هيروشيما إلكترونية أم إنفراجة حتمية؟!
د. حازم الرفاعي
أصيبت حركة المسافرين عبر غالبية المطارات الأمريكية بالشلل مساء يوم الاثنين 2 يناير 2017 لعدة ساعات. ويعد هذا اليوم من أكثر الأيام ازدحاماً في حركة الطائرات في الولايات المتحدة. فلقد توقف الكمبيوتر المركزي لهيئة الجوازات والحدود عن العمل بشكل مفاجئ في هذا اليوم، مماً عرقل إجراءات خروج عشرات الآلاف من المسافرين الذين افترشوا الأرض في المطارات الأمريكية. وبث المسافرون صوراً ورسائل عن الطوابير الطويلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فسبقوا بتغريداتهم الإعلام الرسمي مثل (سي إن إن) أو (رويترز) وغيرهم. وتعددت المطارات المتأثرة فمنها كان مطار واشنطن ولوس انجلوس وبوسطن وميامي وأتلانتا وغيرها من المطارات الصغيرة كمطار سولت ليك سيتي وغيرها. أما نيويورك فتأثر فيها المطار الأكبر وهو مطار كيندي، تاركاً مطارين صغيرين وهما لاجوارديا ونيو آرك يعملان بسلاسة وسط فوضي المطارات الأمريكية المزدحمة. وأصرت وسائل الإعلام الرسمية أن خروج الكمبيوترات المركزية عن العمل لم يكن (عملاً شريراً) في إشارة شبه واضحة إلى أن الحادث لا ينتمي إلى حوادث القرصنة الإلكترونية أو إرهاب الدول الإلكتروني.
ويأتي هذا الإنكار والتعتيم متسقاً مع تصريحات أمريكية سابقه تنفي تعرض الولايات المتحدة لهجمات إلكترونية، مثلما حدث في 7 يوليو 2015 حين تزامن توقف نشاط البورصة الأمريكية لمدة يوم تقريبا مع موقع جريدة وول ستريت جورنال وكذلك توقف كمبيوترات شركة يونايتد للطيران، فتأثرت حركة الطيران لآلاف الرحلات. فكلما ازداد تأثير الاضطراب الإلكتروني تعمقت تصريحات الإنكار للإعلام، متلافية إثارة شكوك الناس في قدرة القوة الأعظم على حماية نفسها. ويضع إنكار الإعلام أيضاً ستاراً كثيفاً أمام خيال الناس لما يمكن أن تتطور إليه الأمور فيما بعد إذا اتسع مدى القصف الإلكتروني (للقلوب والعقول الإلكترونية) للبنوك والطائرات وشبكات الكهرباء. ولكن الإنكار الكامل والمداراة أصبحت مستحيلة. وهكذا ففي الشهور الأخيرة تصاعدت الاتهامات الأمريكية بأن روسيا تمارس (حروباً إلكترونية). ففي يوم 14 أكتوبر 2016 هدد نائب الرئيس الأمريكي (جو بايدن) لمحطة (NBC) في برنامج واجه الصحافة (بأننا سنرد على الهجمات الإلكترونية بهجمات مماثلة وإننا قادرون) وعندما سئل: هل سيعرف الناس بأن الولايات المتحدة قد انتقمت أو ردت؟ علق السياسي البارز: «أتمنى ألا يعرف الناس ما حدث، ولكن بوتين سيعلم». ووصلت الأمور كذلك لاضطرار الرئيس الأمريكي للإدلاء بدلوه في الأمر، فقد صرح الرئيس الأمريكي هو الآخر بأن المخابرات الأمريكية قد توفرت لديها معلومات، لا يرقى لها الشك، بأن روسيا قد تدخلت في الانتخابات الأمريكية لصالح الرئيس الجديد دونالد ترامب. وتبعت تصريحات الرئيس الأمريكي تصريحات في مدينة أخري هي لندن ففي اليوم التالي 16 ديسمبر 2016 علق رئيس الأركان البريطاني الأسبق دافيد ريتشارد بهدوء في الراديو: إن الحرص واجب فالأذى البالغ قد يصيب مؤسسات الغرب المالية المصرفية أو حتى الكهرباء! تجاوزت الأمور إذن نظريات المؤامرة وأفلام الخيال العلمي إلى تصريحات رجال الدولة، فالمؤسسات الأمريكية والساسة الأمريكان يصرحون بوضوح شديد بأن روسيا بتكليف من بوتين تدخلت في مسار الانتخابات الأمريكية، وأنها سعت لترجيح طرف على آخر للوصول إلى سدة الحكم في أمريكا. ولقد تجاوزت تلك التصريحات أنصار هيلاري كلينتون ذاتها إلى أنصار الرئيس المنتخب ترامب في الحزب الجمهوري فلقد اتهمه الصقور الجمهوريون كجون ماكين في الرابع من يناير الحالي بالتراخي في التعامل مع بوتين.
ولكن الحقيقة أن قدرة الولايات المتحدة على الرد عن طريق أسلحة السكتات الإلكترونية ليست محدودة التأثير فقط بل محدودة جداً فالتطور اللامتكافئ بين أركان العالم في تعمق واتساع الشبكة العنكبوتية كبير. فلقد توطنت الشبكة العنكبوتية ببروتوكولاتها وبرامجها في حياة كافة المؤسسات والناس في غرب أوروبا وأمريكا بشكل عميق وواسع وحيوي، ولا يضاهيها أي مكان آخر في العالم. بل وصار من غير الممكن تخيل الحياة بدونها في تلك البلدان. والرد بحروب السكتات الإلكترونية على روسيا والصين لن يكون مؤلماً لهما بذات القدر كما هو لأمريكا والغرب في تجسيد حي لمفهوم (ضعف القوة وقوة الضعف) أو بـ(إيش تاخد الريح من البلاط؟!) فلا يبقي أمام الولايات المتحدة إلا الحماقات وهناك من يتشكك أن إسقاط الطائرة الروسية يوم 23 ديسمبر يندرج تحت تلك الحماقات. حماقات تكنولوجية ممكنة وبأسلحة مجهولة في عالم صارت فيه الأقمار الصناعية تستطيع قيادة السيارات والطائرات بلا طيار أو سائق ولكنها تبقي حماقات وان سكت عليها طرفٌ اليوم فلن يسكت غداً.
وتتعقد الأزمة في شمال العالم وغربه، وتزداد حدة الصراع بين المؤسسات والقوي النافذة، ففشل الإستراتيجية الغربية في شرق المتوسط فتح الباب أمام عودة روسيا بقوة في الشرق الأوسط في هزيمة كبيرة قد تتجاوز تداعياتها هزيمة فيتنام. وتحول مشروع شرق المتوسط إلى فضيحة ثقيلة، فتعاملات الإدارة الأمريكية مع المرتزقة المسلمين من خلال دول النفط مرصودة ومكشوفة وستكون غير مقبولة لملايين الأمريكيين، إذا اتضحت تفاصيلها التي سجلها متمردو الشبكة العنكبوتية مثل أسانج وغيره. وتتواكب الأزمة الأمريكية أيضاً مع أزمة اقتصادية عارمة ثم ظهور نوع جديد من الحروب يمثل معضلة فنية وسياسية كبرى، يبدو أن أمريكا حتى الآن أضعف من أن تواجهها.
الخلافات داخل المؤسسات الأمريكية كبيرة، والصراع حول بناء إستراتيجية جديدة سيكون دامياً؛ فالصقور الأمريكان يشككون في شرعية الرئيس الجديد عن عمد وبتهويل فهم يشبهون نجاحه بالوصول الي الحكم على أسنة رماح روسية إلكترونية. هذا التهويل المقصود يستهدف تلافي (الإقرار بالهزيمة) أمام حرب السكتات الإلكترونية الروسية، وكذلك الهزيمة في سوريا والتداعيات العرقيه حول العالم للحرب بالوكالة والتحالف مع الاسلام السياسي. وعليه فان الإدارة الأمريكية القادمة (إن تغلبت على صراعاتها الداخلية) فستتقدم نحو وفاق أو انفراج دولي، وهو الاسم المهذب لهدنة عسكرية أو إستراتيجية. (الوفاق والانفراج) كما حدث في السبعينيات كان هدنة تبناها الروس وتبنوها للهروب من سباق التسلح الذي أنهكهم، ولكنه هذه المرة سيحدث برغبة أمريكية؛ لأنه يحدث تحت التهديد بهيروشيما إليكترونية روسية صينية، وهو ما لا تستطيع تحمله.