بقلم: د.سلوى جودة
يرتبط اسم الأديب يوسف السباعي (1917-1978) في ذاكرتي بصباح يوم 18 فبراير 1978 عندما صدرت صرخة مكتومة من جدتي وهي تتابع الأخبار بالراديو الذي أذاع خبر اغتياله أثناء حضوره مؤتمراً بقبرص، وعشت متأثره بمشاعر الحزن والغضب التي سادت من جراء الحادث، وظل الأسم وهذه الحالة بضميري حتى بدأت رحلتي المعرفية بعد الحادث بسنوات، وطلبت من أسرتي شراء رواياته والإطلاع على عالمه الذي حصره النقاد في الرومانسية حتى أعتبروه فارسها، هذا وقد أستثمرت السنيما إقبال جمهور القراء على أعماله فتحولت الروايات إلى أفلام،وكنت أحصي اسماء الأفلام التي يظهر اسمه عليها، حيث ظهر على أفيشات السنيما أكثر من ثلاثة وثلاثون مرة، و فازت عدة أفلام من أعماله في إختيار أهم مئة فيلم في تاريخ السنيما منها “الناصر صلاح الدين” و”رد قلبي” و”السقا مات” وإسلاماه و”بين الأطلال”، وتعددت الرؤى النقدية لأعماله بين المؤيد والمعارض لمحاولته تشريح المجتمع في تلك الفترة والكشف عن الفجوات التي تحتاج إلى دعم وترميم وإعادة نظر وربما اعتبار، وكانت المرأة وقضاياها ومخاوفها هي البوتقة التي ساعدته في هذا الكشف، فالظروف التاريخية والإجتماعية التي مر بها المجتمع المصري في حقبة الخمسينات والستينات جعلت حركة المرأة وتحررها مواكبة لحركة الوطن وانفتاحة على الآخر وعلى الحريات العامة والخاصة.
واستطاع يوسف السباعي أن “يكتب المرأة” على حسب تعبير الناشطة النسوية الفرنسية إيلين سيكسو (1937) والتي طالبت الكاتبات أن يتناولن قضايا المرأة ومشاعرها وماتتعرض له من المجتمع الذي يهمشها ولايستمع إليها، المجتمع الذي كان إنصاته أفلاطوني النزعة والذي رأى أن الإنسانية في عرف الرجل شئ مذكر، فهو يعتبر نفسه ممثلاً للجنس الإنساني الحقيقي أما المرأة فهي تمثل الجنس الآخر أي الأدنى فيقول صراحة أن الأنثى “هي أنثى بسبب نقص الصفات”، لكن السباعي “كتب المرأة” التي يعرفها ويقدرها و يقدسها أيضا فهو يتفهم دوافعها ومعاناتها في مجتمع أساء تصنيفها ونفيها والجحود لها ولدورها في رومانسية واقعية مريرة أصابتها ورَجُلها معاّ، وكتب السباعي مجموعات قصصية تناولت شخصيات نسائية ورجالية تجمعهم نفس الصفات، فلقد تعرضا لنفس الخبرات المجتمعية ونفس المعاناة التي شكلت وعيهما وإدراكهما، وفي مقدمة مجموعته القصصية “ست نساء وست رجال” كتب مايدلل على رفضه التصنيف الجائر لأدوار مجتمعية تصلح للرجل وأخرى للمرأة وأنه لايستطيع التوقف عن الكتابة عن المرأة أو إقصائها: “إن كتبت عن ستة نساء فأنا أكتب ضمنا عن ستة رجال، وان كتبت عن ستة رجال فلا أظن أنني أمنع ستة نساء من التسلل وحشر أنفسهن بين السطور”، فكيف للأدب أن يتجاهلها وهي حاضرة في المعاني، وهي الملهمة، و هي قلب الأحداث ومحورها، وقلب كاتبها لامحالة، وهي الكيان الذي يشغل الحيز الأهم في رؤيته العامة للحياة وللسعادة، فالسعادة في محورها أنثى وفي هذا يقول السباعي في مقدمة مجموعته القصصية “أثنتا عشرة امرأة” 1948 :”فلا أظن أن الحياة يمكن أن تصبح حياة ..