أدب الحرب وتيار الوعي في رواية “شقي وسعيد” لـ”حسين عبد الرحيم”
د.سلوى جودة
عندما تَتضح الحبكة الفنية للعملِ السردي، يَقوم العقلُ تلقائياً بربطهِ بالخبراتِ المعرفية والقرائية السابقة، أو يضعه في سياق تُراثه الممتد منذ كتابةِ العمل الأول الذي يَنتمي إلى نفسِ الجنس أو نفس التيمة، كما يَستوقفني العنوان وما يحمله من دلالاتٍ فهو المدخل الأول لبوابات الدهشة والسؤال، وفي “رواية شقي وسعيد” لحسين عبد الرحيم فإن العنوان يحمل دلالات ثُنائية التجربة الإنسانية في مطلقها فهي مزيج من الحزنِ والفرح ،التشاؤم والتفاؤل ،الحُرية والدوجماطيقية ،المأساة والملهاة، وهو يشير إلى أننا بصدد معايشة حالة حقيقية، أو سيرة ذاتية فيها من الواقعية أكثر من الفانتازيا والمتخيل، وفيها الحكي الحكيم المؤسس على فلسفة الوجود وماهيته، والقوى التي تحركه والتي يسبق فيها الألم الأمل.
وتتناول روايةُ (شقي وسعيد) للروائي حسين عبدالرحيم معاناة أهل بورسعيد جراء الحرب، ومأساة تهجيرهم إلى محافظاتٍ بعيدة عن ألةِ الحربِ الغاشمة، وماواجهه المهجرون من أهوالٍ حتى وصلوا إلى مأمنهم، وأشير هنا إلى أن تيمة الحرب من التيمات الكلاسيكية القديمة التي سجلها التاريخ الإنساني في كل مراحلة منذ عرف الإنسان التدوين والفنون في عمومها والكتابه الأدبية بأجناسها المختلفة، ويمكننا أن ندعي وبوعيٍ تاريخي بأن الحَرب هي التيمة المهيمنة على الأعمال الأدبية والفنية للثقافات التاريخية الأولى :اليونانية والرومانية والعِبْرَانِية، ويظهر ذلك جلياً في الإلياذة والأوديسا لهومر، والإنياد لفيرجيل،حتى الملحمة السومرية القديمة جلجامش تتضمن معركة ملحمية مع قوة معادية يجب هزيمتها ، تذكرنا هذه الأعمال الأدبية والعديد من الأعمال الأخرى التي تمتد عبر القرون منذ العصر الكلاسيكي أن الحرب هي أمر ثابت في المجتمع وموضوع سيستمر في الضمير الجمعي للشعوب ولا يمكن أن تِتجاهلهُ الفنون أو الدراسات النقديه ، فهو تيمة عالمية مثل الحب والموت والزمن والضعف البشري وتلفتنا أيضاً إلى أن في الحروب الكل خاسر.
ويحاول أدب الحرب فهم تجربة الصراع/الحرب من خلال جميع الأجناس الأدبية بما في ذلك الشعر والدراما والقصص القصيرة والروايات والتاريخ الشفوي والمذكرات والرسائل, والأحداث الرئيسية لهذا الأدب تتم في ساحة المعركة أو محيطها أو في بيئة مدنية أو الجبهة الداخلية ، حيث تنشغل الشخصيات إما بالتحضير للحرب أو وصف معاناتها من آثارها أو مراحل التعافي منها ،ولم تخل حقبة زمنية عاشتها الإنسانية من أدبِ الحرب ،وفي القرن العشرين أَنتجت الحربين العالميتين الأولى والثانية عددًا غير مسبوق من رواياتِ الحرب لكتابٍ من جميع أطراف النزاع وواحدة من أولى هذه القصص وأكثرها تأثيراً كانت رواية (النار) التي كتبها الروائي والجندي الفرنسي هنري باربوس عام 1916والتي من خلالها هاجم العقيدة القومية وعدم الكفاءة العسكرية وكان من رواد الحركة المناهضة للحرب في الأدب الذي ازدهر بعد الحرب، وهناك أيضا رواية ريبيكا ويست (عودة الجندي) 1918 وجون دوس باسوس (الثلاثة جنود) 1921 ، و في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى ، تم التعامل مع موضوع الحرب في عدد متزايد من الروايات الحداثية ، والتي لم يكن الكثير منها روايات حرب بالمعنى التقليدي ، ولكنها تضمنت شخصيات أصيبت بصدمة نفسية واغتراب عن المجتمع تنبع مباشرة من تجارب زمن الحرب.
