ولاية بان كي مون الأكثر دموية والأسوأ إنسانياً
د. مصطفي اللداوي
لم يبق على ولاية الكوري بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة في منصبه سوى أسبوع واحد، يغادر بعدها مكتبه في نيويورك بعد عشرة سنواتٍ أمضاها في منصبه الأممي الرفيع، حيث سيحل مكانه في أول أيام العام 2017 أمينٌ عامٌ جديدٌ، ليتولى إدارة ملفات المنظمة الدولية الأكبر والأهم في العالم، وقد تنافس على المنصب ثمانية مرشحين من بينهم لأول مرةٍ سيدتان، وفاز من بينهم البرتغالي أنطونيو غوتيريس بالمنصب في تصويتٍ داخل مجلس الأمن الدولي، إذ حاز على موافقة الخمسة الكبار، وقد قضت العادة في الدورات الثمانية السابقة على مدى سبعين عاماً وهي عمر المنظمة الدولية، بضرورة حصول توافق بين أعضاء مجلس الأمن الخمسة الدائمة العضوية، وعدم لجوء أيٍ منهم إلى استخدام حق النقض الفيتو ضد أي مرشحٍ.
مما لا شك فيه أن بان كي مون سيودع منصبه الأممي الرفيع في الأمم المتحدة، مخلفاً وراءه كماً مهولاً من الدماء والمعارك والحروب، والنزاعات والصراعات العنيفة، وأزماتٍ دولية كبيرة وانقساماتٍ وتحالفاتٍ متناقضة، وخلافاتٍ وانشقاقات وتحدياتٍ قاتلة، ومعارك طائفية وعنصرية وحروبٍ عرقيةٍ مقيتةٍ، وسيورث خليفته ملفاتٍ شائكةٍ يصعب حلها، وقضايا صعبة تستحيل معالجتها، وقد يعيا خليفته عن إدارتها لضخامتها وخطورتها، وتشابكها وتناقضها، وتعدد أقطابها المؤثرة وأطرافها الفاعلة، وقد يعجز عن تفكيك الألغام وإزالة الأخطار، والتخفيف من حجم الاحتقان والتوتر في مناطق مختلفة من المعالم، ولن يسعفه منصبه الرفيع في خلق حلولٍ وفرض تسوياتٍ، إذ أن منصبه بأي حالٍ لا يتعدى أن يكون كبير موظفي الأمم المتحدة لا أكثر.
كثيرةٌ هي الملفات التي سيتركها بان كي مون مفتوحةً من بعده لخليفته القادم، وهي ملفاتٌ بحجم الكون وعلى امتداد العالم واتساع أطرافه، وهي تتعدى الحروب والمعارك، والنزاعات والصراعات، إلى الأوبئة والأمراض، والفقر والجوع والتصحر، وقضايا البيئة والمناخ، والارتفاع المخيف في درجات الحرارة، ونسب التلوث الآخذة في الارتفاع والازدياد، والتهديدات التي تطال المرأة والأسرة والطفل، والحريات العامة والفردية، والديمقراطية والاستبداد، والانقلابات العسكرية وتهديد الأنظمة المستقرة، وملاحقة ومحاكمة مجرمي الحرب، وضمان عدم إفلاتهم من العدالة الدولية، ونجاتهم من الحساب والعقاب على جرائمهم ضد الإنسانية، والأخطار المحدقة بالحضارة الإنسانية والتاريخ البشري والمناطق الأثرية، وعمليات الإبادة العرقية والطائفية، وجرائم القتل القومية والدينية وعلى الهوية، وموجات الهجرة واللجوء، وقضايا الإرهاب وجرائم الاحتلال وغيرها.
التحديات التي خلفها بان كي مون وباتت تنتظر الأمين العام الجديد تمتد على مستوى العالم، وتشمل الكرة الأرضية بأسرها، وهي كلها تحديات كبيرة وخطيرة، وبعض معاركه قد استغرقت ولايته الثانية بكاملها، بينما بعضها الآخر استغرق ولايتيه الاثنتين على مدى عشر سنواتٍ وما زالت، فالشرق الأوسط يغلي كالمرجل، وتنفجر أحداثه كالبركان، وتسيل دماء شعوبه كالأنهار، والأزمة الكورية على أشدها ومخاطرها في ازدياد، وحروب روسيا في أوكرانيا وجورجيا وشبه جزيرة القرم، والتهديدات الناشئة عن حالة عدم الاستقرار في المنطقة وخصوصاً بين روسيا ودول أوروبا الغربية، والأصوات الأمريكية الجديدة التي ارتفعت معارضةً للاتفاق النووي مع إيران، وترفض الالتزام بما تم الاتفاق عليه، وتريد أن تنكث الاتفاقية، وتهدد باستخدام القوة لتدمير البرنامج النووي الإيراني.
أم أنه من الظلم أن نحمل الرجل وحده مسؤولية الدماء والمجازر والحروب، وحجم الدماء التي سالت، والتوترات القائمة والمعارك الجارية، والأوبئة والأزمات المتجددة، ونبرئ الدول الكبرى التي تعبث بالمنطقة، وتحرك الأطراف، وتقود المعارك، وترسم الخطط وتقسم العالم، وتنتصر للظالم وتتخلى عن المظلوم، فهي التي تستخدمه كأداة في يديها تهش به أو تهدد بالضرب من خلاله، بينما هو برئٌ من كل الجرائم، وأضعف من أن يكون مثيراً أو محركاً لها.
لعل التحدي الأبرز الذي سيتركه بان كي مون لخليفته هو القضية الفلسطينية، الذي بات عمرها عمر المنظمة الدولية، وجريمة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، ومصادرته لأرضهم، وهدمه لبيوتهم وتخريب زروعهم وبساتينهم، وبنائه للمستوطنات في أرضهم، وانتهاكه لمقدساتهم، وقتله واعتقاله لآلافٍ من أبنائهم، واعتداءاته المتكررة عليهم، واجتياحاته المدمرة لبلداتهم وقراهم، وحصاره القاتل لهم بالقوانين العسكرية والأسلاك الشائكة والجدران والحواجز والبوابات والمعابر، وامتناعه عن السماح بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بلداتهم وقراهم الأصلية، ورفض تمكينهم من إعلان دولتهم وتشكيل هويتهم الوطنية، وتزوير تاريخهم العربي والإسلامي، وتدمير اقتصادهم الوطني وبنيتهم التحتية العامة.
يغادر بان كي مون منصبه وقطاع غزة ما زال محاصراً، وأهله يعانون ويقاسون الويلات من العدو والجار، مع ما يسببه الحصار من تجويعٍ ومرضٍ، وتخريبٍ وضررٍ، وتدميرٍ وتخلفٍ، وقد زاره ثلاثة مراتٍ بسرعةٍ وعلى عجلٍ، ووقف على مشاكله وهمومه، ومعاناته وحاجاته، ولكنه لم يقدم شيئاً، ولم يفرض حلولاً، ولم يغير من واقعه، وأقصى ما فعله هو تصريحات إعلامية تحذر من تفاقم سوء الأوضاع في قطاع غزة، وأنها تنذر بكارثة خطيرة، وأن على المجتمع الدولي أن يمارس دوره، وأن يضطلع بمهامه الإنسانية تجاه الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي لا يستطيع أن ينتقد أو يدين الكيان الصهيوني وحكومته، أو يحمله المسؤولية الكاملة عما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ هو سبب المحنة وأساس المصيبة.
لكنه وهو يودع منصبه صرح لأول مرةٍ قائلاً “أن قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية أراضٍ عربية محتلة من العام 1967″، ودعا الكيان الإسرائيلي إلى الانسحاب منها والاعتراف بالحق الفلسطيني المشروع فيها، ولعل هذا التصريح هو الأكثر جديةً وجرأةً وخطورةً في تاريخه الأممي، الذي اعتاد فيه أن يعبر فقط عن قلقه وتخوفه، إلا أنه رفع صوته وصرح بما سبق وهو يعلم أنه مغادر، وأن تصريحاته ليس لها قيمة ولا أثر، وأنه لن يكون لها أي صدى أو دوي، وأنها لن تبدل الحال ولن تغير الواقع، فهو لم يعمل شيئاً وهو في قمة سلطته الأممية، فهل تجدي تصريحاته وهو مغادر مكتبه بحقيبة ثيابه، وبقايا دفاتره وأوراقه، وبعض صوره وذكرياته.