رأىسلايدر

‘ميلان كونديرا’ راهب الرواية الذي رحل في خفة الوجود التي لا تُحتملْ

استمع الي المقالة

د. سلوى جودة تكتب

رحل ميلان كونديرا 1929 الكاتب تشيكي المولد الذي لفت الانتباه إلى الاضطهاد الثقافي والسياسي لأوروبا الوسطى في ظل الحكم الشيوعي، وكتب روايات كوميدية قاتمة مزجت التكهنات الفلسفية حول الفن الهابط، وانتقادات الشمولية ومشاهد تبدو كالحلم لعالم تختلط فيه الملائكة الضاحكة والعربدة العاطفية، بعد رحلة إبداعية طويلة امتدت لأكثر من خمسين عاما كتب خلالها تقريبا في كل الأجناس الأدبية، الشعر والمسرح والمقال الأدبي والسياسي والرواية ، ومثل كل الكتاب العظماء، ترك علامات لا تُمحى في خيال قُرائه حيث تناول تيمات الوجود والخيانة حتى صنفه البعض بكونِه كاتباً وجودياً، كما حصل كونديرا على جوائز عالمية لطريقة تصويره للموضوعاتِ والشخصياتِ التي تتأرجح بين الواقعِ الدنيوي للحياةِ اليومية وعالم الأفكار النبيل.

ولد كونديرا في 1 أبريل 1929 في برنو ، ودرس الموسيقى مع والده ، وينتمي إلى عائلة من النخبة المثقفة في الجمهورية التشيكوسلوفاكية المستقلة، يحكمها أول رئيس لها ، توماس مازاريك، ولقد أعطى والده، الملحن Leos Janacek ومعلم البيانو في معهد Brno Conservatory، ابنه تعليمًا موسيقيًا رفيع المستوى للغاية وهوعازف البيانو وعازف الموسيقى الشهير، قبل أن يتحول إلى الكتابة، ويصبح محاضر في الأدب العالمي في أكاديمية السينما في براغ في عام 1952.

كان كونديرا عضوًا متحمسًا للحزب الشيوعي في شبابه، وقد طُرد من الحزب مرتان ، مرة بعد الأنشطة المناهضة للشيوعية في عام 1950، ومرة أخرى في عام 1970 خلال حملة القمع التي أعقبت ربيع براغ عام 1968، والذي كان أحد أفراده، وكان من الأصوات الرائدة التى دعت علانية إلى حرية التعبير والمساواة في الحقوق للجميع، وعلى الرغم من رفضه للواقعية الاشتراكية المطلوبة من الكُتاب في تشيكوسلوفاكيا في الخمسينيات، فلقد نمت سمعته الأدبية مع نشر سلسلة من القصائد والمسرحيات، بما في ذلك قصيدة دعائية عن زعيم المقاومة المناهض للنازية الشيوعي يوليوس فوتشيك بعنوان Poslední máj (مايو الماضي) ، التي نُشرت في عام 1955، ولقد رفض لاحقًا هذه الأعمال المبكرة، قائلاً : “أعمل في العديد من الاتجاهات المختلفة – أبحث عن صوتي وأسلوبي ونفسي”، ولقد كان كونديرا شيوعيًا مثاليًا في شبابه ولكن سرعان ما أصيب بخيبة أمل من النظام الستاليني الذي استولى على السلطة في عام 1948، وأصبح معارض فكري رائد بروايته الأولى الساخرة ، “النكتة” (1967)، حول طالب تشيكي أدت محاولته السيئة للفكاهة إلى وضعه في معسكر للعمل بالسخرة، والرواية تتناول أصوات متعددة وتيمات تعالج مفهوم القدر والعقلانية حول نكتة يكتبها طالب يدعى تروتسكي لإثارة إعجاب فتاة ، والشخصية الرئيسية في العمل تتماهى مع كونديرا نفسه، فبعد أن اجتاحت الدبابات السوفيتية براغ في أغسطس 1968، مما وضع حدًا للذوبان الثقافي الذي لم يدم طويلًا والمعروف باسم ربيع براغ ، دخل كونديرا في دوامة الإضطهاد الفني حيث سُحبت كتبه من الأرفف، ومنعت مسرحياته من المسرح، ورُفض جواز سفره على الحدود، ووُضع كونديرا تحت مراقبة الدولة ، وتتبعته الشرطة، لكن ورد أنه لم يمس بسبب شهرته في الغرب، واختفت الرواية من المكتبات بعد وصول الدبابات الروسية إلى ساحة فاتسلاف، ووجد كونديرا نفسه مدرجًا على القائمةِ السوداءِ وطُرد من وظيفته التعليمية، ومن خلال عمله في الملاهي الليلية الصغيرة كعازف موسيقى الجاز، وجد الحرية الفنية المنشودة- فقد أدت استحالة النشر، بطريقة ما، إلى رفع عبء الرقابة عن كتفيه، وبعد أن فقد الأمل في إصلاح تشيكوسلوفاكيا ، انتقل إلى فرنسا في عام 1975، وفقد جنسيته التشيكية في عام 1979 وأصبح مواطنًا فرنسيًا في عام 1981.

