رأىسلايدر

لماذا لا نرتدى “الخمار”.. نساءاََ ورجالاََ؟!

استمع الي المقالة

بقلم د. حذامى محجوب

صحيح أن السياسة لا تقوم على الأخلاق ولكن حد أدنى من الأخلاق ضروري اليوم حين تكون اليوم في مكان عملك أو جالسا في مقهى أو مارّا في السوق وحتى وأنت في جلسة عائلية فإنك لا تستمع إلاّ الى التذمّر والشكوى، أمّا إذا تابعت الإذاعة والقنوات التلفزيّة التونسيّة وشبكات التواصل الاجتماعي فأنت تصاب بحالة هلع وإحباط لكثرة السّب والشتم مع انعدام تام للبناء والتشييد لكل ما من شأنه أن يخرج بالبلاد من هذا المستنقع.

الكل غاضب..حاقد.. إنها حرب جماعية وحرب الكل ضد الكل.. الكل متفق تقريبا على أن الذين يحكمون البلاد لا يخدمون سوى مصالحهم الضيّقة ولا يهتمّون بالمصلحة العامة وأن معركتهم الفعلية ليست الدفاع عن قضايا التنمية ولا التربية ولا الصحة ولا صورة بلادنا ومنزلتها في العالم. انما هي معركة مواقع ومناصب استحقاقات انتخابية.

ومن جهة أخرى تجد أن معظم المرافق العمومية معطّلة لا تعمل بصفة طبيعية بسبب الغضب ومناخ عدم الثقة الذي تفشّى بين السياسيين من جهة وبينهم وبين الشعب من جهة أخرى، حتى أن الكل أصبح يتحدث عن فساد متفشّ في كل القطاعات تقريبا. بل أكثر من ذلك فقد أصبح من يدّعي التديّن فاسدا ومن يدّعي محاربة الفساد فاسدا متستّرا على الفساد ومن يتذمّر من حالة الفساد هذ..

هذا بلا شك يساهم في تدهور البلاد والعباد ويدفعها إلى الهاوية بتقاعسه وتحطيمه للأسس التي قامت عليها الجمهورية منذ دولة الاستقلال سواء عن وعي أو عن غير وعي. فمن إذن يساهم في انتشار الفساد الأخلاقي والسياسي؟

لقد استحضرت في خضمّ هذا البؤس الأخلاقي الإنسان كما تصوّره كانط أو بالأحرى “إنسان الأنوار” لأقدّم وجهة نظر لكل من يدّعي الدين والأخلاق والسياسة لأوضّح أن المسألة الأخلاقية هي ليست مسألة مِؤسّساتية بقدر ماهي مسألة ذاتية بمعنى أن كل مواطن هو معني بها من موقعه وعليه أن يبدأ بنفسه فضلا على السياسيين. فالسياسة ليست أخلاقا ولكن إدارة الشأن العام تتطلب حدّا أدنى من الأخلاق لا تستقيم بدونه.

فما معنى أن تكون لنا “هيئة وطنية لمكافحة الفساد” و”هيئة للحقيقة والكرامة” وغيرها، إذا كان القائمون عليها يعتبرون أنفسهم فوق القانون؟ هل مازال للانتخابات معنى، إذا كان المواطن يعطي صوته لمترشح ضمن قائمة حزبية ثم يفاجأ بسياحة هذا النائب وذاك في البرلمان بين الأحزاب؟

ما معنى أن لايلتزم المنتخبون ولاينضبطون لقرارات أحزابهم بمجرد حصولهم على منصب سياسي ؟ هل هذه هي الديمقراطية ؟ أم فوضى تجعل أعداء الديمقراطية على صواب ؟ ان انسان كانط هو سيد نفسه وله المسؤولية المطلقة هو حرّ، مستقل: يخضع للقانون الذي رسمه لنفسه.

ما الإنسان؟ هذا هو سؤال الفلسفة الأساسي الذي يرجع إليه كانط بقية الأسئلة الفلسفية: ما الذي يمكنني أن أعرف؟ ما الذي يجب علي أن أفعل؟ ماذا يمكنني أن آمل؟ وعن السؤال الأول يجيب كانط ” لا يمكن أن أعرف إلا ما هو موضوع تجربة ممكنة” وهذا معنى النقد أي نقد العقل للعقل. إنها فلسفة متناغمة مع علم عصرها أي مع فيزياء غاليلي ونيوتن. وينتج عن ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك عن طريق العقل المعرفة الميتافيزيقية كمعرفة الإله أو الروح التي تتجاوز كل تجربة ممكنة.

لذا يكتسي سؤال “ما الإنسان؟” أهمية مركزية في فلسفة كانط باعتبار أن العلم لا يستطيع أن يفكر لا في الحرية ولا في الغايات القصوى للحياة الإنسانية لأن هذه المواضيع محدودة بحدود تجربة ممكنة. والتجربة محكومة بمبدأ السببية التي تعني أن نفس الأسباب في نفس الظروف تؤدي الى نفس النتائج. ويبين كانط في “نقد العقل الخالص” أنه لا وجود لتناقض بين الحرية والطبيعة التي تنظمها قوانين محكومة بمبدأ الحتمية ولكن في ” أسس ميتافيزيقا الأخلاق الذي كتبه سنة 1785 يبرز كانط أنّ كل انسان يمكن له أن يعي بحريته بمجرد التفكير في معنى الواجب فعلى سبيل المثال : واجب علاج المرضى، إذا كنا لا نخضع لهذا الواجب الا بموجب مقتضيات مهنية أو اجتماعية أو حتى بسيكولوجية ودينية، أي إذا كنّا سجناء لتربية تلقيناها أو بيئة ثقافية- اجتماعية ترعرعنا فيها وذلك تقريبا ينسحب على جميع الواجبات التي هي أوامر شرطية لا مطلقة لذلك لا يعتبرها كانط أفعالا أخلاقية حتى وإن طابقت ما يطالب به المجتمع والضمير والعرف والواجب النفسي بما في ذلك الواجب الديني.

في حين أنه لوكان الأمر على العكس من ذلك وهنا يتحدّث كانط عن “القانون الأخلاقي” الذي هو “واجب حقيقي “وهو ما يسمّيه بـ”الأمر القطعي” عندئذ نقول إننا أحرارٌ لا محدّدين من قبل أي عنصر خارجي سواء كان رضا النفس أو المجتمع أو حتى الله.

ويستنتج كانط من خلال هذا القانون الأخلاقي الذي هو داخلنا الحرية. وقد نقشت على قبره قولته التي اختتم بها كتاب ” نقد العقل العملي”، ” السماء المرصعة بالنجوم فوقي، والقانون الأخلاقي في داخلي”. وبذلك يعرف كانط الإنسان بالحرية. إنه سيد نفسه وله المسؤولية المطلقة. وفي ذلك تكمن عظمته وكرامته. ومعنى هذا أن ما يقتضيه العقل لا ينبع مما هو إنساني فيه، فلا الفيزيولوجي ولا الاجتماعي ولا النفسي ولا حتى من قدرة الهية ولكن من إرادته كما يقول كانط في “تصدير كتاب “أسس ميتافيزيقا الأخلاق” : ” إن إرادته الخاصة تفرض عليه الواجب كأمر وهذا يعني أنها تقاوم الميولات والأهواء “، وهذا يكون أكثر وضوحا في علاقة المواطن بالدولة ” فهو في نفس الوقت مشرّع ومواطن: إنه هو الذي يصدر القوانين وهو الذي يخضع لها ويطيعها. وهذا يعني أن الحرية هي في نفس الوقت استقلالية وخضوع للقانون الذي رسمناه لأنفسنا.

كانط..

أن تخضع للواجب هو أن تعترف به داخلك لا أن تطيعه من الخارج.. إن القانون الأخلاقي يختلف عن القوانين المدنية لأنه ليس زجريا، ليست له عقوبة غير صوت الضمير، فإن نخضع للواجب هو أن نعترف به أولا داخلنا لا أن نلزم به من الخارج . فأن تكون “صادقا” وأن تمتثل للواجب الأخلاقي الاجتماعي لا يعني “أنك تشعر بوزر ضرورة الواجب” أو أنك متخلق.

ويضيف كانط أن “الإنسان الذي يكون صادقا رغما عنه هو ليس صادقا”. والدليل على ذلك أنّ كانط في عقيدة الفضيلة أي في الجزء الثاني من ميتافيزيقا الأخلاق يثني على أبيقور الفيلسوف المدافع عن المادة ومبدإ اللذة (270-342ق.م). ويعتبر كانط أن القلب المرح لهذا الفيلسوف هو أكبر دليل على فضيلته. تكمن الأخلاق إذن عند كانط في الإرادة الطيبة التي لا علاقة لها بالميولات الطبيعية. فهي عقلية خالصة ومن طبيعة مخالفة لرغبتنا في السعادة. وهذا يعني أن كانط يعتبر أن الأخلاق هي مسألة ذاتية داخلية لأن أول واجب للإنسان هو واجبه تجاه نفسه “عليه أن يحترم الإنسانية فيه وعليه أن يطالب كل انسان باحترامها. ولكن عليه قبل ذلك أن لا يفوّت بالأساس في الإنسانية فيه”. ومن هنا جاءت هذه الوصايا الكانطية :” لا تكونوا عبيدا للآخرين”. لا تدعوا الآخرين يدوسون بأقدامهم على حقوقكم “. كما كان يردّد دوما على طلبته هذه العبارة” إنّ الإنسان الذي لا يحترم نفسه لا يمكنه احترام أي شيء آخر”.

تبقى مسألة الأمل، فقد كان كانط يدرك أن التعاسة يمكن أن تحلّ بالإنسان الفاضل أو بلغة القرن 18″الإنسان الأكثر فضيلة”. ولكن السعادة أو الشعور بالهناء ليست الأخلاق عند كانط ولكنه يعتبر أنه من غير المقبول أن يحرم الإنسان منهما .فالعالم يتفق مع رغبتنا في السعادة لا مع الواجب الأخلاقي وعن هذا يتولد اليأس والإحباط (نقد ملكة الحكم87§) ولكن إذا كان واجب الحرية ليس وهما فإن ذلك يعني أن ما يتطلّبه منّا ممكن وما انفكّ كانط يردّد بأن “الواجب هو القدرة “. فالوعي بالواجب يؤدي بنا بالضرورة الى إمكانية ما يفرضه علينا. فنحن لا يمكن أن نعرف شيئا عن الاله أو عن خلود الروح لأن العلم الذي يمكن أن نحصل عليه هو محدود بحدود التجربة. ولكن يمكن لنا أن نأمل في توافق بين الخير والسعادة. لقد كان كانط يفكر على غرار المتابع للأفلام البوليسية ومسلسلات المافيا الذي يرغب في أن ينتصر الخير على الشرفي النهاية أي أن يسير العالم في اتجاه القيمة الأخلاقية للإنسان. وهذا هو معنى ومغزى الايمان بوجود إله خيّر أو “صانع أخلاقي للعالم «. فنحن لا نعلم شيئا عن علاقة هذا الاله بالعالم المادي أي لا يمكن الإجابة عن سؤال “ما الانسان؟” الا في إطار فلسفة تاريخية تبرز تطور الإنسانية التي تعبّر عن هذا الأمل ليس في حياة ماورائية “آخرة” وانما أمل في مستقبل الإنسانية، هو “اعتقاد بطولي”. إن هذا ما يقوله كانط في مقال كتبه سنة 1794 بعنوان “نهاية كل الأشياء ” وقد أكّد فيه على إمكانية أن تحقّق الإنسانية حريتها السياسية والأخلاقية. إن هذا الأمل يوسّع إرادة كل واحد فينا ويجعله مواطنا عالميا باعتباره يساهم في هذا التطور الانساني. بهذا المعنى كانت الفلسفة الكانطية تجسيدا لفلسفة الأنوار. فلا أنوار دون وعي فردي أخلاقي.

إن جواب الفلسفة النقدية عن سؤال “ما الإنسان؟” يؤول الى فلسفة الدين “الدين في حدود مجرد العقل “الذي يثمّن فيه كانط العقل على الإيمان الذي يتمثّل في اعتناق أفكار موثوق بها متأتية عن موروث ديني. وهذا يعني أن كانط بالرغم من احترامه للأديان فهو قد حسم مسألة ” التمييز بين اللائكيين ورجال الدين” منذ 1793 في “الدين في حدود مجرد العقل “. فالإيمان ليس سوى تعميق للاقتناع الأخلاقي دون أن يعتبره شرطا ضروريا له.

وهكذا فإن التفكير في الإنسان يعني أن نتساءل كيف يمكن أن نوفق بين وجودنا المادي في الطبيعة وواجبنا الأخلاقي في أن نكون أحرارا لذلك فإن” الإنسان الكانطي ” لا يمكن أن يكون بأية حال ” راهبا أو “إماما” أو “خطيبا “. فأين نحن من هذا الانسان؟ هل يمكن أن نأمل أن يزور مدينتنا يوما؟ فلنبدأ بتعرية الدين من العقائد السائدة ونكشف عن نواته الصرفة التي هي عقلية خالصة ولنفرغ الدين من مضمونه التاريخي الذي يعمق الفتنة ويحيي الصراعات المذهبية ونملأه بمضمون عقلاني نعول فيه على أخلاق جديدة، أخلاق مواطن عالمي يساهم في صنع التاريخ والتقدم بالإنسانية كل يوم نحو الأفضل عوضا عن اجترار الدين النظامي التاريخي.

إنني أحلم بقانون يرتدي فيه كل الناس الخمار: نساء ورجالا، خمارا داخليا أكثر جذرية وأكثر صرامة من الخمار المتداول لأنه داخلي، خمار أسميه القانون الأخلاقي الذي يتمثل في الوعي وخاصة في احترام الإنسان أولا لنفسه أي للإنسانية فيه ثم للآخرين، أي للإنسانية فيهم. في اليوم الذي يرتدي فيه كل فرد في مجتمعنا هذا الحجاب الداخلي نقول إننا اتجهنا نحو الكرامة والتقدم والنماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى