بقلم: أحمد سلام
خبير في الشأن الصيني
يبدو أن الأحداث والتطورات الساخنة التي شهدتها العديد من دول العالم وعلى وجه التحديد منطقة الشرق الأوسط خلال الربع الأول من عام 2023، تشي بأن هذا العام سوف يحمل في جعبته الكثير من المفاجأت السياسية والاقتصادية والدبلوماسية التي ستؤثر بشكل واضح على العالم والمنطقة ،خاصة بعد أن حمل لنا عام 2022 أحداثاً مفصلية، مثل الحرب الروسية / الأوكرانية (فبراير)، جولة الرئيس الأمريكي جو بايدن في الشرق الأوسط (يوليو)، زيارة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي – آنذاك – إلى تايوان ومحاولة الولايات المتحدة إشعال فتيل الحرب مع الصين (أغسطس)، المظاهرات والاحتجاجات في إيران (سبتمبر)، علاوة على زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى السعودية، في ديسمبر 2022، والتي شهدت عقد ثلاث قمم، وهي القمة العربية الصينية والقمة الصينية الخليجية والقمة الصينية السعودية، بجانب لقاءات متعددة على المستوى الثنائى. وقد مثّلت زيارة شي رجل الصين القوي – الذي أعيد انتخابه لفترة رئاسية ثالثة في مارس 2023 – نقطة قوية وفاصلة في تاريخ العلاقات العربية الصينية، وأعتقد أن كلا الجانبين العربي والصيني سيسعيان للاستفادة من تطور العلاقات الوثيقة، خاصة في إطار مبادرة “الحزام والطريق” التى يُصادف هذا العام مرور عشر سنوات على إعلانها من جانب الرئيس شي في 2013، والتى تتشارك فيها حتي الان 150 دولة .
وفي خطوة بدت مفاجئة للكثيرين، فقد جاء الإعلان عن بيان إعادة العلاقات السعودية /الإيرانية بتعاون ومبادرة صينية بعد سويعات قليلة من بداية الولاية الثالثة للرئيس شى، في دلالة واضحة على أن الصين بدبلوماسيتها الجديدة تمتلك الان ماتقدمه في عدد من القضايا الدولية والتأكيد علي أنها حريصة على هذا التوجه لدعم وجودها في منطقة الشرق الأوسط وعلى وجه الخصوص المنطقة العربية، وتأكيداً أيضاً على أن الصين الجديدة تسعى بكل جد على تطوير علاقاتها مع دول المنطقة، ووفقاً للمبادئ الصينية التى وردت في وثيقة الصين تجاه الدول العربية والصادرة في يناير عام 2016، والتى ورد فيها ((.. تلتزم الصين بتطوير علاقاتها مع الدول العربية على أساس المبادئ الخمسة المتمثلة في الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل في الشئون الداخلية، والمساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي. وتقف إلى جانب عملية السلام في الشرق الأوسط وتدعم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة الكاملة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وتدعم الجهود المبذولة من جامعة الدول العربية ودولها الأعضاء في هذا السبيل. تتمسك بحل القضايا الساخنة في المنطقة بطرق سياسية وتدعم إقامة منطقة خالية من الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، كما تؤيد الجهود الحثيثة التي تبذلها الدول العربية من أجل تعزيز التضامن ووضع حد لانتشار الأفكار المتطرفة ومكافحة الإرهاب وغيرها. وتحترم الصين خيار شعوب الدول العربية، وتدعم جهود الدول العربية في استكشاف الطرق التنموية التي تتناسب مع خصوصياتها الوطنية بإرادتها المستقلة، مع الأمل في زيادة تبادل الخبرة مع الدول العربية بشأن حكم وإدارة البلاد)).
وبالعودة إلى ملف عودة العلاقات بين الرياض وطهران، نجد أن بكين قد بذلت مجهودا دبلوماسيا كبيرا عبر جلسات سرية ساهمت فيها بعض الدول العربية، خاصة وأن الصين تربطها بإيران علاقات جيدة، فقد استقبلت في فبراير الماضي الرئيس الإيراني ببكين، كما ترتبط الدولتان باتفاقية شراكة استراتيجية لمدة 25 عاماً تم توقيعها في مارس 2021.
ويأتي هذا التعاون بين الصين ودول المنطقة بالرغم من التحفظ الأمريكي، خاصة وأن التقارب الصيني – العربي قد لا يروق للمزاج الأمريكي، حيث ترى واشنطن أنها الحارس للمنطقة وتسعى دائماً إلى تخويف الدول من استخدام التكنولوجيا الصينية ومن التعاون والاستثمار مع الشركات الصينية ذات الخبرة، والتى أصبح لها دور كبير في العديد من المجالات مثل البنية التحتية والاتصالات وعلوم الفضاء والقطارات فائقة السرعة وصناعة السيارات وغيرها، باعتبار أن أي تعاون مع الصين يُعد تهديداً للأمن القومي الأمريكي.
ومما لا شك فيه، فإن واشنطن سوف تسعى للتصدي للتعاون المتنامي مع بكين، ومن المرجح أن تختلق الولايات المتحدة بعض المشكلات، مثل القيام بإثارة بعض القلاقل ببلدان المنطقة ومحاولة نشر فزاعة الخوف وفوبيا إيران، كما أنها ربما تسعى إلى التحرش بالصين عن طريق التدخل في شئونها الداخلية والعمل على تشجيع وإثارة النزعة الانفصالية لتايوان، وإثارة المشاكل على شاكلة موضوع إسقاط المنطاد ، رغم ما صرحت به الخارجية الصينية من أن هذا المنطاد خاص بعمليات الطقس وغيرها من الأساليب التى أصبحت معروفة للجميع.
ولعل من المناسب في هذا التوقيت أن نتذكر الغزو الأمريكي للعراق ، والذى مر عليه في 20 مارس الجاري عشرون عاماً كانت خراباً ووبالاً ليس فقط على العراق وشعبه، بل وعلى المنطقة العربية أيضاً، وكان ذلك بحجة أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل ويشكل تهديدا للسلام الدولي، ورغم أن معظم الدول رفضت دعم العمل العسكري، الا أن الولايات المتحدة انتهكت مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة والقواعد الأساسية للعلاقات الدولية وأطلقت العنان للحرب، وخلقت الانقسامات الداخلية في المجتمع العراقي بشكل مصطنع وواضح، وقامت بشن الحرب دون وجود أدلة ولم يثبت صحة ما ذكرته المخابرات الامريكية حتى الآن.
والحقيقة التى لا مفر منها هي أن واشنطن فقدت الكثير من مصداقيتها في هذه الحرب، وقد أشارت العديد من القراءات التحليلية الأمريكية إلى أن الحرب الأمريكية على العراق – والتى خسرت بسببها واشنطن وبغداد الكثير والكثير من الأرواح والأموال – كانت مدفوعة من قبل لوبي أمريكي مؤيد لإسرائيل، وأشار البعض إلى أن إدارة الرئيس بوش الابن شنت هذه الحرب بسبب حاجتها للنفط العربي، أو بغرض “تصدير الديمقراطية” للمنطقة، وأيضاً بحجة منع التنظيمات الإرهابية، خاصة “تنظيم القاعدة”، من الحصول على أسلحة الدمار الشامل “المزعومة” من جمهورية العراق، وبعد عشرين عاماً لم يثبت إطلاقاً امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل. ومن الغريب أنه بعد عشرين عاماً من الحرب على العراق وما لحق هذا البلد من خراب شامل، نجد واشنطن تدعو إلى عقد القمة الثانية للديمقراطية في نهاية مارس الجاري بغرض تصدير ونقل الديمقراطيات لدول العالم.
وفي حقيقة الأمر، فإن ما يحتاجه العالم اليوم في ظل الكوارث المفتعلة أو الطبيعية ليس قمة من أجل نقل قوالب الديمقراطية، بل يحتاج إلى قمم ومؤتمرات فعالة تركز على السلام والعمل علي ايجاد حلول للعديد من الأزمات وإتخاذ إجراءات حقيقية لحل المشكلات والتحديات العالمية في كافة المجالات سواء الاقتصادية أو البيئية أو غيرها.
وبجانب ما ترتب على سياسات واشنطن في المنطقة من إخفاقات وكوارث لدول المنطقة وشعوبها، كما هو الحال في النموذج العراقي، فإن واشنطن على ما يبدو لم تستفد من الدرس، فها هي تجد نفسها في مأزق جديد، بسبب الأحداث الساخنة التي يشهدها العالم جراء الحرب الروسية / الأوكرانية، مما أدى إلى سعي الإدارة الأمريكية لاستخدام أدوات الضغط على السعودية من أجل التراجع عن قرارها الخاص بإنتاج النفط، وتلويح واشنطن باستخدام العديد من أوراق الضغط، ومنها إعادة النظر في العلاقات مع السعودية.
على الجانب المقابل، تتبنى الصين سياسة خارجية جديدة ترتكز على إعلاء قيم السلام ونبذ الحروب. فطرحت المبادرة الصينية لحل الأزمة الروسية / الأوكرانية المكونة من 12 بنداً، وزار الرئيس الصيني روسيا، في مسعى من جانبه لحلحلة الأمر ومحاولة فك هذه الأزمة، ولعل ما يميز الصين ويجعلها مؤهلة لأداء دور الوسيط بين روسيا وأوكرانيا، هو موقف بكين المحايد من هذه الحرب، الناتج من مبادئ وثوابت السياسة الخارجية للصين، فمنذ البداية لم تؤيد الصين الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها في الوقت ذاته أعلنت تفهمها للمخاوف الروسية التي تتعلق بأمنها القومي.
خلاصة القول، إن عام 2023 يشهد صيناً جديدة.. انطلقت لأداء دور (صانع وراعي السلام الدولي)، وكانت البداية في المبادرة بين إيران والسعودية، والآن مبادرة حل الأزمة الروسية الأوكرانية، وهي مبادرات تعكس التوجه السلمي والتعاوني للصين، والذي يجب أن يُقابل بالمثل من جانب الولايات المتحدة، لكي تجد طريقة للتعايش مع أقطاب أخرى مثل الصين. والمنطقة تنتظر من الصين الجديدة العمل علي المساهمة في ايجاد حلول للعديد من القضايا الهامة في المنطقة مثل القضية الفلسطينية وقضية سد اثيوبيا .. ومن هنا لابد من طرح سؤال هام ، من المتوقع أن تظهر إجابته في غضون العقدين القادمين، ألا وهو:
هل يصبح “السلام.. صنع في الصين” شعار بكين القادم؟