كتب كونديرا في تشيكوسلوفاكيا سابقا ولاحقًا في فرنسا، حيث كان يعيش في منفى شبه محكم منذ عام 1975 واعتمد الفرنسية كلغته الأساسية، وقام بصياغة القصص والمسرحيات والمقالات والروايات الغامضة والموجزة، وصف ابن عازف البيانو رواياته بأنها سيمفونيات متعددة الألحان، وهي أعمال تمزج بين نغمات وأنماط مختلفة – حكاية ، مقال ، انعكاس سيرته الذاتية – لاستكشاف طبيعة الهوية أو الموت، وركز كونديرا بدرجة أقل على السياسة التشيكية في السنوات اللاحقة ، وحتى في الثمانينيات عبر عن خيبة أمله عندما وصفه النقاد الغربيون بالكاتب السياسي مثل ألكسندر سولجينتسين الروسي أو الألماني جونتر جراس، وقال لمجلة باريس إن موضوعه الرئيسي لم يكن السياسة أو النقد الاجتماعي بل ” الوجود البشري المعقد في العالم الحديث”، كما كان يعتقد أنه “لا يجوز أن يخصص جنساً أدبياً سياسياً لانتقاد النظام، هذا هو أسوأ ما يمكن أن يحدث، حيث يفقد الفن والأدب قيمتهما عندما يصبحان دعاية، إما شيوعية أو مناهضة للشيوعية، ” وأعرب لصحيفة لوموند الفرنسية اليومية في عام 1976 إن تسمية أعماله بالسياسة هو تبسيط مبالغ فيه ، وبالتالي إخفاء أهميتها الحقيقية لكن كتبه غالبًا ما تتخذ نبرة سياسية.

بينما تتناول رواية “الضحك والنسيان” الغزو المدعوم من الاتحاد السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1968، والرواية – تتكون من سبع قصص مترابطة – تعاملت مع مفارقات مثل قسوة الضحك والآلام عندما تتحول لمادة للسخرية ، و تشير إلى أن العالم يبدو أنه فقد قدرته على تذكر الماضي أو التفكير بجدية في المستقبل،هذا وقد أصبح كونديرا ذائع الصيت عالميًا بعد نشر روايته التالية “خفة الوجود التي لا تحتمل” 1984، والتي تم عرضها في فيلم عام 1988 والذي لقي استحسانًا كبيرًا، من بطولة دانيال داي لويس وجولييت بينوش ولينا أولين، ركزت الرواية على ربيع براغ وزواله المضطرب مع يأس التشيكيين من جراء قبضة الشمولية، التي تتراجع إلى حياة خاصة غامضة أو الهجرة إلى الغرب، ولقد حذرنا كونديرا من أن الحياة لا تسمح لنا بالمراجعات أو المحاولة الثانية، وقد يكون هذا “غير محتمل”، ولكنه قد يكون أيضًا محرّرًا.”

