بقلم: د. سلوى جودة
عند تناول أي عمل أدبي ليس من المنطق أن تزعم أنك أحصيت كل الجوانبِ الإبداعية، وكل الأفكار التي يطرحها، وهذا بديهي، ولكن يُمكنك أن تمسك بتلابيب أحد الخيوط وتدعمها وتُقدمها إلى قارئٍ مُدرك بأولياتِ التمحيص والتفكيك والتأويل، فربما تُطور فهمه وتذوقه لجمالياتِ النص ومعانيه وفي “ندمُ المشيئةِ” لكمال عبد الحميد ومادبرهُ لنفسِه من نهاياتٍ، فنحن أمام حالة شعرية معرفية تبدو في قراءتِها الأولى سيرة ذاتية وموقفاً إنسانياً مهيباً، ولم أستطع عند قراءةِ النص أن أتجاهلَ هذا المعنى رغم محاولات عدة مني لتحييده، فأنا مع المدرسةِ التي لاتغفل الشاعر أو تتجاهله أو تعلن موته داخل نصه، فالشاعر يؤسس لحياتهِ وخلوده، فيما يكتب ويكشف عن مخزونِ خبراته وتجاربه بوعي أو بلا وعي، وربما يغوص أكثر فتنكشف له أصوله الأولى، وربما جيناته والصور الأولية التي حدثنا عنها كارل يونج في نظريةِ الأنماط الأولية.
ويأخذ كمال عبدالحميد قارئه من خلالِ ديوانه الرابع في مسيرةٍ امتدت لعقود إلى رحلة معرفية فيها التفلسف والصوفية وشعر الهايكو ولوحات مايكل أنجلو والمزامير والكارما والأساطير وريميديوس وأنوبيس ونصوص التوابيت المصرية القديمة وماياكوفسكي وأخماتوفا وإدجار آلان بو وفيها سائق التاكسي والشجر والكتب والمقاهي والبحر والشوارع والأرصفة والبشر والقطط والكلاب والنحل والذئاب والردارات والمستشفيات وحراس البنايات، ٍويستهل ديوانه بإهداءٍ إلى أمهِ ” إلى أمي هُناك حيثُ يكتفي الموتى بأرواحهمِ”، وكأنه يمهد للقارئ سياقاً درامياً تراجيدياً فيه البنية المكانية رغم غيبيتها وعدم تحديدها “هُناك” في إشارةٍ إلى العالمِ الأخر وفيها الشخصيات “الموتى” والبطل قد تكون “الأم” وإمتدادها.. وهذا الحضور الدرامي في النصوصِ ليس جديداً على الشعر الذي شهد علاقة عميقة الجذور بالدراما تعود إلى العصر اليوناني وكتاب أرسطو “الشعر” والدراما بالعصر الروماني حيث كانت اللغة الشعرية في الأعمالِ الدرامية هي السائدة، ومع ظهور الحركة الحداثية التي شهدها الشعر العربي في أواخرِ الأربعينيات وأوائل الخمسينيات ظهر الحضور الدرامي بعناصرهِ في نسيجِ القصيدةِ العربية الحديثة وتَعددت الأصوات والشخصيات ووجهات النظر بل واستفاد الشعر بالإضافةِ إلى الدراما من التقنياتِ الحديثة مثل المونتاج والسينيما والكولاج وعرف شعر الهايكو وتفاعل معه وهذا مابدأ به الشاعر كمال عبدالحميد الجزء الأول من ديوانه والذي استفتحة بقصيدة بتقنية الهايكو للشاعر الياباني ماتسوو باشو(1644-1694) كابتهالٍ وجداني في محرابِ الطبيعة وشطحات الصوفية وفي فقهِ الفوات: “مريض وقت ترحالي/ وأحلامي تتجوّل طافيةً/ في الحقولِ الذابلةِ”.