وأن الرجل يمكنه أن يكون لديه أمل أو مطمع.. لو خلت الدنيا من النساء..وليس هناك من ينكر أنه ما من مطمح للرجل في هذه الحياة ،إلا كانت الرغبة الدافعة إليه هي إرضاء المرأة..مهما حاول الرجل انكار ذلك”، هذا وقد شجعت الدكتورة عائشة عبدالرحمن-ابنة الشاطئ (1913-1998)-السباعي على الكتابة عن النساء حيث كتبت إليه رسالة خاصة بعد أن قرأت “إني راحلة”1950 تقول “أنها كانت تنتقد فيما سابق كتابتي عن النساء، ولكن بعد قراءتها لهذا الكتاب وجدت أنني أستطيع أن أكتب عنهن كما أشاء” وفي موضع أخر أشار ثانية إلى الدكتورة ابنة الشاطئ في نقدها له كتابته عن المرأة في مجموعته القصصية ” اثنتا عشرة امرأة” عام ١٩٤٨ ووصفه مشاعرها وأحاسيسها كما لو كان يعيش بباطنها ويشعر بأحاسيسها وأنه كان من الأفضل له الكتابة عن الرجال لكونه رجل مثلهم”، مع أن الكثير ممن أثار قضايا المرأة في الغرب والشرق كانوا رجال فهناك هنريك إبسن وبرنارد شو ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومئات من أصحاب الياقات البيضاء من الرجال حول العالم الذين فتحوا الأبواب للحركات النسوية وكانوا مناهضين لمحاولات التخلي عنها وقمعها وتاريخ الحركة النسوية حول العالم يشهد بذلك.
وفي مجموعته القصصية ” اثنتا عشرة امرأة” 1948 التي ترجمت إلى عدة لغات ولقت رواجاً في الأوساط الأدبية والثقافية، قدم السباعي اثنى عشرة قصة لم تكن البطولة فيها للرجل أو المرأة ولم يكن لأحدهم السطوة والقوة على الآخر فهما معاً ابناء حقبة تاريخية وأعراف وقوانين صارمة وتحديات دفعتهما إلى نهايات متوقعة، فهذه القصص بطلاتها اثنتا عشرة امرأة مختلفون في الشخصيات والطباع فمنهن الخاسرة والمحرومة والصابرة والشريفة والثكلى والنائمة ، لينكشف عن هذه القصص الكثير من عورات المجتمع وخبايا المرأة وآلامها، والنماذج التي طرحتها المجموعة تنفي أي صفة مجتمعية متوارثة عبر الأساطير والخرافات عن المرأة كغاوية أو مصدر للشرور أوحتى كونها ملاك رحيم، فهي نتاج ثقافة شكلت وعيها ومشاعرها ونجاحاتها وربما أخفقت في حمايتها واحترامها ودعمها وأوقعتها في براثن الشر والرذيلة والحزن وهو في ذلك يدعم النظرة البوفارية -نسبة إلى سيمون دى بفوار (1908-1986) أحد الرموز الهامة في حركة تحرير المرأة- ” الأنثى تولد إنساناً ثم تصنع/تصبح إمرأة” في تأكيد على الدور المجتمعي في الصياغة والصناعة، فالتحليق أو الخضوع للمرأة قرار مجتمعي وليس بنية بيولوجية أو فسيولوجية تسجنها في أدوارٍ هامشية لاتحقق فيها ذاتها ولا تستمتع بوجودها ولا تساهم بعد ذلك في حركة التاريخ.
وعلى الرغم من سيطرة الحس الرومانسي في أعمال السباعي إلا أن هذه المجموعة بها ملامح الرومانسية الواقعية من حيث جمعها بين المذهبين، على الرغم أن المدرسة الواقعية جاءت ردًا على المدرسة الرومانسية إلا أن هذا الجمع لايمكن إغفاله في أعمال روائية لكتاب عالميين منهم على سبيل المثال لا الحصر رواية “المنبع” لآين راند (1905-1982) ، و “مدام بوفاري” لجوستاف فلوبير (1821-1880) ، و “وداعا للسلاح” لإرنست هيمنجواي (1899-1961)، وهذه المدرسة في الحقيقة تمثل قناعاتي الإنسانية فهي تجعل الحياة أكثر إثارة للإهتمام والدهشة والسؤال والتحقق مما هي عليه في الواقع، والأهم من ذلك أكثر مودةً و إنسانيةً، وفي القصة الأولى في “اثنتا عشرة امرأة” بعنوان “امرأة صابرة” يصف الراوي نموذجاً لتضحيات المرأة في سبيل أسرتها وكأن التضحية لابد وأن تكون “أنثى”، وماذا لو طبقت القوانين المجتمعية هذه على الرجل أيضا..!! وفي “امرأة نائمة” ينعتها كل من حولها بالجنون ،وهي لاتفعل شئ سوى أنها تنعس وتحلم، فحياة خاصة ولو في الغيب غير مسموح لها بها، السؤال لماذا تهرب إلى الغيب ؟ و من حرمها التفاعل الحقيقي والتحقق في الحياة؟، وفي “امرأة خاسرة” يقدم نموذج الفنانة التي بدأت حياتها خادمة وأحبت أحد أبناء سادتها فاستحقت الطرد، وبعدما خاضت غمار الحياة وأصبحت فنانة مشهورة وميسورة، قابلت سيدها الذي أحبته وتزوجته، ولكنه غادر الحياة بعد زواجه منها بأيام وتركها هذه المرة “لا خادمة ذليلة بل نفس بالية، وروحا ذارية ، وامرأة مخذولة خاسرة” مرصودة أنت ياسيدتي بالوحدة، وفي “امرأة محرومة” تعيش البطلة في بيتٍ على أطراف المدينة مسكونٍ بالأشباح، وقد استئنست بهم وانعزلت عن العالم في صحبة أب وابنه من الأشباح، ترى من خذلها وحرمها فحاولت أن تعوض نفسها عن ذلك الحرمان الذي أصابتها به الحياة، وحتى لو اتهموها بالجنون فهي راضية:”لوكنت حقاً مجنونه كما تقولون….فأنعم بالجنون وطوبى للمجانين”، وفي “امرأة ..ورماد” البطلة هي “الخياطة” التي ضحت بنفسها من أجل تربية أخواتها بعد فقدان أبويها، وقد تخلى عنها حبيبها ،ومازالت تحتفظ بابتسامتها ومازالت تخيط ثوب زفافها وربما ترتق ثوب العالم والثقوب التي احدثها في روحها، فهي ليست رماداً كما يحدثنا عنها الراوي ” هي كالجمرة التي يكسوها الرماد ومازال جوفها مضيئا مشتعلاً ،ومازال النور يضئ نفسها، والحرارة تدفئ قلبها” وبعد سنوات طويلة يظهر الحبيب وقد أصبح كهلاً وحيداً حزيناً ويصف نفسه بأنه الرماد: “الرماد هنا..الرماد هو ذلك الجسد الذي لم يستطع التضحية ..ومل الإنتظار..فمل حبيبة العمر وأقبل على أخرى..ماتت بعد فترة من الزمان..ورأى نفسه يسير بعد ذلك وحيداً..كالنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى..”، ويعلق الراوي :” أجل لقد كان هو الرماد” وفي “امرأة وظلال” يقدم الراوي سيرة امرأة تعيش على ذكريات حبها الأول الذي غادرها لغيرها، وعندما عاد إليها رفضت إلا أن تكمل ماتبقى من حياتها في عالمها فأمثالها كما يقول الراوي “هواة ظلال، وعشاق ذكريات ،فهم يعيشون دائما فيما مضى، لايكادون يحسون بحاضرهم إلا إذا طوته الأيام فأصبح ماضياً، ولايشعرون بالمتعة إلا بعد أن تصبح ذكرى…” وتتوالى الحكايات التي ترصد أنواع من المعاناة البشرية أصابت الرجل والمرأة فلم يكن هذا العالم دائماّ للرجل ،كما يعتقد السباعي، ولم تكن أي من الأسباب التي قدمت لتبرير معاناة المرأة مناسباً.