أشرف أبو عريف
ألقى رئيس وزراء ماليزيا، د. أنور إبراهيم، اليوم كلمة بمركز الأزهر للمؤتمرات بحضور وكيل شيخ الأزهر د. الديوانى وكذلك رئيس جامعة الأزهر د. سلامة داوود وساسة وإعلاميين وعمداء كليات الأزهر وطلاب ماليزيا بجامعة الأزهر.. إلخ.
وتحت عنوان “الإتحاد قوة.. رؤية للأمة الإسلامية من خلال التمكين التكنولوجي والإجتماعي والإقتصادي”، دعا السيد رئيس الوزراء د. أنور إبراهيم المسلمين والعالم أجمع إلى الوحدة ضد الإبادة الجماعية على يد الإحتلال الصهيونى تجاه الفلسطينيين واللبنانيين.. وجاءت الكلمة على النحو التالى:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب العالمين
وأُصَلِّى وَأُسَلِّمُ عَلَى المَبْعُوثِ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ
سيدِنا محمدٍ بن عبدِ اللهِ الأَمِينَ
وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينِ
هيئة التدريس الموقرة،
الضيوف الكرام،
السيدات والسادة،
إن التحدث في قاعات جامعة الأزهر المقدسة هو من أندر وأروع التكريمات في حياة أي مسلم. لأكثر من ألف عام، كان الأزهر منارة للعلم. هنا، ازدهرت النهضة قبل فترة طويلة من رواج هذا المصطلح، واشتعل التنوير قبل بزوغ فجر عصر العقل في الغرب. هنا يكمن ألف عام من التعلم المتراكم، حيث سعى الرجال والنساء من الحكمة منذ فترة طويلة لفهم كلمة الله، وتعاليم النبي، وأسرار الكون.
ولذلك لا بد لي من أن أتوقف لحظة لأعرب عن عميق تقديري وعميق امتناني لشيخ الأزهر الأستاذ الدكتور/ أحمد محمد أحمد الطيب على دعوته الكريمة لإلقاء هذه المحاضرة العامة في هذه المؤسسة الموقرة وأمام هذا الجمع المجيد من الجمهور المحترم والمثقف.
إن فضيلة الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب نفسه شخص ذو مكانة عالية بحيث لا يكفي أن نحاول الإشادة بإنجازاته. وما يمكنني قوله بمنتهى اليقين هو أن فضيلة الإمام الأكبر هو نموذج لفضائل الاعتدال على طريق الوسطية: وهذا يترجم في مساهمته الديناميكية والمثرية للأمة في قيادة الأزهر الشريف، مما يدل على جودة الأزهر الشريف والأمة، ليس فقط في المعرفة ولكن في الروحانية، وليس فقط في الأقوال بل في الأفعال، وليس فقط في الدنيا بل في الآخرة. (القرآن، سورة الشمس، الآية 7-10)
}}وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا (10){{
لقد أظهر الشيخ عزيمة وشجاعة حقيقيتين في التعبير عن المعاناة الفلسطينية، وساعد بذلك في إثارة إهتمام أكبر بمحنة الفلسطينيين في جميع أنحاء مصر والمنطقة، ولا سيما بين المجتمع الفكري والطلاب.
لقد قدم الأزهر الشريف مساهمات كبيرة للعالم الإسلامي، وقد إستفدنا منها كثيرًا في أرخبيل الملايو. لقد كان خريجو الأزهر دائمًا متألقين في الدفاع عن الإيمان والمعرفة وغرس روح الإسلام وجوهره في مجتمعاتهم. ومن منا لا تتاح له فرصة الدراسة في الأزهر غير زيارته مثلي، فلا يزال يستفيد من أساتذتنا ومشايخنا، ويستفيد من خطابات العلماء.
يجب على الأمة ككل ألا تنسى أبدًا الدور التقليدي الذي يلعبه الأزهر الشريف – مركز الإصلاح، ومعقل المعرفة والتفكير الإبداعي، والأهم من ذلك، المدافع عن الأمة ضد هجمة الإستعمار مع الحفاظ على وتأكيد حقوق الأمة وهوية الأمة الإسلامية. والسؤال الذي يطرح نفسه علينا في هذا العصر هو ماذا الآن؟ فهل ما زال الأزهر الشريف قادراً على القيام بهذه الأدوار الحاسمة؟
وفي هذا الصدد، تعلمنا من مشايخ الماضي القريب الكبار، مثل الشيخ رشيد رضا ومحمد عبده، الذين ألهمونا بالدعوة إلى إصلاح الأمة وتجديدها نحو التحديث المستنير. واليوم، لا يزال الأزهر الشريف مدفوعًا بنفس روح الحداثة، بينما يعمل في زمن مختلف ونموذج مختلف نحو تقدم العلوم والتكنولوجيا من أجل رفعة الأمة وتقدمها.
الإسلام يوحد المادي والروحي، ويمزج الفكر مع الهدف الأخلاقي لإرشادنا نحو فهم شامل لدورنا في الخلق. تلعب مؤسساتنا التعليمية دورًا حاسمًا في رعاية هذه الرؤية للمعرفة. ويجب أن تكون أماكن يتعلم فيها الطلاب ليس فقط التفوق بل الخدمة، حيث يقترن التفكير النقدي ببوصلة أخلاقية قوية. ومن خلال هذا التكامل بين الفكر والأخلاق، تعمل مؤسساتنا على تنشئة جيل من المفكرين والقادة المستعدين للحفاظ على كرامة الجميع وبناء عالم يعكس الوحدة والرحمة التي يتصورها الإسلام.
وهذا هو دور الأزهر الشريف. وهذا هو الدور الذي يجب أن تقوم به كافة مؤسسات التعليم العالي. هناك على سبيل المثال بعض المؤسسات ذات الشهرة العالمية التي اكتسبت سمعة طيبة من حيث التميز الأكاديمي ولكن يُنظر إليها للأسف على أنها تنتج خريجين مفلسين أخلاقيا. وهنا يصبح معيار التميز مع البوصلة الأخلاقية ضروريًا للغاية.
والسؤال الحاسم هنا هو: بينما يتحول العالم بوتيرة غير مسبوقة، كيف يستجيب العالم الإسلامي؟ تتطلب هذه التغييرات أكثر من مجرد التكيف أو التقليد؛ إنهم يدعون إلى المرونة والبصيرة والرؤية الراسخة. وللتغلب على هذه التحولات المعقدة، يجب علينا أن نسعى بجرأة إلى الإبتكار كما تحدث محمد إقبال عن التجديد والإصلاح، وتعزيز الجهود التعاونية، والبقاء منفتحين على التقدم. ومع ذلك، وللقيام بذلك، يجب علينا أيضًا أن نستفيد بعمق من التعاليم الخالدة لإيماننا، والتي توفر بوصلة أخلاقية ترشدنا نحو مجتمع متوازن ومتناغم، متجذر في العدالة والرحمة والوحدة.
وفي عصرنا هذا، تساعد مقاصد الشريعة على معالجة القضايا العالمية الملحة، من الفقر وعدم المساواة إلى الأضرار البيئية. وعندما نقوم بتضمين هذه المبادئ في مؤسساتنا، فإنها تضمن أن الحكم والأنظمة الإجتماعية والسياسات الإقتصادية تخدم الصالح الجماعي وليس المكاسب الفردية. ومن خلال ترسيخ قراراتنا في هذه الأهداف العليا، فإننا نبني مجتمعًا تكون فيه الرحمة والإنصاف والنزاهة في قلب كل عمل، مما يحمي حقوق وكرامة كل فرد ورفاهية الأجيال القادمة.
القيادة ليست امتيازًا، بل مسؤولية التكليف والتصريف يجب أن تُقابل بالتواضع والحكمة والالتزام الصادق تجاه الناس. إن الحكم في الإسلام يتجاوز الهياكل السياسية ويصبح واجبا أخلاقيا، حيث يكون القادة مسؤولين ليس فقط أمام شعوبهم ولكن أمام الله. هذا النموذج من القيادة متجذر في الخدمة والعدالة والرحمة، وهو تقليد يجسده النبي محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه.
إن أحد التحديات الأكثر انتشارًا التي نواجهها اليوم هو الإسلاموفوبيا. وهذا التحيز يشوه الإسلام، ويدفع أتباعه إلى الصور النمطية الضارة التي تغذي الشكوك والعداء تجاه المسلمين في جميع أنحاء العالم. إن إستمرار كراهية الإسلام يعكس جهلاً عميقاً يحجب المساهمات الغنية والمتنوعة للحضارة الإسلامية. ومثل هذه المشاعر تفشل في الإعتراف بالمساهمات التي قدمها الإسلام للحضارة العالمية، من التقدم في الطب والرياضيات إلى الحفاظ على المعرفة الكلاسيكية.
ويجب أن يكون ردنا على الإسلاموفوبيا متجذرا لمواجهة الجهل بالمعرفة والحكمة والرحمة والفهم.
يذكرنا الله في القرآن:
}}وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ{{ فصلت (34)
” ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” (فصلت، 34)، مما يشجعنا على الرد على العداوة بالصبر واللطف والحكمة. إن التراث الفكري والأخلاقي للإسلام يقف شاهدا على الدور البناء الذي لعبه المسلمون في تقدم المعرفة الإنسانية وتعزيز السلام.
ومن خلال المبادرات الإستباقية والتبادل بين الثقافات، يمكننا كسر الصور النمطية الضارة وإستبدالها بتقدير حقيقي لمساهمات الإسلام في مجتمع عادل وسلمي. وبالصمود والحكمة، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر شمولاً، حيث يتعايش المسلمون وغير المسلمين على حد سواء بكرامة وإحترام متبادل.
أما اليوم فقد أصبحت الفجوة صارخة، والعواقب ملحة. وتحتل عشر دول ذات أغلبية مسلمة فقط مرتبة في فئة مؤشر التنمية البشرية المرتفع، وهو الرقم الذي لم يتحسن إلا بالكاد خلال أكثر من عقد ونصف من الزمن. ومع أن متوسط الإستثمار في البحث والتطوير لا يتجاوز 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي، فإن البلدان ذات الأغلبية المسلمة أقل كثيراً من المتوسط العالمي الذي يبلغ 1.78%. ويعني هذا النقص فرصًا ضائعة وإمكانات غير مستغلة ونقصًا مقلقًا في الإستعداد للمستقبل.
ومع ذلك، في غياب الإستثمار الحاسم والمستدام في تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، فإننا نخاطر بالتخلف عن الركب. ومن الضروري تعزيز تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات منذ السنوات الأولى، وزيادة الإستثمار في البحث والتطوير بشكل كبير، وإعطاء الأولوية للمجالات التحويلية مثل التكنولوجيا الحيوية، والعلوم الكيميائية، وتكنولوجيا المعلومات. وتمثل هذه القطاعات أهمية بالغة ليس فقط للنمو الإقتصادي، بل أيضاً لمعالجة القضايا الملحة ــ من أزمات الرعاية الصحية إلى التدهور البيئي ــ التي لا يمكنها إنتظار حلول الغد.
ويطرح الإقتصاد الرقمي تحديا ملحا آخر. ومع تزايد الترابط بين العالم، يتعين على العالم الإسلامي أن يعطي الأولوية للإستثمارات في الأمن السيبراني، والبنية التحتية الرقمية، ومهارات تكنولوجيا المعلومات والإتصالات. ويتعين علينا أن نعمل على إنشاء أطر قوية للأمن السيبراني، وبناء بنى تحتية رقمية مرنة، والتأكد من إستعداد الجيل القادم للإبحار وتشكيل المشهد الرقمي سريع التطور.
وعلى نفس القدر من الأهمية هناك الحاجة إلى تعاون واسع النطاق وعبر الحدود الوطنية في مجال العلوم. إن المشاريع المشتركة في استكشاف الفضاء، وعلم الفلك، وعلوم البحار، والحوسبة عالية الأداء ليست من الكماليات، بل هي من الضروريات. تتيح هذه المشاريع الطموحة لدولنا الفرصة لتطوير أحدث التقنيات، وتحسين الأمن الإقتصادي، وإظهار قوة الأمة الموحدة.
غالباً ما يتم تصوير العالم الإسلامي على أنه مجتمع محفوف بالخلاف والإنقسام. وهذا بالطبع تبسيط مبالغ فيه. ورغم إستمرار التحديات، يجب علينا أيضًا أن نعترف بالخطوات الإيجابية التي تم تحقيقها في الآونة الأخيرة. وهذا أمر يجب علينا جميعا أن نشيد به ونشجعه.
ويؤكد هذا التقدم على قوة الدبلوماسية والحوار في سد أعمق الإنقسامات. وتذكرنا هذه التطورات الأخيرة أنه مهما بدت الخلافات مستعصية على الحل، فإن حتى القضايا الأطول أمداً يمكن أن تخضع للدبلوماسية والصبر والرؤية المشتركة للتعايش.
إن أي حرمان من التعليم وغيره من الحقوق الأساسية للمرأة هو أمر غير إسلامي وأمر مقيت. المشاركة لا تعني محو إختلافاتنا. عندما نتحدث عن وحدة المسلمين، فإننا لا نعني التماثل، ولا نتصور عالماً تتحرك فيه جميع الدول الإسلامية في إنسجام تام. ومع وجود ما يقرب من ملياري شخص في مناطق مختلفة، فإن توقع إتفاق كامل بشأن كل قضية ليس أمرا واقعيا ولا مرغوبا فيه. إن الرؤية الواقعية للوحدة تعني إيجاد أرضية مشتركة حول القضايا الأساسية والعمل جنبا إلى جنب – إحترام إختلافاتنا مع السعي نحو تحقيق الأهداف المشتركة.
وكما هو الحال مع الأسرة، حيث قد يحمل أفرادها وجهات نظر مختلفة ولكنهم يظلون مرتبطين بالحب والمسؤولية المشتركة، فإن قوة الأمة تكمن في تنوعها. إن وحدتنا متجذرة في الإلتزام الجماعي بالسلام والعدالة والرخاء للجميع. دعونا نبني على النجاحات الأخيرة لتجاوز التحديات التي نواجهها وتشكيل مستقبل أكثر توحيدا وإشراقا للعالم الإسلامي.
الله يهدينا ويقوينا ويلهمنا للقيام بدورنا كوكلاء للعلم والعدالة والسلام. دعونا نسعى معًا لجعل هذه الرؤية حقيقة لأنفسنا، ولمجتمعاتنا، وللأجيال القادمة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاتة.