المجر: الديمقراطية غير الليبرالية المربكة لسياسات الاتحاد الاوروبي
نوران يوسف
تشهد العلاقات بين المجر والاتحاد الأوروبي حالياً فترة قاتمة على آثر سياستها المعارضة للاتحاد، والتي اصبحت مربكة إلى حد كبير لسياساته في تعامله مع قضاياه الأم، حيث باتت تشكل حجر عثر للكثير من قراراته، وزاد من الأمر تعقيدًا سياسات رئيس الوزراء المجري فيكتور اوربان الموالية لروسيا، لاسيما في ظل الازمة الأوكرانية ومعارضته لإقرار حزمة المساعدات المالية الأوروبية لأوكرانيا، و تراجع الديمقراطية ودولة القانون في المجر وتخليها عن الطابع الأوروبي في سياستها، وتفضيل المصالح الوطنية على حساب مصالح الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي لم يعتداه الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن معارضة المجر لانضمام السويد إلى الناتو وعرقلتها للمطالب الأوروبية الرامية إلى التوصل إلى هدنة إنسانية فورية في قطاع غزة مما قوض الدور الذي يلعبه الاتحاد الأوروبي في المنطقة،
والسؤال الذي يثار هنا هو كيف نجحت دولة مثل المجر الذي تعتمد بشكل كبير اقتصاديًا وأمنيًا على الاتحاد الأوروبي في استغلال تأزم الأوضاع داخل اروقته لصالحها ومن اجل توسيع نفوذها الدولية، وهل يملك الاتحاد الأوروبي معاقبة المجر، خاصة وان تشريعاته لا تنص على تعليق عضوية دولة عضو أو طرده؟ وكيف استطاعت المجر الجمع بين الديمقراطية واللا ليبرالية؟
لقد أصبحت جمهورية المجر العضو في الاتحاد الأوروبي منذ قرابة عشرون عامًا، والتي يبلغ سكانها بالكاد 10 مليون مواطن مصدر قلق متزايد للقارة الأوروبية، لا سيما في ظل السياسات غير الليبرالية التي تنتهجها منذ تولي رئيس الوزراء الشعبوي والقومي “فيكتور اوربان” زمام الأمور، حيث استطاعت سياساته أن تنال اعجاب الأحزاب اليمينية المتطرفة على مستوى العالم.
صنفت المنظمة الأمريكية الدولية غير الحكومية “فريدوم هاوس” في تقريره السنوي المجر ضمن فئة الدول الليبرالية جزئيًا، وهي الحالة الاستثنائية الذي لم يشهدها قط الاتحاد الأوروبي، لتضاهي كل من الهند، السنغال، والبانيا.
ووفقًا لمركز الأبحاث ” Think Tank” الذي تموله بشكل خاص الحكومة الأمريكية، فأن المجر لم ترتقي لتكون بلد ديمقراطي قائم بحد ذاته، وتراجعت الديمقراطية في المجر بشكل متزايد عندما هيمنت الاوتوقراطية على الدولة، حتى على مستوى الانتخابات، فالنظام الذي يحكم المجر في الوقت الحالي هو نظام مختلط يجمع ما بين الديمقراطية والاوتوقراطية؟
نظريًا، فإن السياسة التي يتبعها اوربان في التعاطي مع مسألة الديمقراطية داخل البرلمان تتطابق مع المعايير المتعارف عليها، كما أن الانتخابات التشريعية تجرى بشكل منتظم كل 4 أعوام، ويوجد بقايا من الإعلام المستقل ومنظمات المجتمع المدني، فإن المجر ليست روسيا الذي يحكمها بوتين ولا كازخستان، فالحريات العامة الأساسية لازالت تحترم بها، أي حريات التعبير والتظاهر، فلا يوجد معتقل سياسي واحد داخل السجون أو معارضون سياسيون يتعرضون للأذى الجسدي، وخير دليل على ذلك الانتخابات المحلية والأوروبية التي جرت في يونيو الماضي. فقد ظهر منذ أسابيع قليلة معارض جديد لفيكتور اوربان، وتعاملت وسائل الإعلام العامة والخاصة المؤيدة لحزب “فيدز” حزب رئيس الوزراء معه من خلال انتقاده وتشويه سمعته، غير أن هذا لا يمنعه من الحصول على ما يقرب من 30% من الأصوات، اذ استطاع التجول في المجر اثناء فترات الحملات الانتخابية وعقد اجتماعات في مئات الأماكن.
خلف هذه الواجهة، لم يتوقف اوربان الذي يحكم البلاد بشكل متواصل منذ 2014 عن تقويض أسس الديمقراطية الفتية في المجر، اذ أكد في خطابه التاريخي الذي القاه في 2014″ ان الدولة الجديدة التي نقوم ببنائها هي دولة غير ليبرالية”، ويجب فهم الليبرالية هنا بمفهومها السياسي وليس الاقتصادي.
فإن المؤسسات السياسية والنظام القضائي ووسائل الإعلام والتعليم جميعها مسائل تشكل الآن تحديًا في المجر، فهناك استيلاء واسع النطاق للدولة.
لقد استغرق فيكتور اربان وقتًا طويلاً من اجل فرض سياساته، حيث استطاع في البداية تغير الدستور كما يحلو له منذ 2010، حيث يتمتع حزبه بأغلبية الثلثين في الجمعية الوطنية – الغرفة الوحيدة في البرلمان المجري- حيث أجرى ما لا يقل عن 10 مراجعات للدستور خلال عشر سنوات، وتمثلت أولى هذه الإجراءات في اصلاح المحكمة الدستورية المسؤولة عن مطابقة القوانين مع الدستور، اذ زاد عدد أعضاؤه من 11 إلى 15 عضو، مما سمح للبرلمان الذي يسيطر عليه حزب الفيدز بتعيين حلفائه في المحكمة على الفور.