وعلى عكس روايات الحرب العالمية الأولى التي هيمن عليه الأوروبيون ، تم إنتاج روايات الحرب العالمية الثانية بأعداد كبيرة من قبل الكتاب الأمريكيين، ومن بين روايات الحرب الأمريكية الأكثر نجاحًا كانت روايات هيرمان ووك (تمرد كين)1951، ورواية جيمس جونز (من هنا إلى الأبد) 1951،هذا بالإضافة إلى (لمن تدق الأجراس) 1948 لإرنست هيمنجواي والتي تدور أحداثها في الحرب الأهلية الأسبانية ومن روايات الحرب الفرنسية المهمة الأخرى أيضا تلك التي كتبها بيير بول (الجسر فوق نهر كواي)1952 .
وأرى أن هذا التناول المعرفي والتاريخي المختصر لأدب الحرب هاماً بالنسبة لرواية (شقي وسعيد ) فهي تضع منتجنا الأدبي في سياق جنسه وفي تراث هذه التيمة الكلاسيكية، فنحن جزءاً من هذا التراث الإنساني ولابد أن نُدرج أنفسنا في محيطه الممتد، وفي ظلِ علاقةٍ خاصةٍ تربط الراوي بأمه “الصديقة”، التي أثار مشهد موتها شجونه، وفتح مخازن ذاكرته البعيدة على مصراعيها، تبدأ الرواية بخبر صادم مقصود “ماتت الصديقة” في تهيئة للقارئ بأنه بصدد حكي فيه من المعاناة أكثر مما فيه من الفرحِ والبهجة، فالأم هي الأرض والوطن وبغيابها تتأصل الغربة ويستوطن المنفى القلوب وتشيخ الموجودات وتفقد الأشياء مهما عزت بهجتها ” أتأمــل جســدها الُمســجى عــى طاولــة الصــاج البــاردة، الفاتــرة الرخيصة ،أتطلع علّنـي أتبيـن ثمـة ملامـح فـلا أرى، جسـد ضئيـل مغطى بقـمـاطٍ أبيــض ، أرتجــف مــا بـيـن رأســها وكتفهــا اليـسـرى..”
“الصديقة” هي تاريخه الموشوم على بوابات ذاكرته منذ ميلاده، والتي خلت من اللحظة الأنية وهجرت إلى صور وأحداث عاشاها معاً ومنذ اليوم الثالث عشر من ميلاده، وهو أمام جثة أمة المسجاة أمامه لم يتبق له إلا مشاهد الحرب والنفي والموت والفقد ” كانــت الأصــوات تــدوي في الفضــاءات وفي الشــوارع وفي الحــارات”، “نظـرت واجـماً لصواريـخ تهـوي قـرب حـي المنـاخ”، “مظــلات كاشــفة تســقط فــوق المقابــر في تحــركات سريعــة قبــل ك 56 راد، وأنــا أصرخ وأمــي تبـكـي في كبرياء” وفي مشاهد سنيمائية متحركة و متتالية برع عبدالرحيم في تصوير أجواء الذعر والرعب التي سيطرت على أسرته وأهل مدينته:
“الخلـق يفـرون إلى المخابئ، سكان عزبة فاروق والنحاس خلف الســكك الحديديــة، أمــي تلملــم حاجياتنــا: ملابــس رثــة وأخــرى نظيفـة، طاسـات وحلـل وأوعيـة مبتلـة، الصـراخ هـو كل مـا أذكـره، ذعـري، وضـع كفـي الصغيريتـن علـى أذني في هلـع.” وربما الوعي التاريخي لأحداث وطنه الخاصة وحركة التاريخ الإنساني وديناماكيته القائمة على الصراع هو الذي دفع الراوي إلى أن يتساءل “أسـأل نفـسي في خـرس: هـل عشـت حقًّـا ما مضـى، أم أنهـا أحـلام وغاصــت في كوابيــس زمــن آخــر عاشــه غـيـري، في رحلــة طويلــة تتكـرر تفاصيلهـا في كل عقـد؟ أظنهـا كانـت حيـوات أخـرى لبـشرٍ يشــبهونني!”
وصور الفرار من أهوال الحرب في بورسعيد يوم 5 يونيو كما رصدها الراوي لا تختلف كثيراً عن ما ورد في كل الروايات العالمية التي تناولت تيمة الحرب فالكل يدعو: “يارب روحة ورجعة بلا موت ولا حسرة” وتتوالى الأحداث وسط دموع الأمهات ووجوم الكبار، وأصوات النيران تصم الأذان ورائحة البارود تزكم الأنوف وتملأ الصدور وصور الدماء والقتل تسيطر على الأخيلة الدماغية وجميع مشاهد البؤس تتوالى بكثافة والفزع هو الشيطان الأكبر الذي يدفع إلى الجحيم وتسقط الصديقة بالحسين في الأرض المسفلتة اللزجة بجوار اللنش الذي يتأهب لمغادرة الميناء بالفارين من أهوال القصف إلى مناطق أكثر أماناً: ” وكانــت صرختــي الأولى التــي هــزت الكــون، ســقطت الصديقــة، تمــددت عــى ظهرهــا ببطــن شــبه عاريــة، تلطــم، تمســك رأســها ّ ورأسي، تحوطنــي وتتعــدد محــاولات يائســة للقبــض عـلـى الباقــي ً مـن جسـدي النحيـل، مذعـوراً كنـتُ، ينتفـخ قماطـي ممتلئا ً بهواء البحيـرة والغبـار” في رمزية حزينة فيها الغصة التي تشعل الغضب وربما توقد حرائق الحسرة على تعثر الوطن في خطوط المواجهة مع العدو والتي تركت أثارها الموجعة على بصمته التاريخية الفريدة ،السقوط كان مفاجئاً ومريعاً وغير محتمل من الأم والحسين الذي ” هـوى برأسـه في جـب المـاء الأسـود يسـتقبل مخلفـات اللنـش في زاويـة مـرسى البحيـرة” ولأن الأم هي الوطن فلم يفقد في كل أحواله حضوره وجماله وفي إعجاب أوديبي يتغزل الراوي في أمه في وصفٍ لا يصدر إلا من عاشقٍ مأخوذ بمعشوقته: ” عينيهـا الخضراويـن وشـعرها الأصهـب الطويـل، يرتـج قرطهـا، تـرن السلسـلة الذهبيـة، غليظـة بـرأس ثعبـان عينـه حمـراء، تتـدلى مـن نحرهــا حتــى مابــن ثدييهــا البيضاويــن، تركــض خلفــي في دلال في طريـق طويـل، أتأمـل ملامحهـا: عيناهـا، شـعرها، قامتهـا المتوسـطة الطــول، أنفهــا الصغــر، أذنيهــا التــي احمــرت فــزادت مــن فتنــة الوجـه و بهـاء الملامح..طلـة بـدر في حلـم ليلـة صيف.”
وينهج عبدالرحيم في روايته (شقي وسعيد) أسلوب تيار الوعي والتداعي الحر للأفكار والمونولوج الداخلي ويظهر ذلك في كل مراحل السرد في بنيته الأفقية والرأسية حيث اعتمد على خاصية التذكر التي عادة ما تكون من أعمال الذاكرة التي بدورها تعد جزءاً من الوعي، وهو البصيرة عند استرجاع الأحداث التي مضت ولم يبق إلا أثرها وومضها الذي يبرق في الذاكرة كلما تكدست الظلمات والأحوال التي تستدعيه، وفي تداع حر يكشف عن وجع قديم من محاولة “السايح” ،أحد شخصيات الرواية النازح مثلهم بعيدا عن ويلاتِ الحرب، الإعتداء جسدياً على “الصديقة” في المدرسة التي نقلوا إليها أولاً بعد الخروج من بيتهم، وهو نموذجاً لخونةِ الداخل والأنذال وقت الأزمات والمصائب ولا يخل زمان منهم: “لـو مضى بي العمـر والسـنين، لـو بلغـت مـن الحكمـة والتريـث والجـبـروت والدهــاء والجــرأة ماهــو مخــزون بوفــرة عنــد جــدي، ومــن الغشــم القليــل أو الكثـيـر القابــض عـلـى روح أبي حســانين لقتلــت ســايح البلطــي وصرخــت في أمــي أســألها عـمـا حــدث.”
وفي “18 شارع سعيد” في طلخا المدينة التي نقلوا إليها بعد التهجير والشارع الذي ليس اسماً على مسمى كما يقولون، يَستمر سيل الوعي في تدفقه “أقــول في نفـسـي، أي ســعيد هــذا وقــد غــاب أبي ســنوات فلــم أره لتـأتي أمـي بعـد غيـاب وتقابلنـي بالصفعـات أمـام أجمـل مـن رأت عينـي؟” في إشارة إلى أم هاشم جميلة الحارة التي أحبها الحسين وتعلق بها فكانت تعوض غربته وغياب أُمه وسفر أَبيه وربما رفاق المحنة أيضا، وهو يواسيها ويؤنس وحدتها على ظروفها القاسية، فهي وحيدة برفقة خالتها وأخيها المعاق بعدما ماتت أمها، ولكي تكتمل تراجيديا الغربة والحرب ولأن العدو ليس دائماً خارج حدودك الجغرافية فربما يكون عدو الداخل أشد قسوة وفتكاً وخسة من الغريب، وفي مشهد مزلزل لا يقل قسوة عن مشاهد الحرب الكبرى، تتسابق الأحداث وتستدعي الذاكرة طوفاناً تراجيدياً أخيراً “لأم هاشم” جارة الحسين في المنفى التي اغتصبها الكواء غير مكترث بصراخها وتوسلاتها والحسين خارج الحيطان العالية غير قادر على إنقاذها، فتحرق نفسها في مشهد فيه من الفظاعة التي تتوازى مع قسوة النفي والتهجير وذهبت أم هاشم :” في ذهـاب بـلاعـودة، مذعـور أنـا، جسـدي ينتفض،أنكمـش، أغـوص في درب سـعيد، أحـاول الهـروب مـن تلـك الشـجرة السـامقة التـي اشــتعلت فصــارت ترمــي بألــوان مــن لهيــب أزرق، كتــل اللحــم تتساقط من جسد مـلاكي المحترق “، وضعت “أم هاشم” نهاية لحياةٍ ألمتها ولم تحمِها وتتفاعل معها وتدعمها كما ينبغي وتأمر السلطات بالعودة إلى بورسعيد بعد سنوات من التهجير، ويصلها الحسين حزينا كما خرج منها فزعاّ ومرتبكاً، ليس ذلك فحسب بل وغريباً كما عاش غريباً في “18 شارع سعيد” فهي لاتعرفه ولا يعرفها: “في مدينـة غريبـة، لم أزل أسـعى لاسـتبيان ملامحهـا، وملامـح هـؤلاء البشـر مختلفـي الوجـوه.”
رواية (شقي وسعيد) هي نبش في الذاكرة متعدد الطبقات يحتاج إلى قراءاتٍ عدة وليست قراءة واحدة لكي نفتح جميع الغرف المغلقة،صحيح بمفتاحٍ واحد، ولكن الأبواب متعددة.