أشرف أبو عريف
ألقى السيد أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية كلمة في ندوة البرلمان العربي بعنوان “نحو بناء استراتيجية عربية موحدة للتعامل مع دول الجوار الجغرافي‟.. والتى جاءت على النحو التالى:
السيد الدكتور مشعـل بن فهـم السُلمي
رئيـس البرلمـان العربي
السيدات والسادة،
إنه لمن دواعي سروري أن أتواجد اليوم في حضرة هذه الكوكبة المتميزة من أصحاب الفكرِ والرأي .. وأهل المشورة والقرار.. لمناقشة موضوع أقول بصراحةٍ إننا تأخرنا كثيراً في تناوله بصورةٍ مُعمقة تتجاوز الجاري من الأحداث .. أو الطارئ من القضايا .. إلى ما هو استراتيجي ومستقبلي وبعيد المدى.. ومن هنا أهمية اجتماعنا اليوم الذي يطرح مسألة التعامل مع دول الجوار الجغرافي على طاولة البحث الفكري، والحوار العملي .. ذلك أن يقيني أن علاقةً صحية وصحيحة، تنطلق من أسس سليمة مع دول الجوار، ينبغي أن تحتل مكانها كأولوية رئيسية على أجندة الفكر الاستراتيجي العربي، في جانبه النظري وتطبيقاته العملية على حدٍ سواء.
إن أحداً لا يجادل في أن الهدف المنشود لأي علاقة جوار هو النفع المشترك لطرفيها .. ولا شك أن العرب، كغيرهم من شعوب الدنيا، لا يسعون سوى إلى حسن الجوار ومد جسور التعاون لمواجهة التهديدات المشتركة في منطقة تموج بتحديات أمنية وسياسية واجتماعية وبيئية، كان من شأنها أن تفرز أوضاعاً استثنائية تمثلت في حالات نزوح كبرى وغير مسبوقة، وأوضاع أمنية هشة تؤثر على الجميع في المنطقة؛ القريب والبعيد.. ومن حيث المبدأ، فإن الحوار المباشر يظل السبيل الأنجع والجسر الأقصر لتناول هذه المعضلات جميعاً، بصورة تستجيب لشواغل الجميع وتحقق مصالح الجميع.. على أننا نقف هنا ونقول: هل يكون هذا الحوار من دون أسس أو مبادئ تُحدد وجهته وأهدافه وإطاره العام؟
إنني أتحدث هنا على وجه التحديد عن دولتين جارتين للعالم العربي، هما إيران وتركيا.. تأزمت الأمور معهما في الآونة الأخيرة إلى حد صار معه الحوار صعباً، بل وغير مجدٍ في الوقت الحالي من وجهة نظري .. فالحوار لغرض الحوار، من دون إطار مفاهيمي يحكمه أو نقاط مرجعية تضبطه، لا يكون سوى تمرين ذهني، أو استعراضٍ شكلي.. لا يُعالج القضايا الجوهرية ولا يؤسس لعلاقة صحية.
ولا أريد أن أخوض فيما هو معروف للكافة من مظاهر التوتر الشديد في العلاقة مع هاتين الجارتين .. ولكن يكفي أن أقول إنه كان هناك منتدى للتعاون العربي التركي، تأسس منذ عام 2007، وعقدت خمس دوراتٍ له على المستوى الوزاري، قبل أن يتوقف في 2013 لأسباب معروفة لنا جميعاً.. أما إيران فقد صارت تدخلاتها في الشئون الداخلية للدول العربية، بنداً دائماً على أجندة مجلس الجامعة العربية منذ 2015.. ونشاهد اليوم ما تُباشره إيران وأذرعها من تهديدات خطيرة للأمن القومي العربي .. بل وللأمن العالمي في واحدٍ من أدق مفاصله المتعلقة بأمن طرق التجارة والممرات البحرية وسلامة المنشآت البحرية.
أقول إنني لن أخوض في التفاصيل، وهي كثيرة ومؤلمة وتثير الحزن الشديد إزاء ما انحدرت إليه العلاقة مع دولتين جارتين للعالم العربي، ولكني سأكتفي هنا بطرح ما أراه الأصل في تأزم العلاقة إلى هذا الحد المؤسف الذي لا يتمناه أي عربي لعلاقة مع دولتين إسلاميتين تربطنا بهما عُرى التاريخ والجغرافيا، وأواصر الدين والثقافة.
إن أصل المعضلة –من وجهة نظري- يتمثل في أن كلا الدولتين يحمل مشروعاً سياسياً يرى تطبيقه خارج حدود دولته.. وبالتحديد في المنطقة العربية .. إيران تعتبر أن المنطقة العربية ساحة مفتوحة ومباحة لمشروعها التوسعي، وتُعطي لنفسها حق التدخل في أزمات الدول العربية، بل إشعال هذه الأزمات في أحيان كثيرة، من أجل الدفع قُدماً بهذا المشروع الذي يتعارض مع أسس الدولة الوطنية على طول الخط .. ويضرب بمبدأ السيادة وعدم التدخل في الشئون الداخلية عُرض الحائط.. ويدفع بالمنطقة إلى أتون حروب طائفية نرى تجلياتها –للأسف- في عدد من نزاعات المنطقة اليوم.
أما تركيا فهي تدفع بمشروع آخر لا يقل خطورة .. يعتنق الإسلام السياسي في ثوب من العثمانية الجديدة .. ويسعى إلى الترويج لمنطلقاته الأيديولوجية في منقطةٍ ثبت أنها ترفض هذا المشروع .. وتركيا، من جانب آخر، تُعطي لنفسها الحق بالتدخل والتوغل في أراضي دولٍ عربية دفاعاً عما تعتبره أمنها القومي، ومن دون أي اعتبار لأمن الآخرين أو سيادة الدول.. وهو توجه مرفوض ولا يؤسس لعلاقة سليمة ومتوازنة بين طرفين تقوم على الاحترام المتبادل، والإدراك المشترك من كل طرف لشواغل الطرف الآخر.
كلا المشروعين، الإيراني والتركي، توسعي ويؤسس لعلاقة تقوم بين طرف مُهمين وآخر تابع .. وكلاهما يقفز فوق الدول وسيادتها.. وكلاهما يرى في الصراعات الدائرة في المنطقة فُرصة للتغلغل والتمدد .. وهو نظرٌ قاصر يقتنص مغانم قريبة ولا يهتم بعلاقة طويلة الأمد تقوم على الثقة المتبادلة، وتُحقق منفعة مشتركة للجميع عبر التعاون في مواجهة تهديدات، هي بطبيعتها، تستلزم حواراً إقليمياً.. إننا نتطلع إلى يوم يتغير فيه ذاك النهج، فيكون للحوار ساعتها معنى ونتيجة.
وأنتقل إلى العلاقات مع جوارنا الأوروبي فأقول إن الحوار العربي الأوروبي مستمرٌ منذ سبعينات القرن الماضي.. وبين العرب وأوروبا مصالح راسخة وقواسم مشتركة وأطر مؤسسية ممتدة، سواء على الصعيد المتوسطي أو الأوروبي العام.. وأشير هنا إلى اختراق مهم تحقق مؤخراً بانعقاد القمة العربية-الأوروبية الأولى بشرم الشيخ في فبراير الماضي.. حيث مهدت هذه القمة الطريق لحوارٍ صريح وبناء يخاطب شواغل الطرفين؛ العربي والأوروبي.. ويهمني في هذا المقام أن أؤكد أن هذا الحوار، لكي يكون مثمراً، لابد أن يشمل القضايا التي تهم الطرفين، وألا ينطلق أو يتأسس على قضية بعينها، كالهجرة غير النظامية أو غيرها.. وإنما يخاطب مختلف أوجه العلاقات بين منطقتين تجمعهما روابط سياسية واقتصادية وثقافية .. ولكل منهما شواغلها الأمنية والسياسية.
أما العلاقات مع جوارنا الإفريقي فإنها –وبكل صراحة- تحتاج إلى دفعة تُنشطها وتبث الحياة في أوصالها.. صحيح أن أربع قممٍ عربية-افريقية قد عُقدت إلى اليوم.. (ونتطلع إلى انعقاد الخامسة بالمملكة العربية السعودية في نوفمبر القادم).. إلا أن العلاقات ما زالت بعيدة عن المستوى الاستراتيجي المأمول في ضوء كون عشر دول عربية أعضاء في الاتحاد الإفريقي … وكذا في ضوء أهمية الجوار الإفريقي المتزايدة، سواء على الصعيد الأمني أو السياسي أو الاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بقضايا بعينها مثل الهجرة غير النظامية والإرهاب والتعاون الاقتصادي والأمن المائي.. إن أفق العلاقات مع جوارنا الإفريقي واعدٌ ومبشر.. وثمة دول عربية تُباشر علاقات نشطة ومتشعبة مع هذا الجوار ودوله.. إلا أن هذه العلاقات تجري في أغلبها في مسارات ثنائية بين هذه الدولة العربية أو تلك ونظيراتها من الدول الإفريقية.. ولا يتم التخطيط لها أو تنسيقها على صعيد جماعي.. ومن ثم فلا يعود أثرها على المنطقة العربية ككل، ولا تنعكس على قضاياها الجماعية .. مثل القضية الفلسطينية … وليس سراً أن افريقيا كانت ميدان تأييد تقليدي لهذه القضية المركزية لدى الجانب العربي.. إلا أن مياهاً قد جرت تحت الجسور، فتغيرت الصورة نوعاً ما .. وبعض المسئولية نتحمله كطرف عربي من دون شك.
وأخيراً .. تبقى نقطتان أحسبهما على جانب من الأهمية في سياق التعامل مع دول الجوار:
الأولى: أننا، وإن لم نذكر إسرائيل في سياق هذا الحديث، إلا أننا ننظر إليها أيضاً بوصفها دولة جوار.. بيننا وبينها قضية واضحة ومحددة هي القضية الفلسطينية .. إن هي اختارت السبيل الوحيد المعقول والمقبول من جانبنا كعرب لحلها .. وهو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.. إن هي اختارت هذا السبيل قُبلت في المنطقة كطرفٍ إقليمي طبيعي.. وهذا هو جوهر مبادرة السلام العربية .. وإن هي ماطلت وراوغت من أجل قنص ثمار السلام من دون دفع ثمنه العادل .. فإن قبولها كطرفٍ إقليمي نقيم معه علاقات طبيعية سيظل بعيد المنال.. تلك هي المعادلة ببساطة .. وأي التفاف عليها، بمبادرات دولية أو غيرها، لن يُفضي إلى شيء.. طالما بقي أصل القضية وجوهر الصراع من دون حلٍ عادل ودائم.
أما النقطة الثانية فتتمثل في أن أي تعاملٍ مع جوارنا الإقليمي، ولكي يكون نافعاً ومجدياً، لابد أن يسبقه اتفاق بيننا كدول عربية على أولويات أمننا القومي، وتوافق واضح حول منطلقاتنا الاستراتيجية الرئيسية .. فلا يُضعف الموقف العربي شيء قدر الحوار مع الآخرين فرادى .. من دون أولويات واضحة متفق عليها، أو موقف جماعي محدد ننطلق منه .. ومن ثمّ فإن الحوار المطلوب –أولاً- هو حوار مع الذات، قبل أن ننتقل إلى مرحلة الحوار مع الآخر…ويقيني أن الجامعة العربية هي خيرُ من يرعى مثل هذا الحوار الذي طالبتُ به منذ توليت المسئولية … ولا شك أن لقاء اليوم يأتي في هذا الإطار.. وأرجو أن تتواصل مثل هذه المبادرات من جانب كافة الفاعليات المعنية بالشأن القومي والتفكير الاستراتيجي والقضايا العربية .. بامتداد العالم العربي من المحيط إلى الخليج.
شكـــــراً لكـــــــــم،