وفي حبكةٍ درامية يؤسس بها لأحداثٍ عظيمة يقدم في قصيدتهِ الأولى بعض الشخصيات التي سترافقنا في أحداثِ الديوان حتى النهايةَ: حبيبته المجهولة كالمرأة المجهولة في سونتاتِ شكسبير: “لم تكن تتكلّم كثيراً/لم تكن تخاف كلاب الشّوارعِ /تفعل ماتثرثر به الرّغبة /بلمسةٍ واحدةٍ”..وأمه :”ماتت أمي/ ذَهبتُ إلى حّافة البحر لأصرخ /كي لا أقتل نفسي” وطبيب الأورام :سألتُ طبيب الأورام :كيف تكون الجرعة قاتلة؟
وتتوالى ظهور الشخصيات على مسرحِ الديوان تباعاً ففي الجزءِ الأول يظهر والده: “في البيتِ الذي أستأجره /منذ ثلاث سنوات/سألت أبي في موتهِ فقال/ بالتجربةِ والوقتِ/ يتحايلُ القرويّون على البقاءِ/ وتخفُ نسبةُ السذاجةِ على الأرضِ/ وتصبحُ غابةً”ويَحضرني وسط هذا الزخم التصويري أحزان جون كيتس (1795-1821) وقصيدته “أغنية عن الحزن” ومايا أنجلو (1928-2014) عندما تسقط الأشجار العظيمة” وروزيتي (1828-1882) في “تذكر” وإيميلي ديكنسون في(1830-1886) ” لأنني لم أستطع التوقف عند الموت” فكل الأجواءِ في الجزءِ الأول من التقسيمِ الثلاثي للديوان تُوحي أيضاً بأن الحُزن أصيل منذ البداية الأولى والهبوط الأول وقصة الخلق: “الآن..مايدكِ؟/غير سقف الغرفةِ فوق سريري/كأنّها يدُ الله في ثلاّجة مايكل أنجلو” وتُحيلنا النصوص إلى شخصية عنيدة في مواجهةِ عدو معتدٍ أثيم يسبب ألم هائل موجع يُهدد الذات الشاعرة التي بدورها تحاول خلخلة بنيته فتضع عينيها في عينهِ بقوة في إشارةٍ إلى أنها لن تنهزم أو على الأقل لن تستسلم بسهولة: “ولأجلِ حكمةٍ ما/تتوالى القرابينُ بالحُبِ/ ويتكرَر البدءُ بلا مللٍ”, ويَتفنن الشاعر في تحريكِ الصورةِ الدراميةِ أمام القارئَ/المُشاهد لكي يُشاركة أجواءَ النص وأحوال رحلته الخاصة في الغربةِ والوحدةِ والألم واليتم، وكأنه أمام مشهد سينيمائي متحرك: “سنُدبّر أحوالنا بالغناءِ/نملأ الغرفة الوسيعة بالرقصِ/نفعل مالا يخطرُ ببالٍ/ونحن نضحك من قلبينا/ على مَنْ يتلصَّصُون مِنْ ثقبٍ في السياجِ”، فالغرفة واسعة والحبيبان يرقصان بفرح وحب وهناك عدو يتلصَّص بهما خلف السياج ربما هو الألم الذي تُفلسفه وتَتحداه الذاتُ الشاعرة ورُبما تَسخر منه فلقد إختبرته وتعرف بدايته ونهايته فهو عدو غير منظور ولكنَه معلوم وتستطيع أن تُصوره كأنها تراه: “فجأةً ..تأخذ ذراعاهُ هيئة جناحينِ/يحملانهِ إلى سحابةٍ جُهزتْ مُسبقاً لانتظارهِ وسط زغاريدَ مهلَّلة، يُمكن إعتبارها مؤثْراتٍ لائقةً بواقعيةٍ سحريَّةٍ لرحمةِ السَّماء” ولتأصيل الحضور الدرامي داخل النص فلقد كشف للقارئِ أكثر عن “ما هو فيه” في حوارٍ صريحٍ بلا توريةِ مع ممرضتهِ الأجنبية “ميديشكا كدراشوفاء وهي تسأله”: مابكَ/اهدأْ..أنتَ ناجٍ للتَّو من سرطانك, تعرفُ حدود النهاياتِ.اختبرتَ كيف تُؤكل أَجسادُنا من الداخلِ، “ويسقط في قلبِ القارئ نيزك بحجمِ وجع يكفي أمة من الموجوعين منذ اختبرَ الإنسان ماهية “الوجع” وتبكي “مديشكا” وتهطل دموعها من عيون القصيدةِ وعيوننا، وتتوالى الصور الدرامية ويتوالى الصراع بين الذاتَ الشاعره/البطل والموت وهو يَستحضر أُمه بجلبابِها الأزرق كما لو أنها “موجة نهر”: “فأقول لنفسي: “هذه أُمُّ لن تموتَ غرقاً/لن تموتَ حتماً/فقط ترتدي البحر كي نبتهج” وكأنه يطرح حواراً وجودياً في فقهِ الفواتِ لم يخل قلب بشر منه “فكان يجب أن لا تموتَ الأُمَّهات” وتتحرك الصورة التي تصلَ مُباشرة إلى الحواسِ وتستحوذ على القارئِ المتذوقِ فيُصبح عنصراً فاعلاً مشاركاً لا متلقياً سلبياً، فالصورة تجعله خالقاً لنفسهِ عوالم موازية لعالم القصيدةِ وهذا يَدخُل في إطار نظرية التلقي عند ياوس التي جاءت بمفاهيم المتلقي الضمني، وذخيرة النص وفراغات النص ومن هنا تَكتسب الصورةِ الشعرية من خلال هذا التفاعل الإيجابي في التلقي قيمتها ودلالتها, وتتوالى المشاهد الغنائية البصرية المفتوحة على الوعي بالعالمِ وفلسفة الوجود والقلب فيه مافيه وسيطرة الحزن والشجن على النص لايمكن تَجاهله فالدوامات متتالية والعمق مريع والسقوط يعني أن لاعودة :”أبكي خارج جسدي/على مقعدٍ خلفي لسيَّارة أُجرةٍ في ثرثرةٍ/افتراضيَّة على الهاتفِ/أمام كتلةِ نثرٍ سائلةٍ”، والتوظيف الدرامي أيضا لتقنية الفلاش باك السينيمائية حاضرة داخل النص ولو على المسرح ستكون مناجاة فردية على لسانِ البطل أو الكورس: “يأخذونكِ في عام وباءٍ/من سريركِ إلى أبي/أعني ماتبقَّى منهُ/ تُوضعينَ برفقٍ في تُرابهِ/وفي العتمةِ ذاتِهَا/كائناتُ لايُحتملُ تخيُّلها/أمام وجهكِ النائمِ/أمام اسْمك المُتعالي/ “خذي رأسكِ..اجمعي عظامكِ نَادِ أطرافكِ، انثري الغبار عن جسدكِ”/”قُومِي فأنتِ كبيرةٌ كي تنهضِي/”، وكأنه يُحفز قوى المقاومة في أعضاءهِ الحبلى بالألمِ كي تَستقيم فيلجأ لمصدر وجوده “للرب”: “لكلماتي أِصْغِ ياربُّ ..تأمَّل صُراخي” ولأمه حتى ولو سبقتهُ إلى الطيرانِ: “خُذيني كما أخذكِ أبي/بطريقتهِ التي لاتُرَد/ أَخبريهِ أنني عائشُ هنا/ في بطنِ حوتٍ نافقٍ/ مجَّانيّاً أمام كلّ جرادٍ/أنعقُ في مأتم لا نهائي/ كان يجب ألّا تموتَ الأُمَّهات”، وفي صورةٍ متحركةٍ أخرى في غرفتهِ بالمشفى رقم تو ناين ون تو (2912) تَخرجُ علينا الذات الشاعرة في مشهد سريالي يُعمق تراجيديا الحال الحاضرة فالبطل يرقُص عارياً في كهفهِ كغجري يَحتفي “بكائناتِ الفراغ” وهي تُجرب بشغفٍ “قفزةً مفاجئةً إلى المسرح” ولأن لابد لنا من تفسير للظواهر والأحداث حتى نرتاح فلا اطمئنان بلا فهم والعدل الإلهي لامحالة حاضر في وعيهِ وباستحضارِالكارما فهو يتمعن في تفاصيلِ الأشياء بحثاً عن الراحةِ ولسدِ جميع الثقوب التي أحدثتها الأيام الشاقة في روحهِ: “هكذا يُطوّقنا الموت المجاني/ليس عِقاباً مقدساً/أو تجسيداً جماعياً للكارما/بل كنوعٍ من الحبِّ/من البديهاتِ المنسيةِ/ربما الطبيعة/صرخةُ متناهٍ في الصِّغر/جُزئياتٌ تُغنّي في الهباءِ/كلُّ فراغٍ هو بيتٌ/كلُّ صمتٍ تربّصٌ/كلُّ طمأنينةٍ حمّالةُ أوجُهٍ.”
