رأىسلايدر

د. بهاء عبدالمجيد.. قطعة السكر التي ذابت

استمع الي المقالة

د. سلوى جودة تكتب

أكاديمية مصرية

في ذكراه الثانية قررت أن لا أكتب مرثية فليس لدي مايكفي من دموع بل سأكتب عنك ياصديقي بما تملية أمانة الرفقة الطيبة وأنا بكامل أناقتي الروحية ..بهاء عبدالمجيد الذي رأيته لأول مرة منذ ثلاثة عقود حين دخل علينا القاعة شاب بملامح أوروبية وبشامة ذهبية على رأسة من الخلف يسير بخطوات هادئة متأملة وبملابس مرتبة وبابتسامة ودوده بريئة لم تفارقه يوما- ترى كيف استطعت ان تحتفظ بطفولتك حتى النهاية؟ – لم نعرف يوما إنه إنخرط مع الرفاق في الصف في أي مشكلات طائشة أو تصرف يخلو من أرستقراطية, كان حريصا على النقاش وعلى الفهم فلاتراه إلا بيده كتاب وورده -فهل كنت تشعر أنك في زيارة قصيرة ولهذا كنت حريصا على استنشاق الزهور على طول الطريق؟- بهاء أمير الورود وراعيها وعاشقها ولد في بيت ترعاه ملائكة البساتين,فهو ابن شارع الترعة بحي شبرا والذي كان يفخر بإنتمائه له ولأسرته المحبة المترابطة التي لايمل الجديث عنها ففي هذا البيت تعلم كيف ينحاز للجانب الرقيق في هذه الحياه: الفنون.. الكتب..الورود..الشاي.. الإبتسامات والرفاق الطيبين وهو حبيب النوافذ المشرعة التي يدخل منها النور والتغاريد والنسائم وضحكات الجيران..

وهو المتفوق بمذاق المبدع الذي يغوص في النص ليخرج اللؤلؤ البراق من محاره ودائما ما كان يُفاجئنا بقراءته الإنسانية التي تعظم التسامي والتسامح والمحبات المطلقة لكل الموجودات,هو في الحقيقة كان يُقرأنا نفسه البريئة المسالمة,كان أكثرنا فهماً ووعياً بأن لاشئ في هذه الحياة يستحق التقاتل والقنبلة والتصارع فلايرد على متنمر ولايحمل في قلبه ضغينة لأحد- لعلك كنت تشعر بأنه ليس لديك وقت كاف لمثل هذه الصغائر فمهمتك عظيمة في وقتٍ ليس بطويل- لقد جئت ياصديقي متأخراً حسب توقيت الرسالات ولكنها الأقدار تُحدد معالم الطريق وترسم الخطى وتَعدنا للنهايات.

عند عودتي من سفرتي البعيدة التي إمتدت لسنوات طويلة جلس معي وحدثني دامعاً عن انتقال والده وماتركه في نفسه من حزن لايندمل – كان طفلا كبيرا يشكو غياب والده وحضرني الجواهري وهو ينشد حزيناً “لاتبخسوا قدر الدموع فإنها دفع الهموم تفيض من ينبوع” وشكى من تجاهل البعض له وأنه يحلم بجائزة كبيرة لإجتهاده الأدبي فلقد صدر له اكثر من سبع روايات غير القصص القصيرة والمقالات والترجمات -لاتحزن ياصديقي إن تجاوزوك فمثلك لؤلؤة هذا العالم وأُنسه وانسجامه واخرج يدك من جيب معطفك فهي بيضاء من غير سوء فالقلب الذي يتلألأ بالنبل ليس بحاجة إلى وسام فوقه.

ويدخل بهاء إلى قاعة الدرس وفي صدره الكثيرمن الأحاديث المكدثة عن قيمة الفنون والآداب وعن حق الإنسان في الفهم وفي السعادة فوجود ولو انسان واحد حزين هو خسارة كبيرة للسعادة بل وخسارة فادحة للحياة فيأخذ طلابه في رحلة روحية لمحيط من التأمل والإتساع يعودون منه بنفس فرحة فضفاضة متسامية متسامحة تقبل الأخروتقدر الجمال ولا تلتفت لتوافه الأمور,كان في قلبه الكثير من المحبة والفرح هكذا كان يفهم الحياة بأن الله لم يخلق البشر لكي يطلقوا الرصاص على بعضهم بل خلقهم للحب وللمودات الكبيرة فهؤلاء المحبون من يقنعون الجلنار بلئم الشتاء ومن اجلهم تصحو العصافير الخضراء الرنانة وتجوب السماء ومن اجلهم تعيد الاشجار دورتها وتخرج زهور السوسن وتتحول الأضلاع لأوتار والقلوب لأصابع تعزف ألحان الصفو والنقاء,كان يؤول كل حرف ترتعش فيه خفقة الحياة لإن الإنسان هو رصيد الحياة الأبقى, فمن اراد الهروب من القبح فكانت وجهته لك فكنت كمزن السماء أمطارك عطاءات المحبة.. نراك يارفيقي كلما اشتممنا رائحة الأحباب ومررنا على مواضع النور وآيات الجمال وضحكات الصغارفأنت ابتسامة الصفو في وجه هذا العالم ثقيل الظل أحيانا على حد قول درويش.

تفتقدك جدران القاعات وطلابك والقصائد التي تبكيك ونسميها أغنية والطرقات التي غرست فيها محبتك وشجر الطريق الذي كلما مررت به قال “سلام سلام”.

و اليوم وقد مررت من معابر النبلاء وأصحاب القلوب الحريرية ورأيت من الجمال مالا أذن سمعت ولا عين رأت ولاخطر على قلب بشر وصعدت سلم النورواستقبلتك اللوتسيات وهي ترفع أكفها بالدعاء وأسرعت إليك جموع عباد الشمس وانحنت مرحبة أشجار السرو والصنوباريات والسنديان وامتدت يد الغلمان بأطواق الياسمين فسأنشد لك باللغة التي أحببتها ورافقتك لسنوات طويلة “لا وداع”

No farewell words were spoken

No time to say good-bye

You were gone before I knew it

And only God knows why.

My heart still aches in sadness

And secret tears still flow

What it meant to lose you

No one will ever know.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى