بقلم: د. حذامي محجوب
أربعة أوصاف لا نظير لها أو قل أربع خصائص فائقة التعبير، نادرا ما تجتمع أربعتها لترسم روعة المدينة وسحر تاريخها وجمال معمارها: الجسور الفخمة، الحدائق الغنّاء، القصور السرمدية ودور العبادة الشاهقة بتصاميمها الرائعة. إنها مدينة قال عنها أندريه مالرو على لسان رحّالة القرن العشرين “لا أحد بإمكانه أن يدّعي أنه قد زار أجمل مدينة في العالم اذا لم يزر مدينة أصفهان”، وقد عدّها “أسترابون” الجغرافي اليوناني منذ ألفي عام مركزا لإيران.
* قلب إيران النابض!
مدينة في قلب إيران أو قل هي قلبها النابض وكأنها متحف لصور العالم لأنها قديمة قدم إيران كأنها البدر المنير مكتملا مضيئا تتهادى نشوى عبر التاريخ فترسل الى كل من يزورها بعضا من الشعاع نحو القلب فيمتلئ بالدفء والحنوّ والحنان، تبعث مدينة أصفهان به دوما طالعا منيرا لزوايا النفس يطارد بقايا انتكاسات علقت بها مع مرور الأيام وتعاقب السنين. إن مدينة أصفهان ليست معروفة لدى الإيرانيين فحسب أو المهتمّين بالثقافة الفارسية ولكنها مشهورة في كافة أنحاء العالم لما تحمله جمالية رسومها ونقوشها من صور أسطورية وملاحم خالدة تسحر الألباب وتأسر العقول.
* .. علي أجنحة الملائكة!
وقد لقبت هذه المدينة التي تقع على أجنحة الملائكة منذ القديم من قبل زوارها بـ”نصف العالم”، يقول المثل الإيراني: “أصفهان، أصفهان نصف جهان اﮔر تبريز نباشد” وتعني هذه العبارة أن “أصفهان نصف الدنيا لولا تبريز”. ولا تزال هذه المدينة تتضوّع عبقا وسحرا وجمالا تستقبلك بحدائقها الغنّاء ذات الظلال الوارفة وأريجها الفوّاح تنثر الورد والزّهر في كل مكان. حديقة الزهور وحديقة الطيور مصنّفة من أجمل حدائق العالم، هي من أجمل ما ترى العين وتسمع الأذن. ما أن تطأ قدماك أرض مدينة أصفهان حتى تشعر بتركيبة سحرية مكونة من الثقافات والحضارات والأديان والأعراق التي تعكس حقبا تاريخية مختلفة عاشتها المدينة، إنها مدينة معروفة بوردة القرنفل التي تروي قصة عشق أبدية في مدينة تفيض بالعشق.
* شيرين.. زهرة القرنفل!
تقول الروايات القديمة أن شابا وسيما يدعى “فرهاد” وقع في حب فتاة فائقة الجمال والضياء اسمها “شيرين” ولما بلغ الشاب نبأ موت حبيبته، جن جنونه من فرط الحزن فقفز بحصانه من قمة الجبل ليلحق بها. ومن دمائه النازفة نبتت أزهار القرنفل ونشأ معها جمال المدينة ورونقها الأبدي ،هذه هي أصفهان التي حملت تاريخ الدولة الصفوية التي حكمت إيران زهاء قرن ونصف وهي فترة ثرية بالعلم والثقافة والفن والمجد.
* ..والتاريخ يعانق!
إنها فعلا قطعة من الجنة على الأرض في أحضانها يرقد التاريخ، تعانق الماضي في كل شبر من شوارعها وكل زاوية من زوايا دكاكينها. إنها تحتوي على أكثر من سبعة وعشرين موقعا أثريا وتعدّ قرابة مائة وستين نوعا من الصناعات التقليدية تلبية لكل الأذواق مما يجعل عين متأمّلها الغارق بسحرها لا ترتوي أبدا.
* أسرار العشاق!
أبرز معالمها جسر بولى خاجو أو جسر خاجو وطوله ثلاثمائة متر، يعدّ من أرقى آيات الإنسجام بين الهندسة والفنون المعمارية وهو تجسيد حيّ لصمود التراث والتاريخ في وجه الحداثة، يربط الضفة الشمالية بالجنوبية باعتبار أن مدينة اصفهان تقع على نهر زاينده وهو أهم نهر يجري في إيران وتدين له المدينة بنضارتها وازدهارها. تتسلّل مياه النهر بين القناطر بخفّة، تطفئ برودته لهيب الصيف وتخفي في أعماقها أسرار العشاق، أسرار يعجز المتبحّر في التاريخ عن كشفها في مدينة يقصدها أكثر من مليوني سائح سنويا.
* جهان.. القيصرية!
ساحة نقش جهان التي تحمل اليوم اسم ميدان الإمام الخميني هي ساحة أثرية في منتهى الروعة، تعد إحدى أجمل ساحات العالم ويبلغ طولها خمسمائة واثني عشر مترا وعرضها مائة وستون مترا وحولها حوانيت متساوية الحجم مفتوحة على بوابة السوق المشهورة بـ”القيصرية”، تباع فيها المنتوجات التي تشدّ الزائرين بجودتها وجمالها فمنها الصناعات اليدوية والمصوغات الفضية والذهبية والسجاد الفارسي العالي الذي لا نظير له في الدنيا.
وتحيط بهذه الساحة الأماكن الأثرية الفريدة كمسجد الشيخ لطف الله العاملي ومسجد الامام الخميني وقصر عالى قابو الذي يحتوي على خمسمائة باب والذي استخدم في عهد الصفويين لاستقبال الرسل والسفراء الأجانب، تعدّ طوابقه من الجهة الأمامية فتجدها ثلاثة، تفاجئك من الجهة الخلفية حين تجدها ستة. كانت تقام في ساحة نقش جهان مباريات الكرة والصولجان وكان الملوك الصفويون يشاهدون الألعاب والعروض العسكرية من شرفة القصر. وتتخذ الساحة الآن مكانا يجتمع فيه الإيرانيون في الاحتفالات والمناسبات الدينية والأعياد القومية وتقام فيها صلاة الجمعة من كل أسبوع بإمامة امام جامع الامام الخميني. كما تتميز المدينة بالقصور التي تتباين في تصاميمها وروعتها كالقصر الملكي والأربعين عمودا وقصر هاشت بهيشت وفندق عباس وهو عبارة عن متحف للفنون الزخرفية وهو أحد الأوابد التي أنشئت في القرن الحادي عشر الهجري وتحول الى فندق فاخر وجميل للغاية.
* إبداع علي الأرض.. ومباركة من السماء!
والى جانب المساجد الرائعة بتصاميمها ومآذنها ونقوشها والتي تنتشر في كل مكان من المدينة تضم أصفهان العديد من المباني الدينية للطوائف غير المسلمة كالمسيحية والتي تتشكل في غالبيتها من الأرمن إضافة الى اليهود وتتعايش هذه الطوائف في أصفهان معززة مكرمة وتتردد على دور عبادتها لتقوم بطقوسها الدينية بكل حرية. وبذلك تعدّ مدينة أصفهان رمزا للتعايش السّلمي بين الأديان نجد فيها كنيس الملاّ يعقوب والعديد من الكنائس منها كنيسة “فانك” التي أنشئت في “جلفا”، منطقة الأرمن والتي هي الآن جزء من مدينة أصفهان والتي تعتبر من أجمل كنائس إيران تأسرك بألوانها وجمالها وهي غنية في داخلها بالألواح التي تروي قصة المسيح وتصور يوم القيامة وقد استغرق رسم هذه الألواح تسع سنوات على ضوء شمعة وقد جمعت بين طراز البناء الأوروبي والإيراني، رسالة أرادوا من خلالها شكر أرض أبدع الله في خلقها وباركها من السماء.
* أنشودة.. يمكن ترتيلها!
أصفهان هي مدينة قديمة جميلة جمال أجمل الكلمات التي يمكن أن نتفوه بها وهي عذبة عذوبة أجمل أنشودة يمكن ترتيلها. إنها جوهرة ثمينة تتلألأ ضياء وبهاء فتصبغ على العالم الإسلامي البهجة والشموخ كمشكاة من الضياء السرمدي، هي وردة الحضارة الإسلامية في عزّها وألقها يمكن أن نستنشق عن بعد شذى تاريخها وأن نتنشق عن قرب عبق رونقها.