تتناول الرواية حياة الجراح التشيكي توماس وزوجته تيريزا أثناء استكشاف الآثار المترتبة على عالم يعيش فيه الشخص حياة واحدة فقط حيث “لا يمكنه أبدًا معرفة ما إذا كان رجلاً صالحًا أم رجلًا سيئًا ، إذا كان أحب أي شخص أو إذا كان لديه وهم الحب فقط”، وتتخلل مقاطع العرض المباشر عن توماس ، عشيقته التي ترتدي قبعة الرامي ، سابينا، وعشيقها المثالي، فرانز، رؤى سريالية لمقاعد حديقة ملونة تطفو فوق النهر، وأحلام بالانتحار، واستطرادات في وفاة ابن ستالين (يعقوب) وتناول طبيعة الكتابة نفسها: “الشخصيات لا تولد مثل الناس، من امرأة. لقد ولدوا من موقف أو جملة أو استعارة تحتوي باختصار على إمكانية بشرية أساسية”، كما أشار كونديرا، قاطعًا الحبكة الفنية للرواية ، إلى رؤيته لطبيعة الشخصيات في نصوصه الروائية: “الشخصيات في رواياتي هي إمكانياتي غير المحققة، لهذا السبب أنا مغرم بهم بنفس القدر ومذعور منهم بنفس القدر”، وأعرب كونديرا عن دهشته من شعبية هذه الرواية بالانسحاب من الحياة العامة، وقال إنه تناول “جرعة زائدة من نفسي” وسعى إلى “مرهم خارق يجعلني غير مرئي”، وعندما تمت دعوته في عام 2009 لحضور مؤتمر دولي حول عمله ، رفض برسالة ، واصفًا الحدث بأنه “حفلة مجاهدة/ اشتهاء الموتى.”

كتب كونديرا العديد من الأعمال النقدية المشهورة ، بما في ذلك “فن الرواية” (1986)، “الوصايا المغدورة” (1993) و”الستار” (2005) وعندما قام الروائي راسل بانكس، بمراجعة الكتاب الأخير لصحيفة التايمز، كتب يقول “لم يحدث منذ هنري جيمس، ربما ، بأن تناول كاتب روائي عملية الكتابة بهذه البصيرة والتمكن والمرجعية المعرفية والتلميح”، بالنسبة لكونديرا ، بدت الرواية وكأنها تقدم إمكانات كانت محجوبة في أشكال أخرى من الفن أو الكتابة، وسط صدمات تشيكوسلوفاكيا الشيوعية، وكتب في “الوصايا المغدورة” ، إنه يرى الرواية على أنها “نظرة ، حكمة ، موقف يستبعد منه الانتماء إلى أي سياسة أو أي دين أو أي أيديولوجية أو أي عقيدة أخلاقية أو أي جماعة ؛ ولا نستطيع أن نقدم تعريفا محددا لها فهي جنس أدبي، عنيد، غاضب ، لا يُنظر إليه على أنه تهرب أو سلبية ، ولكن هو فعل مقاومة وتحد وتمرد”، وقد بدا له أن الناس في جميع أنحاء العالم يفضلون الحكم بدلاً من الفهم، والإجابة بدلاً من السؤال، بحيث يصعب سماع صوت الرواية على حماقة اليقين البشري الصاخبة.

رحل ميلان كونديرا المبدع الذي لم يتخل عن إيمانه بفن وحقوق الرواية وشطح الخيال، وفي أحد الأحاديث الصحفية التي وصفها بالغريبة سأله المحاور: “هل أنت شيوعي يا سيد كونديرا؟” لا، أنا روائي. “هل أنت معارض؟” لا ، أنا روائي. “هل أنت على اليسار أم اليمين؟” ‘لا، أنا روائي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى