رأى

“حورس” و “الحفار”.. وقدماء المصريين في مملكة السويد

استمع الي المقالة

محمود عابدين يكتب

رحلة عمل شبابية جميلة.. كانت هذه المرة نحو مملكة السويد.. أقصى الشمال.. كأي شاب مصري يعشق السفر إلى بلاد ما يسمى بـ “الأحلام”.. والله ولا أحلام ولا حاجة.. المهم.. أقلعت بي الطائرة من مطار القاهرة إلى مطار ستوكهولم.. بمجرد أن انهيت اجراءات سفري.. خرجت من المطار قاصدا عنوان صديق مصري متزوج من سويدية في مدينة مالمو. استقبلني بفيلته الجميل صديقي الوفي “سامي”.. وهو بالمناسبة – كما أخبرني – شقيق السيناريست الراحل محمود أبو زيد – رحمه الله – وأقمت معه نحو عشرة أيام.. خلال هذه الفترة.. وقبل أن يُكلفني صديقي المحترم بالعمل معه.. أهداني كتابًا حتى أقتل به وقتي – كما قال هو لي حينها – ولم يكن يُدرك صديقي أن هديته هذه كانت وستظل من أعظم وأهم الهدايا التي قبلتها بحياتي.. فكانت عبارة عن رواية أكثر من رائعة للكاتب الوطني المبدع صالح مرسي بعنوان “الحفار”.. رواية مهمة جدا.. وكم تمنيت من مسئولينا في كافة مراحل التعليم أن يعتمدوها كمقرر لأبنائنا الدرسين نظرا لأهميتها . الرواية عزيزي القارئ باختصار شديد وغير مخل.. عبارة عن ملحمة عظيمة قام بها جهاز مخابراتنا “حورس” أثناء حرب الاستنزاف لكسر أنف القيادة الإسرائيلية بعد أحداث 1967.. حيث تبدأ أحداثها بتسلم الرئيس جمال عبد الناصر معلومات تؤكد أن “شركة إسرائيلية – أمريكية – بريطانية” تعاقدت مع شركة أوروبية لإدارة وتشغيل الحفار “”Kenting 1 بمنطقة خليج السويس لاستخراج البترول الخام من آبارنا المُحتلة في 67 لحساب الكيان المحتل دون أدنى اعتراض من مجلس الأمن والمنظمات التي تشبهه.. طبعا في تحد سافرٍ لرفضنا وتنديدنا لهذا العمل الاستفزازي بكافة المحافل الدولية. فما كان من “عبد الناصر” إلا أنه أمر أبطالنا بتدمير هذا الحفار بأي ثمن.. وعليه أُسندت العملية للضابط العظيم مُحمد أحمد نسيم “قلب الأسد” الذي سعد جدا بالمهمة واختار بنفسه 4 ضفادع بشرية من لواء الصاعقة البحرية بالإسكندرية ليكونوا تحت قيادته وهم: رائد خليفة جودت – قائداً للمجموعة.. ملازم أول حُسني الشراكي – ضابط عمليات – مُلازم أول محمود سعد – ضابط عمليات – وضابط صف أحمد المصري – مُساعد عمليات. يوم 12 فبراير عام 1970سافر “قلب الاسد” إلى باريس لتوفير مُعدات العملية.. وسافر فريقه بعده بـ 24 ساعة إلى داكار انتظارا لتعليماته.. لكن لسبب ما أمر “قلب الأسد” بإلغاء العملية في ليلة التنفيذ.. ومن ثم عادت عناصر الفريق صباح اليوم التالي على نفس الطائرة الفرنسية إلى باريس.. بينما مكث قائدهم في داكار ليلة عيد الأضحى المُبارك.. وبعد يومين عاد “قلب الأسد” إلى القاهرة بعد اختفاء الحفار في عرض المُحيط الأطلسي مع عناصر جهاز الموساد الإسرائيلي الموكلة بحراسته.. لكن سرعان ما ظهر الحفار عصر الاثنين الموافق 2 مارس 1970.. ومن ثم عاد “قلب الاسد” بسرعة البرق إلى باريس.. ومنها إلى ساحل العاج.. على أن يلحق به طاقم العملية في تمام الساعة 7 ونصف مساء 7 مارس 1970بهويات مُختلفة لمجموعة تصوير مُحترفة ومُتخصصة في توثيق الحياة البرية وأفلام الأدغال. وبعين الصقور وقلب الأسود.. راقب البطل بقارب سريع من الساحل موقع الحفار.. تابع أسلوب حراسته بمُساعدة عناصر سرية ذات علاقة بسفارتنا في ساحل العاج تحسبا لإصداره أمرا بتنفيذ العملية.. بعدها حدد “قلب الأسد” ساعة الصفر لإتمام العملية في مُنتصف ليلة 8-3- 1970بعد نقل فريقه في سيارة فان صغيرة بداخلها 4 ألغام بحرية مع أدوات الغطس التي ستُستخدم في سحق الهدف. ومن مفارقات القدر.. أن “قلب الأسد” كان يحتفل مع فريقه بعيد ميلاده الـ 43.. كما اتفق في ذات الصباح مع مجموعة من الصيادين على احضار 4 صناديق مملوءة بالألعاب النارية لا طلاقها تباعا لحظة القضاء على الهدف وسط الاحتفال بعيد زواج زوجين نرويجيين تعرف عليهما بالفندق الذي كان يقيم فيه من باب التمويه. و بتوفيق من الله عز وجل.. كانت نساء ساحل العاج تحتفلن هن الأخريات بمراسم يوم المرأة العالمي.. وبدأت الصواريخ النارية في الانطلاق بكثافة.. فغادر ضُباط الموساد الإسرائيلي الحفار الذي رسا على مسافة 400 متراً من الشاطئ في قارب سريع في اتجاه مصدر إطلاق الألعاب النارية لاستبيان التهديد.. بنفس اللحظة كان أبطال العملية قد خرجوا من الغابة تحت جُنح الظلام باتجاه الماء نحو الحفار.. وعلى عُمق متر واحد أسفل قاطرة الحفار.. ثبت أبطالنا الألغام وخرجوا من المكان في أن وسلام بعيدا عن أعين عناصر الموساد. ولإثبات وجود أبطالنا وقدرتهم على لجم الصلف الصهيوني.. فقد تركوا بموقع العملية بعض أدواتهم التي استخدموها في تدمير الهدف ليُدرك العالم أننا قادرون على حماية مقدراتنا.. وفي الساعة السادسة صباحاً.. هزت الانفجارات المُتتالية مدينة أبيدجان النائمة بقوة عنيفة.. وكان “قلب الأسد” قد تأكد من نجاح كُل الترتيبات مع اجراءات التنفيذ الروتينية. حينها مشطت سُلطات الأمن بساحل العاج موقع تدمير الحفار حتى عثروا – مثلما خطط “قلب الأسد” مع العقول الجبارة التي دبرت للعملية في القاهرة – على الأدوات التي تركها أبطالنا عمدا.. ومنها: 3بطارية كشاف للعمل تحت الماء.. و3 أزواج زعانف أقدام غطس صناعة إيطالية.. و3 نظارات غطس ألمانية الصُنع.. وجهاز لاسلكي ياباني المنشأ.. ولوحان حديد حمل عليها أبطالنا الألغام الأربعة التي استُخدمت في التفجير.. بالإضافة إلى بطاريات داخلية للكشافات اليدوي مصرية الصنع.. وهو ما نشرته حينئذ صحف ساحل العاج.. وبذلك استيقظ العالم على جنسية المنفذين.. ومن ثم وصلت الرسالة أن “مصر العظيمة قادرة على نوعية العمليات المُركبة التي لا يقدر عليها سوى أعتى أجهزة المعلومات الكُبرى على مُستوى العالم”. ظُهر يوم 11-3-1970 عاد “قلب الأسد” مع سيارتة الفان إلى مكان مرتفع من شاطئ العملية لالتقاط عشرات الصور للحفار الإسرائيلي الغارق.. ثم اتجه بعد ذلك مُباشرة إلى مطار ساحل العاج.. ومنه إلى باريس ثم القاهرة فجر ذات اليوم.. ليحتفل مع أبطال مصر وشعبها بنجاح أبرز العمليات البحرية الخاصة في تاريخ أجهزة الاستخبارات العالمية. نعود مرة أخرى لعملي في السويد مع “سامي”.. فبعد ضيافته لي على مدار عشرة أيام متتالية.. استأجرت بمساعدته شُّقةُ عبارة عن صالةً ومطبخًا وحمامًا.. لا تزيد مساحتها على 20 مترًا مربعا فى مجمع سكنى فوق ربوة مرتفعة عن الأرض، بنحو 30 مترًا.. مكان غاية فى الروعة والجمال.. لا ينقصه سوى شاعر؛ يقطن فيه؛ حتى يشاهد من شُّباك الصالة الزجاجى الكبير منظر الثلج، يتساقط من السماء كما لو كان قطعًا من القطن المصرى، ناصع البياض.. ثم يصف ذلك فى أشعاره. حينها سألنى “سامى” عن رأيى فى المكان، وما إذا كنت أحتاج لأى شيء لزوم المعيشة، إلى أن يزورنى فى الميعاد نفسه من الأسبوع المقبل؟.. وقبل أن أشكره على كل ما فعله معى.. وجدته يخرج من حقيبته مجموعة من صور “البردى” المصرى، مرسومًا عليها شخصيات فرعونية شهيرة مثل: كليوباترا، ونفرتيتي، ونفرتاري، ورمسيس الثاني، وخوفو، وخفرع، وأمنحتب و…. وبجوار هذه الوجوه، كان يوجد فى البرديات بعضُ الرسومات الفرعونية، ذات المناظر الطبيعية الخلابة لـ: الجبال والسهول والوديان والزراعة والطب والفلك والصيد و.. .إلخ. كان “سامى” يعطينى درسًا جميلًا عن تاريخنا الفرعوني، إذ كان خبيرًا فيه.. كلما أخرج لى “بردية”.. شرح لى لمن تكون.. ودور صاحبها فى الحضارة المصرية.. لأن عملى سيكون فى بيع البرديات للسويديين.. وظل “سامي” على هذه الحال 4 ساعات متواصلة.. بعدها شرح لى كيف أسُوِّق هذه البضاعة الراقية للزبائن من خلال كلمات سويدية بسيطة كتبها لى.. ثم حفظتها عن ظهر قلب مثل: ” دو كان تيتا “؟؟.. وتعنى: ” ممكن تشاهد ما معى من فضلك “.. فإذا وجدت قبولًا من الزبون السويدى.. أكمل معه بقية الحديث، وأخبره بالتفاصيل.. وإذا كان الأمر عكس ذلك، أشكره وأمضى إلى حال سبيلى!. فهمت كل شيء من “سامى”، وبعدها استأذن وذهب إلى منزله.. بصراحة.. كان عملًا ممتعًا للغاية.. كنت أشعر حينها بأننى سفيرا سياحيا وأثريا لبلدى فى هذه المملكة الجميلة.. حكايات وروايات كنت أسمعها من الشعب السويدي”نساءً ورجالًا.. شبابًا وشابات” عن تاريخ مصر وحضارتها تقشعر لها الأبدان من فرط إعجابهم بتراثنا وحضارتنا وتاريخنا!!.. من زار منهم مصر كان يحدثنى عن أسماء مناطق بعينها، وعن تاريخنا العظيم، وعن الآثار الموجودة فيها، وقيمتها التاريخية بشكل مبهر. أما من لم يُزرها منهم، فكان يُحدثنى بانبهار عن حبه الشديد لمصر، وتاريخها وعظمة حضارتها، وقيمة ومكانة قدماء المصريين العلمية، وأمنيته بزيارة أطلال هؤلاء العظماء الذين أسهموا بعلومهم فى تقدم وتطور حضارات العالم كافةً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى