخصصه للمستوطنات ومجالسها الإقليمية ومقراتها الإدارية، وبناءً على تقسيماتها الإدارية والعسكرية، فإنها تمنع الفلسطينيين سكاناً وسلطةً من تغيير الواقع الحالي بكل السبل الممكنة، وتعتبر سلطات الاحتلال أن أي تغيير يحدثه السكان في المنطقة، هو بمثابة مساسٍ بالقانون العام الذي يوجب هدم وإزالة المخالفة، وتمنع إصدار تراخيص جديدة للبناء أو الترميم، وترفض أي محاولاتٍ لتغيير تصنيف الأراضي من زراعية إلى عمرانية، كما ترفض ربط التجمعات السكنية المشادة بشبكات الصرف الصحي والكهرباء والخدمات العامة.
يدرك العدو الصهيوني أن منطقة غور الأردن وشمال البحر الميت هي عمق الضفة الغربية الاستراتيجي، وأنها مخزونها الواعد للتمدد السكاني والعمراني، وأنها بمساحتها وموقعها الملاصق للضفة الشرقية على طول نهر الأردن، تشكل أساساً حقيقياً وجدياً للدولة الفلسطينية، وأنها أشبه ما تكون بصحراء النقب الفلسطينية، التي تتجاوز مساحتها ثلث مساحة فلسطين التاريخية، حيث نجحت سياسات الاحتلال على مدى أكثر من سبعين عاماً في الاستحواذ على أغلب أرض النقب، وطرد سكانها العرب البدو منها، وهدم بيوتهم وقراهم وتهجير أهلها المتوالي منها، لتصبح النقب أرضاً “يهودية” نقية، لا يسكن فيها غير اليهود، ولا يشاركهم الحياة فيها العرب الفلسطينيون.
جرياً على سياسة الاحتلال في النقب، التي يقيمون فيها مطاراتهم العسكرية ومفاعلاتهم النووية، يمضي الإسرائيليون في تنفيذ ذات المخططات في منطقة الغور وشمال البحر الميت، لعلمهم بقيمة الأرض ومكانتها، ومعرفتهم بمخزونها ومدخراتها، وأهميتها الاستراتيجية الحدودية، لهذا فإنهم يصادرون الأراضي، ويهدمون القرى والبلدات، ويطردون السكان، ويضيقون على من تبقى منهم، إذ يعزلون مناطقهم ويفصلون بينها بالمستوطنات ومعسكرات الجيش، ويجعلون حياة سكانها قاسية صعبة أو معدومة مستحيلة، كما لا يتورعون عن مداهمة بلداتهم واعتقال أبنائهم، تماماً كما اجتاحوا من قبل سجن أريحا، واختطفوا منه أحمد سعدات واللواء سليم الشوبكي واثنين آخرين.
لا يغرنكم أبداً أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يناور بتصريحاته، ويتاجر بمواقفه السياسية، وأنه أراد بإعلانه عزمه ضم مستوطناتٍ في الأغوار وشمال البحر البيت، فقط الاستفادة منها في معركته الانتخابية، لكسب المزيد من الأصوات، ولدفع المستوطنين والمتشددين اليهود لتأييده، والتمهيد لبناء ائتلافٍ موسع، يضمن تحقيق الهدفين معاً، العودة إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية، والنجاة من الملاحقات الشرطية والفرار من الأحكام القضائية التي تنتظره، والتي قد تفضي به إلى السجن سنين طويلة.
نتنياهو جادٌ في مواقفه، وحازمٌ في سياسته، ولكنه لا يعبر عن نفسه فقط، وإنما ينطق باسم الكيان الصهيوني كله، ويتحدث بلسان الأحزاب السياسية والمركبات العسكرية والأمنية، الذين يصرون جميعاً على الاحتفاظ بمرتفعات الجولان السورية المحتلة، وبأجزاء واسعة من الضفة الغربية، وبكل الأغوار الأردنية، التي يتمركزون فيها عسكرياً بصورةٍ لافتةٍ، ويتجمعون فيها استيطاناً بطريقةٍ واضحةٍ وضمن استراتيجيةٍ ثابتةٍ.