بقلم: فؤاد الصباغ
مما لا شك فيه يعتبر العقد الفارط كابوس حقيقي علي الأمة العربية من المحيط إلي الخليج بسبب إنفجار تلك الفقاعات الشعبية الثائرة و التي كانت بدورها تعاني من كبت و فقر مدقع طيلة سنين بحيث خرجت صارخة غاضبة علي ما ألت أوضاعهم عليها. فالسبب الرئيسي لعدم الإستقرار الإجتماعي والإقتصادي يعود بالأساس إلي تلك التركيبة المقيتة للتسيير الإداري الفاشل في تلك البلدان والتي مازالت إلي يومنا هذا تعاني من تأخير لعقود أو بالأحرى إلي قرون. فكلمة ديمقراطية تعني الحرية الفكرية والتشارك في الآراء وفي أخذ القرارات والتي هي من المنظور الفلسفي الباطن تخص علاقة السلطة بالدولة في مفهومها الواسع بحيث تتجاوز علاقات الأفراد في المجتمع. لكن في المقابل تلك الديمقراطية التي تتمتع بها بعض الدول الأوروبية لا تصلح بأي حال من الأحوال في صلب ثقافة شعوب تركيبتها الأساسية القوة الأمنية و الأنانية للإستحواذ علي السلطة عبر شتى الطرق و الأساليب, إما بالتجسس وإنتهاك المعطيات الشخصية وحرمة الفرد و تلفيق لبعض الأشخاص تهم التآمر علي أمن الدولة و غيرها من التهم أو بالسجن التعسفي والتعذيب و قضايا عدلية لا ترتقي بحق الإنسان في العيش أو أصلا بالتواجد علي كوكب الأرض.
إن الدور التهريجي و التخريبي الذي تقوم به قوات الأمن العمومي بالبلدان العربية و طرق تسييره الإداري يعد كارثيا بشتى المقاييس. ففي هذا الصدد تصبح علاقة الدولة بشعبها تصادم و لا تفاهم خاصة من جانب الدور المؤسساتي و إحترام حقوق الإنسان و علوية السلطة القضائية و تصبح مثل علاقة الراعي “السيد” و الرعية “العبيد” و قانون الغاب و البقاء للأقوى. فعلي سبيل المثال تمر دولة السودان هذه الأيام بمأساة إنسانية حقيقية نتيجة الصراعات الداخلية علي السلطة, إذ من جهة سيطرة قوات التدخل السريع علي القصر الرئاسي و إقتحام قوات الجيش المدني علي مؤسسات الدولة من جهة أخري. فتلك الأحداث أضحت اليوم تلعب دور تخريبي لمكاسب و ثروة البلاد و تشرد العباد من خلال تلك الأنانية الأمنية للإستلاء علي السلطة بالقوة و التي ستؤدي بالنهاية إلي تقسيم دولة السودان مجددا بعدما تم تقسيمها سابقا من خلال انفصال الجنوب عنها. إن دولة السودان تعتبر اليوم في مفترق طرق نحو المجهول و نحو المزيد من التدمير و التأخير و لا تنمية محلية تذكر في الأفق و المستفيد الرئيسي في هذا الخضم تلك الدول الإستعمارية السابقة التي مازالت تنهب في ثروات تلك الشعوب الفقيرة بطبعها و تمتص في دمائها و أموالها و طاقاتها.
التشرذم العربي
إن الدور الدبلوماسي الذي تلعبه جامعة الدول العربية منذ تأسيسها إلي غاية الآن يقتصر فقط علي مجرد مسكنات و مواساة بالألفاظ لا أكثر و لا أقل من خلال الشجب و الندب و الإستنكار بشدة و البكاء علي أمة تنهار يوما بعد يوم. فالتركيبة الثقافية داخل تلك البلدان العربية تحولت من السيئ إلي الأسوء عبر مرور السنين و السبب يعود بالأساس إلي الدور التخريبي الإستعماري و خاصة الدور السلبي لدولة فرنسا الإستعمارية في جزء كبير منها داخل تلك الدول. إذ إن التخلي عن الهوية الوطنية و الإنتماء العربي المشترك و ذلك من خلال التمسك بلباس الثقافة و الهوية الغربية و خاصة اللغة الإستعمارية كانت نتائجه وخيمة علي الأمة العربية. إن ذلك الضعف و الوهن العربي يعود سببه إلي إتباع خطوات الشيطان الإستعماري الذي فرض لغته علي تلك الشعوب و حولها إلي خدم و عبيد لا سيادة لها في إتخاذ قرار موحد يصون حقوقها و يجعلها مستقلة عن تلك الإملاءات الغربية المجحفة. إذ لتقييم البيت العربي الداخلي علينا مراجعة أنفسنا و علاقاتنا بذلك المستعمر الذي فرض علينا لغته و ثقافته و جعلنا شعوب إستهلاكية لمنتجاته فقط. أما الأدهى و الأمر من كل ذلك سلب لنا ثرواتنا الطبيعية بالمجان و بأرخص الأثمان و مازال إلي غاية الآن يعبث و يعبث بأمن البلاد و قوت العباد و يضرب بعرض الحائط سيادة تلك الدول العربية التي سلب منها إرادة الحياة في تحديد مصيرها. فقوة الأمة العربية يكمن في وحدتها و في تكاملها و تعاونها الإقتصادي و السياسي و في تمسكها بهويتها و ثقافتها و بأن يكون لها صوت مسموع بين الأمم. فالتدخلات الأجنبية في تلك الدول العربية سيزيد من الطين بله و سيكرس مفهوم الإنفصال و تقسيم الشعوب إلي قبائل و أقاليم مما يجعل من ذلك التشرذم العربي يتسع مستقبليا.
الديمقراطية التخريبية المستوردة
إن الديمقراطية التي تم الترويج لها بعد ما يسمي بالربيع العربي من المنظور الغربي و الذي إتضح مؤخرا أنه ربيع عبري بأتم معني الكلمة و خاصة من خلال ما يحدث اليوم بدولة السودان. فالمثقف عليه أن يسأل نفسه من المستفيد من كل هذا التخريب و العبث بالأمة العربية و بمكاسبها الوطنية و من الذي يكن لها كره باطني و نقمة ليجعها مجرد دول إستهلاكية لا تتقدم صناعيا و لا ثقافيا. الإجابة ببساطة تلك الدول الإستعمارية التي سلبتها سابقا و خلقت بها إدارة أمنية و سياسية فاسدة مثلها و التي مازالت تسعي بشتى الطرق لزرع الإنقسام و الفوضي الخلاقة التي نظروا لها سابقا لتجعل من دولة إسرائيل المتفوقة الوحيدة بالمنطقة. إن الديمقراطية التخريبية المستوردة من الغرب لا تصلح للأمة العربية حتي يتم إصلاح البيت العربي الداخلي أولا و حتي تكون لتلك الدول لها صوت مسموع و قرار ردعي دوليا ثم نحكى عن تأسيس و بناء ديمقراطية تكون محلية و ليست مستوردة عبر فرض إملاءات و شروط و فرض أشخاص متورطين بعمالة مع جهات مشبوهة و يدعون الوطنية من أجل المشاركة في الحياة السياسية. فالصراعات العربية الداخلية هي بالأساس منتوج غربي إما عبر إنقلابات القوى الأمنية أو عبر صناديق إقتراعات وهمية و يتم تسييرها من طرف أجهزة مخابرات غربية تسعي لزرع الفرقة و عدم الإستقرار داخل الأمة العربية تحت شعار “نشر الديمقراطية و الحفاظ علي حقوق الإنسان”.
إنهيار الأمة العربية
إن الإنهيار الداخلي للأمة العربية يعود إلي الدور الإداري و التسيير السياسي لتلك البلدان و التي إنجرفت و للأسف نحو خطوات الشيطان الإستعماري ثقافيا, إقتصاديا و سياسيا. كما أن التكوين الداخلي لقوات أمنها تحتاج لمراجعة جذرية و هيكلية نظرا لضعف التكوين العلمي و الثقافي لتك الوحدات و التي تفتقر لدروس نفسية و لمستوى دراسي راقي حتي تكون لها علاقة مع المواطن العربي راقية و في كنف الإحترام المتبادل و لا تنجرف نحو الصدام معه و إلي عدم الإستقرار و أيضا لا تكون مجرد أدوات سياسية. فذلك الإنهيار بدأ يتشكل في صلب مؤسسات تلك الدول إداريا منذ سنين طويلة و تراكمت معه الأحقاد حتي أصبحت تلك المؤسسات الأمنية عدوة لشعوبها عبر قمعها بالقوة و إنتهاك حقوقها لتخدم فقط طبقات سياسية معينة. فاليوم تلك الأحداث التي تدور بدولة السودان تعتبر جزء من هذا الإنهيار المؤسساتي الأمني الداخلي خاصة تركيبتها الإدارية في الحفاظ علي أمن البلاد و تسيير شؤون العباد. فذلك الإنهيار المؤسساتي أخذ طابع علاقة الفرد بالدولة من جهة و علاقة الدولة بالسلطة من جهة أخري. فإذا كان الحقد و النقمة في نفوس بعض السياسيين الفاسدين اللذين صخروا عصا القوات الأمنية لردع شعوبها من أجل الإستحواذ علي ثروات الشعب و البقاء في السلطة أطول وقت ممكن فلا تتقدم تلك الدول العربية إلي أبد الأبدين و لا تبني الأوطان و لا تصان حقوق الإنسان بتلك الوضعية الرجعية.
السودان و عدم الإستقرار الإقتصادي و الإجتماعي
يعاني شعب السودان هذه الأيام من أزمة سياسية نتيجتها صراع داخلي بين قوات الأمن تحت مسمي وحدات التدخل السريع و قوات الجيش الوطني. فالنتيجة كانت الضحية تلك الطبقات الفقيرة و المسكينة التي تعاني من ظروف قاسية في معيشتها اليومية من غلاء للأسعار و فقدان للمواد الأساسية. فذلك الصراع ستكون نتائجه وخيمة علي المستوى الإقتصادي بحيث ستكبح مؤشرات التنمية المحلية و ستنخفض معه نسبة النمو الإقتصادي و ترتفع نسبة البطالة. إن عدم الإستقرار الإقتصادي سيتحول بدوره إلي عدم إستقرار إجتماعي ستكون له تأثيرات سلبية طويلة الأمد علي الأوضاع المعيشية. فإنفجار تلك الجحافل الشعبية السودانية التي أطاحت بحكم البشير ستعود مجددا و ممكن ستدخل تلك الدولة مجددا في فوضى عارمة رغم أنها تمتلك مقدرات وطنية تجعلها أغني دولة عربية خاصة من الجانب الزراعي و تجعل شعبها في رفاهية مطلقة.