عقب ذلك، استطاع اوربان بعد انقضاء عام على توليه السلطة احداث تغيرات جذرية على هذه المؤسسة حيث تم تعييين القضاة لفترة تستمر 9 سنوات، وتم الغاء الدعوى الحسبة التي تسمح لاي مواطن برفع دعوى أمام المحكمة. كما تم تعديل سير العمل بالمحكمة، اذ لا يكن بإمكانها على سبيل المثال الاحتكام بالقرارات المتخذة قبل 2012.
الاستقلال القضائي:
لقد اضطرت المجر بضغط من الاتحاد الأوروبي اجراء إصلاحات على المجلس الوطني للسلطة القضائية – الجهة المشرفة على النظام القضائي-، وهي خطوة إيجابية وهامة للغاية في الاتجاه الصحيح لاستعادة استقلال القضاء، ولا يزال من السابق لأوانه الحكم على مدى إيجابية هذه الإصلاحات قبل الممارسة العملية.
لقد أنشئ قانون جديد في المجر يُعرف “بحماية السيادة الوطنية”، وهي خطوة جديدة على طريق تقويض المسار الديمقراطي السليم في البلاد، حيث يقضي هذا القانون بأنشاء مكتب لحماية السيادة، يتمتع بصلاحيات واسعة لطلب البيانات الحساسة والمعلومات الخاصة لاي شخص كان دون رقابة أو لجوء قانوني وتعتبر قراراته غير قابلة للطعن، ويعتبر ذلك بمثابة مصدر قوة لنظام اوربان الذي يمكنه من اجراء تحقيقات مع أي شخص في مكان، وهو الأمر الذي يكفي لتخويف العديد من المعارضين.
وهو القانون الذي انتقاداته المفوضية الأوروبية بوصفة انتهاكًا لمبادئ الديمقراطية واحكام قانون الاتحاد الأوروبي.
اجرى المكتب بالفعل تحقيقات مع منظمة الشفافية الدولية وموقع المعلومات “Atlatszo.hu” بزعمه تلقيهم أموال من الخارج لصالح تنفيذ أنشطة تهدف التأثير على قرارات الناخبين.
من جهة أخرى، لقد أصبح الاستقلال الإعلامي مصدر قلق أخر، اذ بات الإعلام السمعي والبصري الأداة الدعائية لنقل رسائل الحكومة، وبذلك فقدت الهيئة التنظيمية لهذا القطاع استقلاليتها بالكامل.
وفيما يتعلق بالإعلام الخاص سواء كان وطني أو محلي فقد فرضت السلطة قبضتها على الكثير منه، فأكثر من نصف أجهزة الإعلام بمختلف وسائلها أصبحت محاذية للدولة.
لا يزال هناك وسائل إعلام معارضة قائمة بذاتها، غير ان تأثيرها محدود وجمهورها ضعيف في معظم المدن الريفية في المجر، حيث تتواجد القاعدة الانتخابية الأكبر لحزب فيدز.
ولم يخلو النظام التعليمي من سيطرة اوربان، حيث هاجمت الحكومة في 2017 جامعة أوروبا الوسطى الذي يمولها الملياردير الأمريكي المجري جورج سوروس العدو اللدود لفيكتور اوربان ومنعت المؤسسة من التدريس في المجر، وتم نقله جزئيًا إلى فيينا.
استغل حزب فيدز وسائل التواصل الاجتماعي للدفاع عن السياسات التي ينتهجها اوربان فيما يتعلق بانتقاد المساعدات الغربية لأوكرانيا، حيث اتهم الرؤساء الأوروبيين بالرغبة في اشعال الحرب النووية، واجبار النساء على انتاج الأسلحة في المصانع المجرية.
ينتاب الاوربيون قلقًا بالغًا في أن يستغل فيكتور اوربان فترة بقائه الطويلة في السلطة من اجل تعزيز مكانته الدولية-وهو امر ربما يكون غير وارد لدولة متواضعة الحجم والثقل مثل المجر-، وتجسد ذلك جليًا في التقاء اوربان في فترة قصيرة بثلاث من اللاعبين الدوليين الأكثر نفوذاً: بوتين وشين جين بينغ ودونالد ترامب طليعة هذا الشهر، حيث بدت المجر أكبر من وزنها الحقيقي على المستوى السياسي ونجح اوربان في اجتذاب الكثير من الانتباه من خلال مضاعفة أعماله الاستفزازية، وفي المقابل اخذ الاوربيون في تجميد بعض الأموال المخصصة للمجر، وذهبت بعض الدول الأعضاء والاغلبية العظمى في البرلمان الأوروبي إلى ابعد من ذلك، حيث تراودهم فكرة اللجوء إلى حرمان المجر من حق التصويت بالمجلس الأوروبي استنادًا بالمادة (7) من معاهدة الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة للقيم التأسيسية للاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي يتطلب الحصول على تأييد كافة الدول المنضوية في الاتحاد الأوروبي، باستثناء الدولة الخاضعة للعقوبات، وهو ما يبدو مستحيلاً في الوقت الحالي، أن لم يكن بسبب دعم الحكومة السلوفاكية لاوربان، فان الدول الأعضاء غير قادرة للتصدي للهجوم الدبلوماسي العالمي لرئيس الوزراء المجري.
فأن مصطلح ” الديمقراطية غير الليبرالية” يكاد أن يكون متناقضاً ، غير انه اصبح يجذب البلدان بشكل متزايد، فعندما اطلقه اوربان منذ 10 سنوات كان يبدو معارضًا للنظام العالمي السائد، غير ان الدولة التي أصبحت تتبنى اليوم في ازدياد.