د. جواد ظريف
وزير الخارجية الإيراني
وضعت الهزائم النكراء التي مُني بها تنظيم داعش في العام الأخير حداً لمشروع الدولة الإسلامية في العراق والشام، وأجهضت على الأرض، وبشكل جدي، تيار التطرف والعنف، بعد أن جر منطقتنا إلى إحدى أكثر الحقب التاريخية خسراناً ودماراً. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال أنشطة الإرهاب والتطرف قائمة، وتشكل تهديداً للمنطقة وللعالم، نظراً لشبكاتها المنتشرة على نطاق واسع في شتى بلدان العالم.
لا يزال الحؤول دون اتساع رقعة التطرّف يحتل مقام الأولوية في سلم الاهتمامات. وها نحن قد تخطينا، وعلى الأرض، تحدّي الدولة الإسلامية المصطنعة في العراق والشام، إلا أن ثمة مسافة بعيدة تفصلنا عما نتوخّاه من ظروف أمنية مستتبة. وما نواجهه نحن، وسائر اللاعبين الإقليميين في هذه الحقبة التاريخية، يتمثل في ثلاثة تحديات أساسية: الإدراك الصائب للواقع الراهن. بلورة قناعة مشتركة للوضع المنشود للمنطقة. السبل الكفيلة ببلورة هذا الوضع. على أن من شأن تجاوز هذه التحديات على النحو المؤمل تأمين مقومات الرخاء والأمن والأمان لأبنائنا.
لفكرة “المنطقة القوية” جذور في الرؤية الاستراتيجية التي تتمتع بها الجمهورية الإسلامية الإيرانية إزاء محيطها الإقليمي، وتعني القبول بمبدأ تأمين المصالح الجماعية، وضرورة احترامها وتعميم مبدأ الربح لكل الأطراف في المنطقة، ونبذ دوافع التفوق والنزعات التسلطية وإقصاء سائر اللاعبين.
وعليه، سيتوقف تأمين مصالح أي من دول المنطقة على تأمين مصالح جميع الدول فيها. ومع أن التنافس بين البلدان على خط التنمية الاقتصادية والاجتماعية لا بأس فيه، إلا أن العمل على النزوع للتسلط واستبعاد الخصوم للتحول إلى قوة طاغية لا يعد فقط أمراً بعيد المنال، بل سيثير أجواء من التوتر، فضلاً عن تعذر تطبيقه من حيث المبدأ.
كما إن هذا النوع من التنافس لن يؤدي إلا إلى بلورة حلقة مفرغة وهدامة، لا تنتج سوى التوتر المزمن والنزاع الدائم. من هذا المنطلق، يجب الكف عن ممارسة السياسات الهدامة، وصولاً إلى قناعة مفادها: إن في مقدورنا، نحن المسلمين، وعلينا أن نسعى إلى تحقيق الاستقرار والأمن والسلام والنمو الاقتصادي في منطقتنا.
وحيث تواجه منطقتنا أنماطاً من المشكلات، كالإرهاب والأزمات البيئية وازدياد حالات الهجرة وما شاكلها، فإن سباق التسلح الهدام وإيجاد أجواء التوتر بين البلدان الجارة هو بمثابة تحميل شعوب المنطقة مزيداً من الأعباء والتكاليف، في الوقت الذي بلغت معدلات النفقات العسكرية لجيراننا في منطقة الخليج الفارسي أعلى مستوياتها عالمياً، مقارنة مع إجمالي ناتجها المحلي. ولن تؤدي هذه السياسات إلا إلى تكريس التوتر وعدم الثقة، بالإضافة إلى هدرها الثروات الحيوية في المنطقة، وتكديس خزائن الناهبين من صناع الأسلحة، الأمر الذي لن يتكلل إلا بمزيد من المغامرات الكارثية، والنزاعات المدمرة، ما لن يدع أمامنا من سبيل سوى البدء بتفعيل سياسات بناء الثقة والطمأنينة، واعتمادها على صعيد المنطقة.
ونظراً إلى الواقع السائد في عالمنا المترابط، والظروف التي تعيشها منطقتنا، والخليج الفارسي تحديداً، فإن الآليات التي كانت تتبع قديماً لبلورة التحالفات قد بطل مفعولها وتلاشى تأثيرها. وبالتوازي، فقد مهدت بعض التباينات الديموغرافية والقدرات الاقتصادية والعسكرية لإثارة هواجس أمنية دائمة لدى البلدان الأصغر حجماً ودفعتها إلى الاعتماد على قوى أجنبية، والعيش في أوهام شراء الأمن، أو توريده من خارج المنطقة.
تتمثل آلية الخروج من هذه الدوامة العبثية والخطرة في استحداث شبكة أمنية، يساهم فيها جميع بلدان المنطقة، في إطار أسلوب عمل مشترك، يتطلب التزام دول المنطقة بثوابت وقواعد مشتركة، مثل مبدأ المساواة بين الدول، وعدم اللجوء إلى التهديد أو القوة، وحل الخلافات بالطرق السلمية، ومبدأ احترام وحدة التراب، وعدم تدخل أي دولة في شؤون الدول الأخرى، واحترام حقها في تقرير المصير.
وقد نجحت هذه التجربة في مناطق أخرى، اختبرت فيما بينها سنوات من الحروب وسفك الدماء، على الرغم من أن مصالحها المشتركة، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، كانت أقل بكثير مما تتمتع به بلدان منطقتنا. وعليه، ليس ثمة دليل لفقدان الأمل في إمكانية نجاح هذه التجربة في منطقتنا.
لا تصبو الشبكة الأمنية إلى استبعاد الاختلاف في الرؤى، أو غض الطرف عن المشكلات التاريخية، بل هي أسلوب يحول دون تزايد النزاعات والتحالفات المرحلية العقيمة. وفي هذا السياق، تعكف جميع بلدان المنطقة على اتخاذ الشبكة الأمنية ركيزة وقاعدة للتعاون من أجل بلورة تدابير مستدامة تحصّن الأمن الإقليمي. وانطلاقاً من هذه الرؤية، يتعذر تعريف أو ضمان أمن دولة، أو مجموعة من الدول، بمنأى عن أمن الآخرين. لذلك ينبغي التخلي عن الأطروحات القديمة العقيمة، لتحل محلها آليات تشخص، بل وتنتج مجالات للتلاقي في إطار المصالح المشتركة، وتسهم في تعزيز فرص التعاون بين بلدان المصالح المشتركة، وتفعيل الحوار في حال تباين وجهات النظر، وحدوث خلاف بشأن تلك المصالح.
ولبلوغ الاستقرار واستتباب الظروف الأمنية المطلوبة، علينا التحرّك في ظرفنا الراهن، وأكثر من أي وقت مضى، نحو الحوار واتخاذ خطوات على صعيد بناء الثقة وتعزيزها. فنحن في غرب آسيا نعاني من تدني فرص الحوار والتفاهم على المستويات كافة، وحكوماتنا بحاجة إلى بلورة أشكال من الحوار المطمئن، أكثر من قبل، كي تحقق إدراكاً متبادلاً، وتتعرّف كل منها على الأخرى. وبفضل هذا الحوار، سيتضح أن لجميعنا حالات قلق ومخاوف وطموحات وتمنيات متماثلة نوعاً ما. وبإمكاننا، بحكم الجغرافيا والمشتركات التاريخية والثقافية والدينية، تسخير أوجه الحوار والتعاطي الإيجابي لما فيه مصالح شعوبنا. في وسع هذا الحوار، بل يجب أن يحل محل التراشقات اللفظية، والبيانات الدعائية، غير المجدية، والتي نتخاطب بواسطتها عبر وسائل الإعلام.
الحوار هو أحدى أهم الوسائل الكفيلة بإزالة مناخات عدم الثقة، لكن الحاجة تبرز أحياناً، إلى جانب الحوار المباشر، لاتخاذ تدابير ما، للحد من أجواء القلق السائد. لذلك، يجب أن يقترن الحوار بتدابير لا غنى عنها، على صعيد بناء الثقة، يتصدرها تبادل المعلومات في شتى الميادين، كما إن تحاشي حالات سوء الفهم وتجنب التصرفات المثيرة للتوتر تدخل، هي الأخرى، في عداد الأهداف الرئيسة لتلك التدابير. علاوة على ذلك، ثمّة عوامل أخرى في مقدورها أن تمهد لأرضية خصبة، تفضي الى اعتماد إجراءات مطمئنة، تتمثل في تعزيز التواصل بين الشعوب، كتشجيع السياحة والتعاون في المجالات المشتركة؛ الاقتصادية والتجارية بوجه خاص. كما يمكن أن تتصدر جدول أعمال أية مباحثات مواضيعُ مثل تشكيل فرق عمل مشتركة في شتى الحقول، بدءاً من السلامة النووية، ومروراً بإدارة التلوث البيئي والكوارث الطبيعية والزيارات العسكرية المشتركة، والإشعار بإجراء المناورات العسكرية قبل إطلاقها، واعتماد الشفافية في مجال التسلح، وتقليص النفقات العسكرية، وصولاً إلى اعتماد معاهدة عدم الاعتداء.