رأى

دبلوماسيون.. فى ذاكرة التاريخ

استمع الي المقالة

د. حذامى محجوب

لما كانت البلاد التونسية تحت الاستعمار الفرنسي، ذهب الحبيب بورقيبة زعيم الحزب الدستوري التونسي الى مدينة نيويورك آملا أن يقع عرض القضية التونسية أمام المجتمع المدني وتدويلها في الأمم المتحدة، لكن حراس مبنى الأمم المتحدة منعوه من الدخول باعتباره لايحمل أي صفة رسمية تخول له حضور اجتماعات الأمم المتحدة وباءت كل محاولاته لاقناع الحراس بالفشل وشاءت الصدفة السعيدة أن تتزامن محاولة دخول الحبيب بورقيبة الى مبنى الأمم المتحدة مع وصول الوفد العراقي الذي كان يترأسه الدكتور فاضل الجمالي بصفته وزيرا للخارجية آنذاك الذي اهتم بالأمر وتساءل عما يحدث فور وصوله ، فأخبره الحراس بأن رئيس الحزب الدستوري التونسي الحبيب بورقيبة يريد الدخول دون صفة لقاعات اجتماعات الأمم المتحدة لذلك وقع منعه.

وفي تلك اللحظة ودون أدنى تردد نادى وزير الخارجية العراقي الحبيب بورقيبة وقال له ” أنت ستدخل الى مبنى الأمم المتحدة بصفتك عضوا في الوفد العراقي” ووضع شارة على صدره كتب عليها “الوفد العراقي ” وقال له ” لن يستطيع الآن أي أحد منعك من الدخول الى قاعة الاجتماعات ،لك الآن صفة أنت عضو في الوفد العراقي”.

دخل الحبيب بورقيبة بكل اعتزاز مع الوفد العراقي، وأخذ الدكتور فاضل الجمالي الكلمة بصفته رئيس الوفد العراقي ثم بعد ذلك قال “سأحيل الميكروفون الى أخي الحبيب بورقيبة للتحدث باسم دولة تونس الحرة” فساد صمت رهيب في القاعة وغادر الوفد الفرنسي قاعة الاجتماعات احتجاجا على ما فعله رئيس الوفد العراقي.

استلم الحبيب بورقيبة الميكروفون وألقى خطابا حماسيا بطوليا استمات فيه في الدفاع والذود عن حرمة وطنه ضد المستعمر الفرنسي الغاشم ،فاستحسنه الحاضرون ووقفوا جميعا يصفقون له .وبعد انتهاء الخطاب توجه الحبيب بورقيبة بكل لباقة الى الدكتور الفاضل الجمالي وقال له ” لا أنا ولا تونس ستنسى لك هذا الموقف ” وفِي سنة 1956 أي بعد سنتين فقط من هذه الحادثة حصلت تونس على استقلالها من الاستعمار الفرنسي بفضل كفاح الشعب أولا وكذلك بدعم الأشقاء اذ لاننسى أن الملك عبد العزيز آل سعود قدم للحبيب بورقيبة أثناء زيارته للمملكة العربية السعودية سنة 1951 دعما معنويا وكذلك ماليا لا بأس به كان منطلقا لتسليح الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي ودعم جيش التحرير.

كما مكنت هذه المبادرة الجريئة والشجاعة التي أقدم عليها الدكتور فاضل الجمالي من تدويل القضية التونسية.

وبعد سقوط الحكم الملكي في العراق سنة 1958 دارت الدوائر وصدر بحق الدكتور فاضل الجمالي حكم بالإعدام بوصفه أكبر رموز النظام الملكي في العراق، فتدخل الرئيس الحبيب بورقيبة آنذاك بكل ما أوتي من وسائل مناشدا الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم العفو عن الدكتور فاضل الجمالي والسماح له بمغادرة العراق الى تونس،وتبعت مناشدة بورقيبة مناشدات أخرى إقليمية ودولية جميعها تطلب الإفراج عن وزير الخارجية الأسبق العراقي للسمعة التي كان يتمتع بها. فاستجاب الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم وسمح بمغادرة الدكتور فاضل الجمالي بغداد الى تونس، وأولاه الحبيب بورقيبة عناية خاصة وفاء لموقفه المساند لتونس وقت الضيق وزمن الجمر، وعرض عليه أن يعيش معززا مكرما في بلده الثاني تونس وأن تمنحه الدولة التونسية راتبا عاليا، فأبى الدكتور الجمالي الا أن يكسب عيشه بعرق جبينه ، فعمل أستاذا مبجلا في الجامعة التونسية الى أن وافاه الأجل المحتوم، وقد أطلق الحبيب بورقيبة على احدى الشوارع الكبيرة في العاصمة اسمه تخليدا لذكراه.
تلك هي مواقف الدبلوماسية الحقيقية.. مواقف الرجولة والإباء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى