مهند أبو عريف
منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وضعت عُمان رؤية واضحة لمعالم سياستها الخارجية، وعلاقاتها بمحيطها، سياسة تقوم على مجموعة من الثوابت المستمدة من الهوية العُمانية، وثقافتها المنبثقة من إرثها الإسلامي وقيمها العربية الثابتة، الضاربة جذورها في أعماق الحضارة الإنسانية.
وقد حدد السلطان قابوس بن سعيد سلطان عُمان هذه المرتكزات، منذ تولِّيه مقاليد الحكم، ففي خطابه في العيد الوطني الثاني في 18 نوفمبر 1972م، أكد على ذلك بالقول: “ان سياستنا الخارجية تقوم على الخطوط العريضة وهي انتهاج سياسة حسن الجوار مع جيراننا وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة، وتدعيم علاقاتنا مع الدول العربية وإقامة علاقات ودية مع دول العالم، والوقوف بجانب القضايا العربية في المجالات الدولية”.
وعلى مدار نصف قرن تقريباً، مضت الدبلوماسية العمانية، مرتكزة على ثوابتها بمد جسور الصداقة مع العالم، وإقامة العلاقات الحسنة والمتكافئة مع الدول المحبة للسلام، ملتزمة بالمواثيق الدولية ومبادئ الأمم المتحدة، وانتهاج الطرق السلمية لحل النزاعات، بما يخدم الأمن والاستقرار العالمي.
وقد تمكنت سلطنة عُمان في ظل استراتيجية السلام، من إعطاء العديد من الأمثلة العملية لتعزيز العلاقات مع الأشقاء، وحل الخلافات الثنائية، بما فيها كل ما يتصل بجهود ترسيم الحدود، في إطار حضاري يرتكز على مبدأ لا ضرر ولا ضرار، ويسمح في نفس الوقت بتحويل الحدود المشتركة إلى معابر خير وجسور تواصل مع الأشقاء والأصدقاء، وبما يحقق المصالح المشتركـة والمتبادلة.
ولأن نهج السلام كان قيمة عليا لدى سلطنة عُمان، فقد امتلكت القدرة والشجاعة ليس فقط على التعبير بكل وضوح وصراحـة عن مواقفها ورؤيتها حيال مختلف المواقف والتطورات الخليجية والعربية والدولية، ولكنها عملت بجد والتزام من أجل وضع ذلك موضع التنفيذ في علاقاتها مع الدول الأخرى، وفي إطار الثوابت العُمانية.
وكانت رؤية السلام التي أعلنها السلطان قابوس، تنطلق من موقع القوي المدافع عن حقوقه ومقدساته، يصون عقيدته وكرامته، ويحرص على مد أيادي السلام حرصا منه أن يسود العالم جو من الوئام الإنساني المستدام.
وفي هذا الإطار قال قابوس في خطابه بمناسبة العيد الوطني الثامن في 18 نوفمبر 1978: “أننا نؤيد وسنواصل تأييدنا الصادق لجميع المبادرات التي تهدف إلى ضمان سلام دائم وعادل في الشرق الأوسط”.
وظل النهج السياسي العُماني ثابتا مُحكما لا يحيد، برغم التحديات والظروف التي مرت بها المنطقة، وظلت رسالة عُمان إلى العالم قائمةً على مبادئ السلام والوئام والإخاء، ووقف إراقة الدماء، واحترام إرادات الشعوب، ولمِّ الفرقاء إلى مائدة الحوار، وعودة الاستقرار والسلام.
وفي هذا الإطار نجحت السلطنة في وضع اللبنة الأولى للاتفاق التاريخي بين إيران والقوى العظمى حول الملف النووي الإيراني من خلال إعادة الحوار بين الأطراف، وساهمت السلطنة في تقريب وجهات النظر بين الجانبين، حيث استضافت في التاسع من نوفمبر 2014م، جولة مفاوضات بين (5+1) وإيران، وقامت بجهود وساطة لإنهاء الخلافات، سعيًا لتجنيب المنطقة والعالم مخاطر الأزمات والصراعات.
ومثلما قادت عُمان ـ ولا تزال ـ الجهود الرامية لإرساء السلام والدعم المستمر لمبادرات السلام لمختلف قضايا المنطقة وتقريب الأطراف المعنيين حيالها، وحرصت على أن تصل هذه القضايا إلى نهاياتها الناجحة والسليمة التي تحفظ كيان الدول ومصالح شعوبها على قواعد المشاركة والعدالة والمساواة، بذلت السلطنة جهودها في دفع المفاوضات اليمنية وتقريب وجهات النظر بين فرقاء الصراع، واحتضنت العديد من لقاءات التفاوض، وحاولت عدة مرات تقريب وجهات النظر لإيجاد صيغة توافقية لوقف الحرب الدائرة، حيث كانت مسقط محطة التقاء مقبولة لدى الفرقاء، للوصول إلى لغة التفاهم والحوار.
وفي الملفين السوري واليمني وضعت عُمان كل الإمكانيات أمام الحل السلمي بالتعاون مع عدة أطراف من شأنها المساهمة في إيجاد مخرج لهذه المعضلة، ووقف المآسي التي تحصل بدولة عربية يذهب ضحيتها الأبرياء يوميا. وكانت السلطنة محطة مهمة في أعمال اللقاء التشاوري للهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الليبي.
وتأتي القضية الفلسطينية ودعم حقوق الشعب الفلسطيني، في مقدمة ثوابت السياسة العُمانية، ففي عام 1987 أجرت صحيفة البلاد السعودية لقاء مع السلطان قابوس بن سعيد قال فيه: “موقفنا لن يتغير من القضية . ان الشعب الفلسطيني يجب أن يسترد حقوقه وفي مقدمتها حق تقرير مصيره على أرضه ، ونحن مع كل بادره تحقق هذا بالطرق السلمية”.
وأكد السلطان قابوس دوماً على وقوف سلطنة عُمان الدائم والحازم مع القضايا العادلة وفي طليعتها قضية الشعب الفلسطيني الذي يعمل من أجل استرداد حقوقه وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة إيمانا بحق الشعب الفلسطيني في العيش في أمن وسلام في اطار دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
وفي الوقت الذي عملت فيه عُمان بكل السبل الممكنة من أجل دعم وتأييد جهود الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه، فإن الدعم العُماني لم يقتصر في الواقع على تأييد الموقف والحقوق الفلسطينية عبر المؤسسات العربية والإقليمية والدولية ولكنه امتد كذلك الى مؤازرة الجهود الفلسطينية والعمل على التخفيف مما يواجهه من محن وأزمات بأشكال مختلفة.
وسلكت سلطنة عُمان كل السبل لدعم القضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب الأولي، منطلقة من إيمانها بأن تحقيق أي تقدم حقيقي بشأن القضية يتطلب التعاون الجاد والمخلص من جانب كافة الأطراف، بما في ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل والقوى الدولية والإقليمية المعنية الأخرى.