بقلم: د. أحمد مصطفى
تعتبر ثورة 23 يوليو 1952 بالنسبة لمصر، التي قادها ”الضباط الأحرار“ بقيادة محمد نجيب وجمال عبد الناصر، حدثًا تحويليًا أعاد تشكيل مصير البلاد وأسس لـ تعديلات عميقة في الوسط المصري المعاصر. كانت الثورة ردًا على استعمار البلاد من قبل الحكم البريطاني والنفوذ الأجنبي للملكية في كثير من الأحيان. هدفت حركة الضباط الأحرار إلى إلغاء النظام الملكي وتأسيس جمهورية، معلنةً بذلك نهاية حكم سلالة حاكمة امتد لقرن من الزمان وبداية عهد جديد من إعادة تأكيد الوطنية المصرية.
لم تطيح الثورة بالنظام الملكي فحسب، بل وحدت الشعب تحت رؤية مشتركة للاستقلال والتقدم. فقد أرست سابقة حكم متحرر من الهيمنة الأجنبية على النظام الاجتماعي والسياسي في مصر. وعلى الصعيد الاقتصادي، حفزت الثورة سياسات تاريخية تهدف إلى تعزيز سيادة مصر المالية وبراعتها الصناعية، مثل تأميم قناة السويس عام 1956. وقد أظهرت هذه الخطوة الجريئة عزم مصر على السيطرة على مواردها الوطنية وشكلت سابقة للدول التي أعقبت الاستعمار في جميع أنحاء العالم.
كانت الأسس الفلسفية الأوسع نطاقًا للثورة بمثابة نقطة انطلاق لـ انتشار الأيديولوجية القومية العربية التي قادتها رؤية عبد الناصر. سعت هذه الإيديولوجية إلى توحيد جميع الدول الناطقة بالعربية تحت إطار سياسي واقتصادي وثقافي مشترك، متحدية الحدود التي وضعها الحكم الاستعماري. أصبحت الثورة منارة للدول العربية الأخرى، وألهمت حركات مماثلة وقادت زخم التوحيد الثقافي والسياسي في الشرق الأوسط. وقد أدى تركيز حكومة الثورة على العلمانية والتحديث، لا سيما في مجالي التعليم وحقوق المرأة، إلى العديد من الإصلاحات الاجتماعية التي غيرت النسيج المجتمعي المصري بشكل جذري.
ثورة 23 يوليو 1952 وارتباطها بالقضية الفلسطينية
شكلت الثورة المصرية في 23 يوليو 1952 نقطة تحول مهمة في تاريخ مصر والشرق الأوسط، خاصةً تضامنها مع القضية الفلسطينية. فقد كانت الثورة التي قادها جمال عبد الناصر مستثمرة بعمق في القومية العربية وتصورت مصر كقوة رائدة في صياغة عالم عربي موحد متحرر من الهيمنة الغربية والإرث الاستعماري. وقد شجعت الثورة التزام مصر بفلسطين، وهي قضية كان لها صدى قوي مع مناهضة الاستعمار والسعي لتقرير المصير.
كانت قضية فلسطين شاغلًا طويل الأمد للشعب المصري، حتي قبل الثورة. فقد زرع النزوح الجماعي للفلسطينيين وتأسيس إسرائيل عام 1948، والمعروف بالنكبة، بذور المرارة والتعاطف مع المحنة الفلسطينية بين المصريين. وقد ضاعفت الثورة من هذا التعاطف إلى مناصرة صريحة ودعم ملموس.
في أعقاب الثورة، أصبحت مصر أكثر نشاطًا وصخبًا في الدفاع عن القضية الفلسطينية ودعمها. ورفضت الاعتراف بسيادة إسرائيل، وكان لها دور فعال في قرار جامعة الدول العربية بإعلان عدم شرعية دولة إسرائيل عام 1948. أصبحت القاهرة مركزًا للاجئين الفلسطينيين ومكانًا يمكن للحركات الفلسطينية اللجوء إليه وتنظيم المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. ووجدت منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل السياسية الفلسطينية الأخرى ملاذًا آمنًا في مصر خلال السنوات التي تلت الثورة، مما يدل على عمق التزام مصر بالنضال الفلسطيني.