ولأن الصورة البصرية المتحركة سيطرت بجانبِ الدراما على الديوانِ فلم يخل النص من المونتاجِ أو التوليف بين هذه الصوروالتوليف له دلالة ذهنية يُثيرها التركيبُ المتقطع بين الجمل/الصور وهو صورة من صورِ الترابط الموضوعي أوالتداعي الحر بين المعاني, فالمعاني والدلالات التي يصل إليها المُتلقي يختلقها من اندماج تركيبين أو مشهدين غير متجانسين أو أكثر ويظهر ذلك في أكثرِ من موضعٍ داخل النص: “يد أبي تلوّحُ بسُمْرتِها في أولى النَّوائب /عينا أختي حزينتان في الرّماد كما كانتا أمام البيت/هذي عصا جدِّي تسوقُ بهائمه في العدم”,ثم يستدرج القارئ إلى صورةٍ أخرى: “يَقول الطبيبُ المُجَنَّسُ:خُذْ نَفَساً عميقاً ثم اكتمه/” ثم يَأخُذُك إلى مشهدٍ رابع أو خامس يُلملم فيه شجنه بين أبيات القصيدة محاولاً الهرب ولوعلى جناحِ يمامة مجروحه:” أقولُ لحبيبتي: كم تعلّمنا أن نتنفّسَ سرّاً/ ويَعودُ بِك إلى الطبيبِ: “انتبه سوف اضغط هنا بقوّة/هل ثّمة وجع في كُليَتِكِ اليسرى؟
ويستكمل بنفسِ تقنية التوليف حتى نهايةَ النص وكأن الذات الشاعرة تَعمدُ إلى تكثيف بيئة الألم والضغط عليها ومواجهتها بكل الأدواتِ الممكنة بل والبحث عن كبيرها الذي يُشعل الحريق بالجسد بأمل التعجيلِ بفنائِها والتملص منها:” مازلتُ أحفرُ/أستخرجُ الجثثَ/أنبشُ القبورَ وأتعرَّفُ إلى موتى نسيتُ أسماءَهم/ “، هو نبش في ذاكرةِ الألمِ الممتد وتتوارثها الأجيال فالتاريخ الإنساني منذ بدايته هو توثيق للألم والإنكسارات ولم يذكر المؤرخون حقبة خالية من البطل التراجيدي الذي دائماً موصوم بخطأٍ إنساني أوعلة غير مفهوم مصدرها ونهايته دائماً معجونة بالأسى والنفي والهجران ولو أحصينا الإنتاج الأدبي من التراجيديات في مقابل الكوميديا ربما نصل إلى دلالات ومعان للسلوك الإنساني في علاقته بالأحداث والسياسة والإنكسارات الكبرى.
“ندمُ المشيئةِ” لكمال عبد الحميد هي ثلاثية من القصائدِ الدرامية البصرية التي يمكن مشاهدتها وقراءتها والتي تمتلك إيقاعها من خلالِ أحداثٍ غنائية وليست بكائية على خمسة عقود من الإختباراتِ والخياراتِ وليست رثاء على أيامٍ خلت وعلى جرح الفقد الذي لايندمل ، فالصعيدي كما قال عبدالحميد في نصهِ النثري الأنيق حد الكبرياء لايبكي إلا عند الشدائد “والبكاء درجات فإن الجنوبي لايصل آخرها بالعويل والصياح, إنه فقط ومستسلماً لضعفٍ طاغٍ يكتفي بدرجات أولى من البكاء,أعني ترقرق الدمع في العيون” ولو عدنا للرأي الأرسطي في ملح الدموع فسنجده المطهر بلا ندم والمحصن بلا كأبة والمنجي بل شفاعة والمتوج لأيامٍ قادمة أكثر سلاماً وحضوراً فلقد تخلَصَّت النفس من أدرانهاِ,إنها شئ كالصلاة أن تَعود إلى صفحتكِ البيضاء بعد أن غسلت أَعيُن قصائدك في ماءِ روحك الذي يمتد من السابعة سمواً وانتصاراً وبهاءً ونحنُ معك.