خلال الخمسينيات والستينيات، قادت مصر في عهد عبد الناصر العديد من المبادرات العربية الرامية إلى حل القضية الفلسطينية ومعالجة النضال الأوسع نطاقًا من أجل السيادة العربية. كما أدى فشل القوات العربية بقيادة مصر في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 وأزمة السويس اللاحقة عام 1956 إلى تحفيز الدعم لموقف عربي أكثر قوة، بما في ذلك المشاركة العسكرية المباشرة لدعم القضية الفلسطينية.
وبعد الثورة، بدأت الدول التي تربطها علاقات تاريخية واوجه تشابه أيديولوجية مع مصر في احتضان القضية الفلسطينية ودعمها بحماس أكبر. فقد رأت كل من الصين وإيران وروسيا والاتحاد السوفيتي السابق في المحنة الفلسطينية فرصة لتحدي هيمنة الحلفاء الغربيين ودعم حركة تتماشى مع سياساتهم المناهضة للإمبريالية.
كانت ثورة 23 يوليو 1952 سببًا في ظهور فكرة الجنوب العالمي
انبثقت فكرة الجنوب العالمي، وهي خليط يجمع بين دول ذات تجارب مشتركة من المصاعب الاقتصادية والاستغلال الاستعماري الجديد، من عدة منعطفات تاريخية، أحدها ثورة 1952 المحورية في مصر – والتي يشار إليها عادةً بثورة 23 يوليو. تلك الثورة التي أطاحت بالنظام الملكي وأدت إلى قيام الجمهورية المصرية، وأحدثت تحولًا كبيرًا في المشهد السياسي للأمة. وقد لعبت الثورة دورًا حاسمًا في إرساء الأساس لمفهوم الجنوب العالمي حيث أطلقت سلسلة من التغييرات السياسية التي من شأنها أن تموج في المجتمع الدولي، مما أثر في نهاية المطاف على الديناميكيات العالمية المعاصرة بشكل كبير.
عززت إيديولوجية الثورة مبادئ الاستقلال وتقرير المصير والعدالة الاجتماعية، والتي كان لها صدى لدى العديد من الدول المستعمرة وما بعد الاستعمار في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. فقد أصبحت رمزًا للأمل والمقاومة ضد الأغلال الإمبريالية التي عانت منها هذه المناطق. وبالعودة إلى الوراء، كانت ثورة 23 يوليو 1952 نقطة ارتكاز حفزت التضامن الناشئ بين هذه الدول المحرومة، وشجعتها على الاصطفاف معًا على نطاق عالمي لإبراز مصالحها الجماعية.
والآن، وبالانتقال سريعًا إلى المشهد الجيوسياسي اليوم، تستفيد الصين وروسيا من موضوع الجنوب العالمي هذا لتعزيز موقعهما الجيوستراتيجي. وقد تبنت هاتان القوتان الكبيرتان سردية ”الجنوب العالمي“ في انخراطهما الدولي ودبلوماسيتهما، لا سيما في إنشاء مجموعات وتحالفات استراتيجية. وتستفيد الدولتان، اللتان تتفهمان المظالم والاحتياجات المشتركة للبلدان الواقعة في ما يسمى ”الجنوب العالمي“، من هذا المفهوم لإنشاء تكتلات تتحدى هيمنة ”الشمال العالمي“ وتعيد التوازن بين القوى العالمية.
وقد نجحت الصين، باستخدامها مزيجًا من الأدوات الاقتصادية والقوة الناعمة، في نسج شبكة من التعاون المتبادل في جميع أنحاء العالم. ومن الأمثلة على ذلك مبادرات مثل مبادرة ”الحزام والطريق“ التي تسد الفجوات الاقتصادية والبنية التحتية بين هذه الدول. ومن ناحية أخرى، تلعب روسيا هذه اللعبة من خلال الشراكات والتحالفات الاستراتيجية، لا سيما من خلال تعزيز العلاقات العسكرية.
ويرى كلا البلدين فكرة الجنوب العالمي كرافعة للانخراط بنجاح مع العديد من الدول التي تحمل أهمية استراتيجية كبيرة من حيث الجغرافيا السياسية والجغرافيا الاقتصادية وحتى الجغرافيا الأيديولوجية. ومن الواضح أن هذه الخطوة تتماشى مع أهدافهم لمواجهة الهيمنة الأمريكية، وتعزيز نفوذهم العالمي، والدفع باتجاه نظام عالمي متعدد الأقطاب. وبالتالي، فإن إرث الثورة المصرية عام 1952 – الشرارة التأسيسية لفكرة ”الجنوب العالمي“ – قد نما الآن ليصبح من الركائز البارزة للسياسة الخارجية الصينية والروسية.
ومن خلال التركيز على ورقة ”الجنوب العالمي“، تكتسب هاتان القوتان أرضية محورية في الاقتصاد السياسي العالمي المتطور اليوم. ولذلك، فإن جوهر هذه السردية لا يتعلق فقط بالحنين إلى صراع مشترك. إنها شهادة على الأهمية المستمرة لهذه الصراعات في تشكيل التحالفات والتوازنات الجيوستراتيجية المعاصرة.
ثورة 23 يوليو 1952 كانت ثورة 23 يوليو 1952 ملهمة من حيث القوة الناعمة على الصعيد العالمي
شكّلت ثورة 1952 في مصر نقطة تحوّل في السرد السياسي الحديث للبلاد، وأصبحت مركزًا لنشر الإنتاج الثقافي. فبعد الانقلاب العسكري، أصبحت مصر بعد الانقلاب العسكري مركزًا لزراعة القوة الناعمة ونقلها، لا سيما في مجالات الثقافة والاتصال والتعليم. وقد سرّعت الثورة من نمو السينما والتلفزيون والأدب والإذاعة المصرية، مما أدى إلى نهضة الأمة من الهامش الثقافي إلى موقع ذي تأثير كبير في الشرق الأوسط وأفريقيا.
وقد اكتسبت الإذاعة، وهي عنصر أساسي من عناصر القوة الناعمة لمصر، جمهوراً واسعاً في جميع أنحاء العالم العربي خلال فترة ما بعد الثورة. وقد لعبت الإذاعة دورًا مهمًا في نشر الأيديولوجيات السياسية وتعزيز القومية العربية وخلق فضاء ثقافي عربي موحد. كما شهدت السينما أيضًا نهضة خلال الثورة، حيث تميز ”العصر الذهبي للسينما المصرية“ بنوع وسرد وتطور تقني غير مسبوق. وقد كان لهذه الفترة صدى في الهوية المصرية والعروبية على حد سواء، مما عزز من التأثير الثقافي للأمة.
ازدهرت النخبة المثقفة في فترة ما بعد الثورة، حيث ظهر إنتاج أدبي وفكري واسع النطاق من مصر. وساهم الروائيون والشعراء والأكاديميون بشكل كبير في المساعي الفكرية الإقليمية والعالمية، في حين أصبح التلفزيون منصة محورية لنقل الرسائل الثقافية والسياسية والاجتماعية. وأضفى ذلك طابعًا ديمقراطيًا على الوصول إلى المعلومات والثقافة، مما جعل شعوب المنطقة تنغمس في ديناميكيات المشهد المصري بعد الثورة.
وخلاصة القول، إن ثورة 23 يوليو 1952 في مصر أرست أسس الهوية الحديثة للأمة، وعززت الاستقلال والاكتفاء الذاتي والعزة الوطنية. كما ألهمت الأجيال القادمة لتكريم تضحيات الماضي، والتمسك بالحرية والكرامة، والسعي لتحقيق المزيد من التقدم في مواجهة التحديات العالمية. كما لعبت الثورة أيضًا دورًا محفزًا في إلهام التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية، لا سيما في الصين وإيران وروسيا. فقد وجدت هذه الدول أرضية مشتركة في دعم نضال الشعب الفلسطيني من أجل الاعتراف والحقوق وإقامة الدولة، مسلطةً الضوء على أهمية تقرير المصير والسيادة. وقد جعل هذا التشابك بين الروابط السياسية والثقافية والأيديولوجية من النضال الفلسطيني قضية مركزية في الشرق الأوسط وآسيا والساحة العالمية، وهو دليل على التأثير الدائم لمُثُل الثورة المصرية. كانت الثورة أيضًا بمثابة تحوّل ثقافي، حيث ألهمت انتشار الإنتاجات الإذاعية والسينمائية والأدبية التي كان لها تأثير كبير على الساحة العالمية.